ثم بين لهم - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكراً له ، وطاعة لأمره فقال - تعالى - : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } ، أي يوم بدر . روى أن أصحاب رسلو الله - صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر .
ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال : قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك . فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده . .
وقال ابن كثير : قال على بن طلحة عن ابن عباس : " رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، يديه - يعنى يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا ، فقال جبريل : " خذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم " فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم " ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين .
وقال السدى : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى يوم بدر " أعطنى حصا من الأرض " فناوله حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم " ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .
وقال أبو معشر المدنى " عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظى قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضه من تراب فرمى بها في جوه القوم وقال : " شاهت الوجوه " ، فدخلت في أعينهم كلهم . وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله .
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } .
وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله - تعالى - { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } المقصود به رميه - صلى الله عليه وسلم - لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في غزوة خيبر ، أو رميه المشركين في غزوة حنين .
قال ابن كثير : وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر . . وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم .
والمعنى : إنكم - أيها المؤمنون - لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم ، ولكن الله - تعالى - هو الذي أفظركم بحوله وقوته ، بأن خذلهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وقوى قلوبكم ، وأمدك بالملائكة ، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر .
والفاء في قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ . . } يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم { ولكن الله قَتَلَهُمْ } لأنه و الذي أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع .
وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين .
أى : { وَمَا رَمَيْتَ } بالرعب في قلوب الأعداء { إِذْ رَمَيْتَ } في وجوههم بالحصباء يوم بدر { ولكن الله } - تعالى - هو الذي { رمى } بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم .
أو المعنى : ما أوصلت الحصبا إلى أعينهم إذ رميتهم بها ، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : يعنى أن الرمية التي رميتها - يا محمد - لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم . . فأثبت الرمية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله - عز وجل - ، فكان الله - تعالى - هو فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلا .
وقال الآلوسى : واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه - تعالى - وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإِمام : أثبت - سبحانه - كونه - صلى الله عليه وسلم - راميا ، فوجب حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كسبا ، والله - تعالى - رمى خلقا .
فإن قيل : لماذا ذرك مفعول القتل منفياً ومثبتاً ولم يذكر للرمى مفعول قط ؟
فالجواب - كما يقول أبو السعود - : " أن المقصود الأصلى بيان حال الرمى نفيا وإثباتا ، إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر ، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عينى كل واحد من أولئك الأمة الجمة شئ من ذلك .
وقوله - سبحانه - : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً } بيان لبعض وجوه حكمته - سبحانه - في خذلان الكافرين ، ونصر المؤمنين .
وقوله { لِيُبْلِيَ } من البلاء بمعنى الاختبار . وهو يكون بالنعمة لإِظهار الشكر ، كما يكون بالمحنة لإِظهار الصبر . والمراد به هنا : الإِحسان والنعمة والعطاء ، ليزداد المؤمنون شكراً لربهم لاذى وهبهم ما وهب من نعم .
واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر .
والمعنى ، ولكى يحسن - سبحانه - إلى عباده المؤمنين ، وينعم عليهم بالنصر والغنائم ، ليزدادوا شكراً له ، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم .
وقوله { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الحض على طاعة الله ، والتحذير من معصيته ، أى : إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم ، عليم بضمائركم وقلوبكم ، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره .
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ؛ وتقتل لهم أعداءهم ، وترمي لهم وتصيب . . . وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء ، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه :
( فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم ) . .
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [ ص ] في وجوه الكفار ، وهو يقول : " شاهت الوجوه . شاهت الوجوه " فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .
ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي [ ص ] والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى :
( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) . .
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر ، بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .
يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ؛ ويجعلكم ستارا لقدرته ، متى علم منكم الخلوص له ؛ ويعطيكم النصر والأجر . . كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد ، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير ؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ؛ ولهذا قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي : ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، أي : بل هو الذي أظفركم [ بهم ونصركم ]{[12764]} عليهم كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] } [ آل عمران : 123 ] . {[12765]} وقال تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] يعلم - تبارك وتعالى - أن النصر ليس عن كثرة العدد ، ولا بلبس اللأمة والعدد ، وإنما النصر من عند الله تعالى{[12766]} كما قال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 249 ] .
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب ، التي حصب بها وجوه المشركين{[12767]} يوم بدر ، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : " شاهت الوجوه " . ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[12768]} { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أي : هو الذي بلغ ذلك إليهم ، وكبتهم بها لا أنت .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه - يعني يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد في الأرض أبدا " . فقال له جبريل : " خذ قبضة من التراب ، فارم بها في وجوههم " فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين .
وقال السُّدِّيّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ، رضي الله عنه ، يوم بدر : " أعطني حصبا من الأرض " .
فناوله حصبا{[12769]} عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون{[12770]} يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }
وقال أبو معشر المدني ، عن محمد بن قَيْس ومحمد بن كعب القُرَظِي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب ، فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : " شاهت الوجوه " . فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[12771]} يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رَمْية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله [ تعالى ]{[12772]} { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة [ في ]{[12773]} ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : " شاهت الوجوه " ، فانهزموا .
وقد روي في هذه القصة{[12774]} عن عروة بن الزبير ، ومجاهد وعكرمة ، وقتادة وغير واحد من الأئمة : أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا{[12775]}
غريب من هذا الوجه . وهاهنا قولان آخران غريبان جدا .
أحدهما : قال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعا بقوس ، فأتى بقوس طويلة ، وقال : " جيئوني غيرها " . فجاؤوا بقوس كبداء ، فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }{[12776]}
وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم ، والله أعلم .
والثاني : روى ابن جرير أيضا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا أنزلت{[12777]} في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أُبَي بن خلف بالحربة وهو في لأمته ، فخدشه في ترقوته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا ، حتى كانت وفاته [ بها ]{[12778]} بعد أيام ، قاسى فيها العذاب الأليم ، موصولا بعذاب البرزخ ، المتصل بعذاب الآخرة{[12779]}
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها ، لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } أي : ليُعَرّف المؤمنين من نعمته عليهم ، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته .
وهكذا فسر{[12780]} ذلك ابن جرير أيضا . وفي الحديث : " وكل بلاء حسن أبلانا " .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع الدعاء ، عليم بمن يستحق النصر والغلب .
{ فلم تقتلوهم } بقوتكم . { ولكن الله قتلهم } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم . روي : أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت . والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . { وما رميت } يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه . { إذ رميت } أي إذ أتيت بصورة الرمي . { ولكنّ الله رمى } أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه . وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم . وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات . أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { ولكن } بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين . { وليُبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل . { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم . { عليم } بنياتهم وأحوالهم .
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } .
الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } [ الأنفال : 12 ] تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره والأكثر أن يكون شرطاً فتكون رابطة لجوابه ، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقَطْع إيديهم فلَمْ تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم ، وإلى هذا يشير كلام صاحب « الكشاف » هنا وتبعه صاحب « المفتاح » في آخر باب النهي .
ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة : { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذي كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عَددا وعُدة ، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول ، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلاً من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلاً وتوجيهاً لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار . ولأَمْرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله : { واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ] فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم ، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار ، لأنه يقطع عذر المتولين والفارين ، ولذلك قال الله تعالى في وقعة أحد : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمْعانِ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } [ آل عمران : 155 ] .
وإذ قد تضمنت الجملة إخباراً عن حالة أفعال فعلها المخاطبون ، كان المقصود اعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضَرب سيوف المسلمين ، فأنباهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بإبطال ذوي شجاعة ، وذوي شوكة وشِكّة ، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صورياً ، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعلَ الله تعالى الخارقَ للعادة ، فالمنفي هو الضرب الكائنُ سببَ القتل في العادة ، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذٍ معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وكرامة لأصحابه ، وليس المنفي تأثير الضرب في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر ، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل ، في جاهلية أو إسلام ، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا . وليس السياق لتعليم العقيدة الحق .
وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه ، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلاً فلذلك صح النفي في قوله : { فلم تقتلوهم } مع كون القتل حاصلاً ، وإنما المنفي كونه صادراً عن أسبابهم .
ووجه الاستدراك المفاد ب { لكن } أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادراً عن المخاطبين فكانَ السامعُ بحيث يتطلب أكان القتلُ حقيقة أم هو دون القتل ، ومَن كان فاعلاً له ، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله : { ولكن الله قتلهم } .
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : { ولكن الله قتلهم } دون أن يقال ولكن قتلهم الله ، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص ، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي ، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهمّاً عندهم تعجيل العلم به .
{ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }
استطراد بذكر تأييد إلهي آخرَ لم يُجر له ذكر في الكلام السابق ، وهو إشارة إلى ما ذكره المفسرون وابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرّض المؤمنين على القتال يوم بدر أتاه جبريل فقال خذ قُبْضة من تراب فارمهم بها فأخذ حفنة من الحصاء فاستقبل بها المشركين ثم قال : « شاهت الوجوه » ثم نفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال : شُدوا فكانت الهزيمة على المشركين ، وقال غيره لم يبق مشرك إلا أصابه شيء من الحصا في عينيه فشغل بعينيه فانهزموا ، فلكون الرمي قصة مشهورة بينهم حذف مفعول الرمي في المواضع الثلاثة ، وهذا أصح الروايات ، والمراد بالرمي رمي الحصباء في وجوه المشركين يوم بدر ، وفيه روايات أخرى لا تناسب مهيع السورة ، فالخطاب في قوله : { رميت } للنبيء صلى الله عليه وسلم .
والرمي حقيقته إلقاء شيء أمسكتْه اليد ، ويطلق الرمي على الإصابة بسوء من فِعل أو قول كما في قول النابغة :
رمَى الله في تلك الأكفِ الكَوانع
أي أصابها بما يُشلها وقول جميل :
رمَى الله في عيني بُثينة بالقذى *** وفي الغُر من أنيابها بالقوازح
وقوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } [ النور : 6 ] فيجوز أن يكون { رميتَ } الأول وقولَه : { ولكن الله رمى } مستعملين في معناهما المجازي أي وما أصبت أعينَهم بالقذى ولكن الله أصابها به لأنها إصابة خارقة للعادة فهي معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وكرامة لأهل بدر فنفيت عن الرمي المعتاد وأسندت إلى الله لأنها بتقدير خفي من الله ، ويكون قوله : { إذ رميت } مستعملاً في معناه الحقيقي ، وفي « القرطبي » عن ثعلب أن المعنى وما رميتَ الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا ، وفيه عن أبي عبيدة أن ( رميتَ ) الأول والثاني ، و ( رمى ) مستعملة في معانيها الحقيقية ، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين وجعلوا المنفي هو الرمي الحقيقي والمثبت في قوله : { إذ رميت } هو الرمي المجازي وجعله السكاكي من الحقيقة والمجاز العقليين فجعل ما رميت نفياً للرمي الحقيقي وجعل ( إذ رميت ) للرمي المجازي .
وقوله : { إذ رميت } زيادة تقييد للرمي وأنه الرمي المعروف المشهور ، وإنما احتيج إليه في هذا الخبر ولم يؤت بمثله في قوله : { فلم تَقتلوهم } لأن القتل لما كانت له أسباب كثيرة كان اختصاص سيوف المسلمين بتأثيره غير مشاهد ، وكان من المعلوم أن الموت قد يحصل من غير فعل فاعل غيرِ الله ، لم يكن نفي ذلك التأثير ، وإسناد حصوله إلى مجرد فعل الله محتاجاً إلى التأكيد بخلاف كون رمي الحصى الحاصل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم حاصلاً منه ، فإن ذلك أمر مشاهد لا يقبل الاحتمال ، فاحتيج في نفيه إلى التأكيد إبطالاً لاحتمال المجاز في النفي بأن يُحمل على نفي رمي كامل ، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يَجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار ، كقول عباس بن مرداس :
أي شيئاً مجدياً ، فدل قوله : { إذ رميت } على أن المراد بالنفي في قوله : { وما رميت } هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه ، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله : { فلم تقتلوهم } لأن الرمي واقع من يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد نفي تأثيره ، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد ، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية ، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم ، عُلم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف ، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله : { ولكن الله رمى } كالقول في { ولكن الله قتلهم } .
وقرأ نافع والجمهور { ولكن } بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بسكون النون فيهما .
{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ، إن الله سميع عليم }
عطف على محذوف يؤذن به قوله : { فلم تقتلوهم } الآية وقوله { وما رميت } الآية .
فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية ، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاءً حسناً أي يعطيهم عطاءً حسناً يشكرونه عليه ، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها ، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنةُ في الآخرة .
وأعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريفُ هذا الفعل أغفله الراغب في « المفردات » ومن رأيتُ من المفسرين ، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحداً بشيء يظهر به مقدار تأثره ، والغالب أن الإصابة بشرّ ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى : { ونبلُوكم بالشر والخير فتنةً } [ الأنبياء : 35 ] وهو إطلاق كنائي وشاع ذلك الإطلاق الكنائي حتى صار بمنزلة المعنى الصريح ، وبقي الفعل المجرد صالحاً للإصابة بالشر والخير ، واستعملوا أبلاه مهموز أي أصابةُ بخير قال ابن قتيبة : « يقال من الخير أبليته إبلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاءً » .
قلت : جعلوا الهمزة فيه دالة على الإزالة أي إزالة البلاء الذي غلب في إصابة الشر ولهذا قال تعالى : { بلاء حسناً } وهو مفعول مطلق لفعل يُبليَ موكد له ، لأن فعل يبلي دال على بلاء حسن وضمير { منه } عائد إلى اسم الجلالة و ( من ) الابتداء المجازي لتشريف ذلك الإبلاء ويجوز عود الضمير إلى المذكور من القتل والرمي ويكون ( من ) للتعليل والسببية .
وقوله : { إن الله سميع عليم } تذييل للكلام و ( إن ) هذا مقيدة للتعليل والربط أي فعل ذلك لأنه سميع عليم ، فقد سمع دعاء المؤمنين واستغاثتهم وعلم أنهم لعنايته ونصره فقبل دعاءهم ونصرهم .