وبعد أن ساقت السورة الكريمة قبل ذلك ما ساقت من تشريعات حكيمة ومن تفصيل لأحوال أهل الكتاب وعقائدهم الزائفة . بعد كل ذلك اتجهت السورة في أواخرها إلى الكلام عن أحوال الناس يوم القيامة وعن معجزات عيسى - عليه السلام - وعن موقف الحواريين منه . قال - تعالى :
{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أن عادة الله تعالى - جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إما بالإِلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر - فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة .
أحدهما : أنها متصلة بما قبلها والتقدير : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل - فيكون قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل اشتمال من قوله في الآية السابقة { واتقوا الله } والقول الثاني : أنها منقطعة عما قبلها والتقدير :
اذكروا { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } .
والمعنى : لقد سقنا لكم - أيها الناس - ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب ، فمن الواجب عليهك أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه ، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام . في شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم : ماذا أجبتم من أقوامكم ؟
أي : ما الإِجابة التي أجابكم بها أقوامكم ؟
وخص - سبحانه - الرسل بالذكر - مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة - لإِظهار شرفهم وللإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم .
وقال - سبحانه - { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } ولم يقل - مثلا - " هل بلغتم رسالتي أولا " ؟ للإِشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة .
وقوله : { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } حكاية لاجابة الرسل فإن قيل : لماذا نفوا عن أنفسهم لاعلم مع أن عندهم بعض العلم ؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأديب مع الله - تعالى - فكأنهم يقولون : لا علم لنا يذكر بجانب عليمك المحيط بكل شيء ، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا ، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر ، أما علمك أنت - يا ربنا - فشامل للظواهر والبواطن ، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكي والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم . أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس ، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم .
ورحم الله صاحب الكشاف قد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال :
فإن قلت : ما معنى سؤالهم ؟ قلت : توبيخ قومهم . كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : " لا علم لنا وقد عملوا بما أجيبوا ؟ " .
قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم - أي : بما ابتلوا به منهم - ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهارا للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفت في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم . ومثاله : أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه . فجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي ؟ - وهو عالم بما فعل به - يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي ، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه ، وإظهارا للكشاية وتعظيما لما حل به منه - ولله المثل الأعلى - وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم .
وقيل معناه : علمنا ساقط مع علمك ومغمور ، لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم .
وقيل معناه : " لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ، وكيف يخفي عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجه موبخين " .
هذا الدرس بطوله بقية في تصحيح العقيدة ؛ وتقويم ما دخل عليها عند النصارى من انحرافات أخرجتها عن أصلها السماوي عند قاعدتها الأساسية . إذ أخرجتها من التوحيد المطلق الذي جاء به عيسى - عليه السلام - كما جاء به كل رسول قبله ، إلى ألوان من الشرك ، لا علاقة لها أصلاً بدين الله .
ومن ثم فإن هذا الدرس كذلك يستهدف تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - كما هي في التصور الإسلامي - تقرير هذه الحقيقة من خلال هذا المشهد العظيم الذي يعرضه ؛ والذي يقرر فيه عيسى - عليه السلام - على ملأ من الرسل ، ومن البشر جميعاً ، أنه لم يقل لقومه شيئا مما زعموه من ألوهيته ومن تأليه أمه ؛ وأنه ما كان له أن يقول من هذا الشرك كله شيئاً !
والسياق القرآني يعرض هذه الحقيقة في مشهد تصويري من " مشاهد القيامة " التي يعرضها القرآن الكريم عرضاً حياً ناطقاً ، موحياً مؤثراً ، عميق التأثير ، يهتز له الكيان البشري وهو يتلقاه كأنما يشهده اللحظة في الواقع المنظور . الواقع الذي تراه العين ، وتسمعه الأذن . وتتجلى فيه الانفعالات والسمات النابضة بالحياة
فها نحن أولاء أمام المشهد العظيم :
{ يوم يجمع الله الرسل ، فيقول ماذا أجبتم ؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } : يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره ؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته ؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام ؛ حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان . .
هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعاً ؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا ؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .
وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة :
{ يوم يجمع الله الرسل . فيقول : ماذا أجبتم ؟ } .
{ ماذا أجبتم ؟ } . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد .
{ ماذا أجبتم ؟ } . . والرسل بشر من البشر ؛ لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر .
لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى ؛ فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف ؛ والذي يهابونه أشد من يهاب ؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير . إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها ؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله ؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون .
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده ؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدبا وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة ، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] وقال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] .
وقول الرسل : { لا عِلْمَ لَنَا } قال مجاهد ، والحسن البصري ، والسُّدِّي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم .
قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } فيفزعون فيقولون : { لا عِلْمَ لَنَا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حَكَّام ، حدثنا عَنْبَسَة قال : سمعت شيخًا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } الآية ، قال : من هول ذلك اليوم .
وقال أسباط ، عن السُّدِّي : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك : أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا على قومهم . رواه ابن جرير .
ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يقولون للرب ، عز وجل : لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا .
رواه ابن جرير . ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة{[10520]} ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب ، عز وجل ، أي : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره ، لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء . فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم ، فإنك { أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
وقوله تعالى : { ويوم يجمع الله الرسل } ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في { يوم } ما تقدم من قوله { لا يهدي } ، وذلك ضعيف ، ورصف الآية وبراعتها ، إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً ، والعامل مقدر إما اذكروا وإما تذكروا وإما احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع ، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة ، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق ، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً و { ماذا أجبتم } معناه ماذا أجابت به الأمم من إيمان أو كفر وطاعة أو عصيان ، وهذا السؤال للأنبياء الرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور . واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام { لا علم لنا } فقال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع ، وذكر عن الحسن أنه قال : لا علم لنا من هول ذلك اليوم . وعن السدي أنه قال : نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فقالوا لا علم لنا . ثم نزلوا منزلاً آخر شهدوا على قومهم ، وعن مجاهد أنه قال : يفزعون فيقولون لا علم لنا .
قال القاضي أبو محمد : وضعّف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى : { لا يحزنهم الفزع الأكبر }{[4788]} والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة وحالة جواز الصراط يقولون سلم سلم وحالهم أعظم وفضل الله عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : معنى الآية لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم به منا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية ، وقال ابن جريج : معنى ماذا أجبتم ؟ ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا ؟ فلذلك قالوا لا علم لنا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى حسن في نفسه ، ويؤيده قوله تعالى : { إنك أنت علام الغيوب } لكن لفظة { أجبتم } لا تساعد قول ابن جريج إلا على كره ، وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى ورد الأمر إليه ، إذ قوله { ماذا أجبتم } لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم ، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه ، وما ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال . فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط وقرأ أبو حيوة «ماذا أَجبتم » بفتح الهمزة .