وبعد أن قررت السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين ، وأمرت بالوفاء بمن وفى بعهده منهم . . بعد كل ذلك أخذت في بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء المهلة الممنوحة هلم فقال - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر . . . . } .
وقوله : { انسلخ } من السلخ بمعنى الكشط ، يقال : سلخ الإِهاب عن الشاة يسلخه ويسلخه سلخا إذا كشطه ونزعه عنها . أو بمعنى الإِخراج من قولهم : سلخت الشاة عن الإِهاب إذا أخرجتها منه ، ثم استعير للانقضاء والانتهاء فانسلاخ الأشهر إستعارة لانقضائها والخروج منها .
قال الآلوسى : والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة ، وذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمل الجلد على الحيوان ، وكذا كل جزء من أجزاءه الممتدة كالأيام والشهور والسنين ، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه ، وفى ذلك ميزد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزاً لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدى المسلمين فنيط قتالهم بزوالها .
والمراد بالأشهر الحرم : أشهر الأمان الأربعة التي سبق ذكرها في قوله ، تعالى ، { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } وعليه فتكون أى في قوله { الأشهر الحرم } للعهد الذكرى .
وسميت حرما لأنه . سبحانه . جعلها فترة أمان للمشركين ، ونهى المؤمنين عن التعرض لهم فيها .
ووضع - سبحانه - المظهر موضع المضمر حيث لم يقل فإذا انسلخت ، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من ميزيد الاعتناء بشأنها .
وقيل المراد بالأشهر الحرم هنا : الأشهر المعروفة وهى رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير .
قال ابن كثير : وفيه نظر ، والذى يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفى عنه وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، وابن إسحاق ، وقتادة والسدى وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر التيسير الأربعة المنصوص عليها بقوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ثم قال { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } أى : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرنما عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها حيثما وجدتموهم فاقتلوهم ، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتى بيان حكمها في آية أخرى وهى قوله - تعالى - { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً . . . } والمراد بالمشركين في قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أولئك الخائنون الذين انتهت مدة الأمان لهم ، أما الذين لم يخونوا ولهم عهود مؤقتة بمدة معينة فلا يحل للمسلمين قتالهم ، إلا بعد انتهاء هذه المدة ، كما سبق أن بينا قبل قليل تفسير قوله - تعالى - : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } والمعنى : فإذا انتهت هذه الأشهر الأربعة التي جعلها مهلة للخائنين ، فاقتلوا - أيها المؤمنون - أعداءكم المشركين { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أى : في أى مكان تجدونهم فيه { وَخُذُوهُمْ } وهو كناية عن السر ، وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ ، { واحصروهم } أى : وامنعوهم من الخروج إذا كانت مصحلتكم في ذلك { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } والمرصد الموضع الذي يقعد فيه للعدو لمراقبته ، يقال : رصدت الشئ أرصده رصدا ورصَدا إذا ترقبته .
والمعنى : واقعدوا لهم في كل موضع يجتازون منه في أسفارهم ، حتى تسد السبل في وجوههم ، وتضعف شوكتهم ، وتذهب ريحهم ، فيستسلموا لكم .
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يرى أن هذه الوسائل الأربع - القتل والأسر والمحاصرة والمراقبة - هي الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء ، ولا يخلو عصر من العصور من استعمال بعضها أو كلها عند المهاجمة .
هكذا نرى تعاليم الإِسلام تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة لكيد أعدائهم ، والعمل على هزيمتهم . . ما دام هؤلاء الأعداء مستمرين في ضغانيهم وعدوانهم وانتهاكهم لحدود الله - تعالى - .
أما إذا فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له ، فإن الآية الكريمة ترفع عنهم السيف ، وتأمر المؤمنين بإخلاء سبيلهم .
استمع إلى بقيتها حيث تقول : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى : عليكم - أيها المؤمنون - إذا ما انتهت أشهر الأمان الأربعة أن تقتلوا المشركين الناكثين لعهودهم أينما وجدتموهم وأن تأسروهم وتبسوهم وتراقبوهم على كل طريق حتى تضعف شوكتهم فيناقدوا لكم . . { فَإِن تَابُواْ } عن الشرك بأن دخلوا في الإِسلام فاتركوا التعرض لهم ، وكفوا عن قتالهم ، وافتحوا المسالك والطرق في وجوههم .
واكتفى - سبحانه - بذكر الصلاة والزكاة عن ذكر بقية العبادات ، لكونهما الأساسين للعبادات البدنية والمالية .
وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به التعليل لوجوب إخلاء سبيلهم أى ، إن فعلوا ذلك فخلوا سبيلهم ، ولا تعاملوهم بما كان منهم من شرك ، فإن الإِسلام يجُب ما قبله ، وإن الله قد غفر لهم ما سلف من الكفر والغدر بفضله ورحمته .
قال الإِمام ابن كثير : وقد اعتمد الصديق - رضى الله عنه - في قتال ما نعى الزكاة على هذه الآية وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهى الدخول في الإِسلام والقيام بأداء واجباته ، ونبه بأعلاها على ادناها فإن أشرف أركان الإِسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله - تعالى - وبعدها الزكاة هي نفع متعد إلى الفقراء ، وهى أشرف الأفعال المتعلقة بالخلوقين ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله الصلاة والزكاة .
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " .
وروى الإِمام أحمد عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمرت أن أقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم "
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه .
وبذلك ترى هذه الآية قد جمعت في إرشادها بين الترغيب والترهيب ؛ فقد أمرت المؤمنين بأن يستعملوا مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإِرهابهم ثم أمرتهم في الوقت نفسه بإخلاء سبيلهم متى تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة . .
وبعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين . . المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء . . مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم . . يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب :
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم ، واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } . .
وقد اختلفت الأقوال عن المقصود هنا بقوله تعالى : { الأشهر الحرم } . . هل هي الأشهر الحرم المصطلح عليها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب : وعلى ذلك يكون الوقت الباقي بعد الأذان في يوم الحج الأكبر بهذه البراءة هو بقية الحجة ثم المحرم . . خمسين يوماً .
أم إنها أربعة أشهر يحرم فيها القتال ابتداء من يوم النحر فتكون نهايتها في العشرين من ربيع الأخر ؟ . . أم إن الأجل الأول للناقضين عهودهم . وهذا الأجل الثاني لمن ليس لهم عهد أصلاً أو لمن كان له عهد غير مؤقت ؟
والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها . وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها ؛ بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر . وأنها عامة - إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم - فإنه ما دام أن الله قد قال لهم : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها . . وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان .
وقد أمر الله المسلمين - إذا انقضت الأشهر الأربعة - أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب - باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم - بدون أي إجراء آخر معه . ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتاً كافياً ؛ فهم إذن لا يقتلون غدراً ، ولا يؤخذون بغتة ، وقد نبذت لهم عهودهم ، وعلموا سلفاً ما ينتظرهم .
غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام . . إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام :
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم } . .
لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان ؛ ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم ، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم . ثم من سماحة لهذا الدين . ورسوله وأهله معهم . . وإنه لتاريخ طويل . . ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه ؛ فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا . . كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله ، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه . وذلك أن الله لا يرد تائباً مهما تكن خطاياه . . { إن الله غفور رحيم } . .
ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص :
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } . .
وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها ؟ ومتى يكفر ؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة ؟ . . الخ
فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله . إنما هو نص كان يواجه واقعاً في مشركي الجزيرة يومذاك . فما كان أحدهم ليعلن توبته ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله ، ويعني استسلامه له ودخوله فيه . فنصت الآية على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام وارتضاه بكامل شروطه وكامل معناه .
وفي أولها الدينونة لله وحده بشهادة أن لا إله إلا الله ، والاعتراف برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن محمداً رسول الله .
فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي ، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته .
وأخيراً فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك . فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك كما قلنا . إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك . فالمشركون الأفراد ، الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى ؛ يكفل لهم الإسلام - في دار الإسلام - الأمن ، ويأمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة ؛ ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم . . هذا كله وهم مشركون .
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ، ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها [ الأربعة ]{[13249]} المذكورة في قوله تعالى : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } الآية [ التوبة : 36 ] ، قاله أبو جعفر الباقر ، لكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك أيضًا ، وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله : { فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ثُمَّ قَالَ { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ } أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة .
وقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي : من الأرض . وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ]
وقوله : { وَخُذُوهُمْ } أي : وأسروهم ، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا .
وقوله : { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أي : لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع ، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ؛ ولهذا قال : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ولهذا اعتمد الصديق ، رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي الدخول في الإسلام ، والقيام بأداء واجباته . ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة ، التي هي حق الله ، عز وجل ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقد جاء في الصحيحين{[13250]} عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا{[13251]} أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة " الحديث .
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا حميد الطويل ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم " .
ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث عبد الله بن المبارك ، به{[13252]}
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس [ عن أنس ]{[13253]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض " - قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث ، واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } - قال : توبتهم خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } {[13254]} [ التوبة : 11 ]
ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " له : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حَكَّام بن سِلْم{[13255]} حدثنا أبو جعفر الرازي ، به سواء{[13256]}
وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي{[13257]} صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل{[13258]} أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمي لهم من العقد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان{[13259]} قال
علي بن أبي طالب : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف : سيف في المشركين من العرب{[13260]} قال الله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ وَخُذُوهُمْ ] } {[13261]}
هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ] } [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ]{[13262]} والرابع : قتال الباغين في قوله : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 ]
ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .
{ فإذا انسلخ } انقضى ، وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة . { الأشهر الحُرم } التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها . وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها . { فاقتلوا المشركين } الناكثين . { حيث وجدتموهم } من حل أو حرم . { وخذوهم } وأسروهم ، والأخيذ اليسير . { واحصروهم } واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام . { واقعدوا لهم كل مرصد } كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد ، وانتصابه على الظرف . { فإن تابوا } عن الشرك بالإيمان . { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } تصديقا لتوبتهم وإيمانهم . { فخلّوا سبيلهم } فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك ، وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله . { إن الله غفور رحيم } تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة .
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } .
تفريع على قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] فإن كان المراد في الآية المعطوفِ عليها بالأربعة الأشهر أربعةً تبتدىء من وقت نزول براءة كان قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } تفريعاً مراداً منه زيادة قيد على قيد الظرف من قول : { أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] أي : فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين إلخ لانتهاء الإذن الذي في قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] ، وإن كانت الأربعة الأشهر مراداً بها الأشهر الحرم كان قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } تصريحاً بمفهوم الإذن بالأمن أربعةَ أشهر ، المقتضي أنّه لا أمْن بعد انقضاء الأربعة الأشهر ، فهو على حدّ قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] ، بعد قوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] فيكون تأجيلاً لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر ، ثم تحذيراً من خرق حرمة شهر رجب ، وكذلك يستمرّ الحال في كلّ عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى : { منها أربعة حرم }إلى { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } [ التوبة : 36 ] .
وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ . وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان ، أي إزالته . ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة .
والحرم جمع حرام وهو سماعي لأنّ فُعُلا بضم الفاء والعيْن إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد . وحرام صفة . وقال الرضي في باب الجمع من « شرح الشافية » إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } في سورة البقرة ( 194 ) . وهي ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب .
وانسلاخها انقضاء المدّة المتتابعة منها ، وقد بَقيت حرمتها ما بَقي من المشركين قبيلة ، لمصلحة الفريقين ، فلما آمن جميع العرب بَطل حكم حُرمة الأشهر الحرم ، لأنّ حُرمةَ المحارم الإسلامية أغنت عنها .
والأمر في { فاقتلوا المشركين } للإذن والإباحة باعتبار كلّ واحد من المأمورات على حدة ، أي فقد أُذن لكل في قتلهم ، وفي أخذهم ، وفي حصارهم ، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام ، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة ، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله : { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] والمقصود هنا : أن حرمة العهد قد زالت .
وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنّهم لا يقبل منهم غير الإسلام . وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة . وقد عمّت الآية جميع المشركين وعمّت البقاع إلا ما خصصته الأدلّة من الكتاب والسنة .
والحصر : المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين .
والقعود مجاز في الثبات في المكان ، والملازمةِ له ، لأن القعود ثبوت شديد وطويل .
فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظانّ تطرقّ العدوّ المشركين إلى بلاد الإسلام ، وفي مظان وجود جيش العدوّ وعُدته .
والمرصد مكان الرَصْد . والرصْد : المراقبة وتتبع النظر .
و { كلّ } مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها ، تحذيراً للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدوّ منها ، أو من التفريط في بعض ممارّ العدوّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفّوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أنّ المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة ، فيؤول معنى { كل } هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة :
بها كُل ذيَّال وخنساءَ ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد
وانتصب { كل مرصد } إمَّا على المفعول به بتضمين { اقعدوا } معنى ( الزموا ) كقوله تعالى : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، وإمّا على التشبيه بالظرف لأنّه من حقّ فعل القعود أن يَتعدّى إليه ب ( في ) الظرفية فشبّه بالظرف وحذفت ( في ) للتّوسّع .
وتقدم ذكر ( كلّ ) عند قوله تعالى : { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } في سورة الأنعام ( 25 ) .
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم }
تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم } .
والتوبة عن الشرك هي الإيمان ، أي فإن آمنوا إيماناً صادقاً ، بأن أقاموا الصلاة الدالّةَ إقامتُها على أنّ صاحبها لم يكن كاذباً في إيمانه ، وبأن آتوا الزكاة الدالَّ إيتاؤُها على أنّهم مؤمنون حقّاً ، لأنّ بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بُذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كفّ القتال عنهم إذا آمنوا ، وليس في هذا دلالة على أنّ الصلاة والزكاة جزء من الإيمان .
وحقيقة { خلوا سبيلهم } اتركوا طريقهم الذي يمرّون به ، أي اتركوا لهم كلّ طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قَادمين عليكم ، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين ، فإنّهم صاروا إخوانكم ، كما قال في الآية الآتية { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } [ التوبة : 11 ] .
وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلاً في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم ، يقال : خَلّ سبيلي ، أي دعني وشأني ، كما قال جرير :
خَلّ السبيلَ لمن يبنِي المنارَ به *** وأبرز ببَرْزَةَ حيث اضطرّك القدَر
وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله : { واقعدوا لهم كل مرصد } .
وجملة : { إن الله غفور رحيم } تذييل أريد به حثّ المسلمين على عدم التعرّض بالسوء للذين يسلمون من المشركين ، وعدممِ مؤاخذتهم لما فرط منهم ، فالمعنى اغفروا لهم ، لأنّ الله غفر لهم وهو غفور رحيم ، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فَرَطَ منهم كما تعلمون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عمّا مضى .