التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

ثانياً : نعمة إنجائهم من عدوهم :

ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة جليلة الشأن ، هي نعمة إنجائهم من عدوهم فقال تعالى :

{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب . . . }

الآية الكريمة معطوفة على قوله تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ } في الآية السابقة ، من باب عطف المفصل على المجمل : أي : اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون .

وإذ : بمعنى وقت ، " وهي مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أي : اذكروا وقت أن نجيناكم ، والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث .

وآل الرجل : أهله وخاصته وأتباعه ، ويطلق غالباً على أولى الخطر والشأن من الناس ، فلا يقال آل الحجام أو الإِسكاف .

وفرعون : اسم لملك مصر كما يقال لملك الروم قيصر ، ولملك اليمن تبع ويسومونكم : من سامه خسفا إذا أذله واحتقره وكلفه ما لا يطيق .

والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ويكون في الخير والشر ، قال - تعالى - { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } والمعنى : اذكروا يا بني إسرائيل وقت أن نجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، ويبغونكم ما فيه إذلال لكم واستئصال لأعقابكم ، وامتهان لكرامتكم حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ، ويستبقون نفوس نسائكم ، وفي ذلك العذاب ، وفي النجاة منه امتحان لكم بالسراء لتشكروا ، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدي بكم إلى الإِذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .

قال الإِمام الرازي - رحمه الله - ما ملخصه : واعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة - أي نعمة إنجائهم من عدوهم - يتأتى من وجوه أهمها :

1- أن هذه الأشياء التي ذكرها الله - تعالى - لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة ، صار تخليص الله - عز وجل - لهم من هذه المحن من أعظم النعم ، وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم ، وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ، ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم ، وعظم النعمة يوجب المبالغة في الطاعة والبعد عن المعصية ، لذا ذكر الله هذه النعمة العظيمة ليلزمهم الحجة ، وليقطع عذرهم .

2- أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل . وكان عدوهم في نهاية العز ، إلا أنهم كانوا محقين ، وكان خصمهم مبطلا ، لا جرم زال ذل المحقين ، وبطل عز المبطلين ، فكأنه تعالى يقول لهم : لا تغتروا بكثرة أموالكم ولا بقوة مركزكم ، ولا تستهينوا بالمسلمين لقلة ذات يدهم ، فإن الحق إلى جانبهم . ومن كان الحق إلى جانبه ، فإن العاقبة لابد أن تكون له ) اه .

وخوطب بهذه النعمة اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومع أن هذا الانجاء كان لأسلافهم ، لأن في نجاة أسلافهم نجاة لهم ، فإنه لو استمر عذاب فرعون للآباء لأفناهم ، ولما بقي هؤلاء الأبناء ، فلذلك كانت منه التنحية تحمل في طياتها منتين ، منه عل السلف لتخليصهم مما كانوا فيه من عذاب ومنة على الخلف لتمتعهم بالحياة بسببها ، فكان من الواجب عليهم جميعاً أن يقدروا هذه النعمة قدرها ، وأن يخلصوا العبادة لخالقهم الذي أنجاهم من عدوهم .

ولأن الإِنعام على أمة يعتبر إنعاماً شاملاً لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك الإِنعام ومن لم يصبه . ولأن الآثار التي تترتب عليه كثيرا ما يرثها الخلف عن السلف ، ولأن في إخبارهم بذلك تصديقاً للنبي - عليه الصلاة والسلام - فيما يبلغه عن ربه ، فقد أخبرهم بتاريخ من مضى منهم بصدق وأمانة ، وفي ذلك دليل على أنه صادق في نبوته ورسالته .

وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل ، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عوناً له في أذاقتهم سوء العذاب ، وإنزال الإِذلال والأعناب بهم .

وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لليهود - وهو في ظاهرة خير - لأن هذا الإِبقاء عليهن ، كان المقصود منه الاعتداء على أعراضهن واستعمالهن في الخدمة بالاسترقاق . فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة ، والطباع الطيبة .

قال الإِمام الرازي ما ملخصه : ( في ذبح الذكور دون الإِناث مضرة من وجوه :

أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال ، وذلك يقتضي انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضي في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعاً .

ثانيهما : أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة ، فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها تعهد الرجال . لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد . فصارت هذه الخطة عظيمة في المحن ، والنجاة منها تكون في العظم بحسبها .

ثالثها : أن قتل الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل التعب ، والرجاء القوي في الانتفاع به ، من أعظم العذاب ، فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة .

رابعها : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهم ، يؤدي إلى صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان ) .

وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء في قوله تعالى : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } الأطفال دون البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشافة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال ، لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح .

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء ، والنساء هن البالغات .

والذي نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإِنجاء ، حيث كان أهل فرعون يقتلون الصغار قطعاً للنسل ، ويسترقون الامهات استعباداً لهن ، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت .

وقد جاءت جملة { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } في هذه الآية الكريمة بدون عطف وجاءت في سورة إبراهيم معطوة بالواو . لأنها هنا بيان وتفسير لجملة { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } فيكون المراد من سوء العذاب هنا تذبيح الأبناء واستحياء النساء .

وأما في سورة إبراهيم . فقد جاء سياق الآيات لتعداد المحن التي حلت ببني إسرائيل ، فكان المراد بجملة { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } نوعاً منه ، والمراد بجملة { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } نوعاً آخر من العذاب ، لذا وجب العطف ، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى ، وإنما هي تمثل نوعاً آخر من المحن التي حلت بهم .

هذا ، وقد تكرر تذكير بني إسرائيل بنعمة إنجائهم من عدوهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، وذلك لجلال شأنها ، ولحملهم على الطاعة والشكر .

1- من ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } 2 - وقوله تعالى في سورة طه : { يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى * كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } فهذه الآيات الكريمة وغيرها مما هي في معناها فيها تذكير لبني إسرائيل بنعمة من أجل نعم الله عليهم ، حيث أنجاهم - سبحانه - ممن أراد لهم السوء ، وعمل على قتلهم وإبادتهم واستئصال شأفتهم ، وفي ذلك ما يدعوهم إلى الاجتهاد في شكر الله - عز وجل - لو كانوا ممن يحسنون شكر النعم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

40

بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم ، وكيف استقبلوا هذه الآلاء ، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق . وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم :

( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم . وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه - باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد - ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب .

يقول لهم : واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم ، [ من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائما ] وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه ! ! ثم يذكر لونا من هذا العذاب . هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث . كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم !

وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم . ليلقي في حسهم - وحس كل من يصادف شدة - أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة . وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة ، ويعتبر بالبلاء ، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ . والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها . والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال ، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله ، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته . . ومن ثم هذا التعقيب الموحى : ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

يقول تعالى{[1718]} : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم " إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ " أي : خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة{[1719]} موسى ، عليه السلام ، وقد كانوا يسومونكم ، أي : يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب . وذلك أن فرعون - لعنه الله - كان قد رأى رؤيا هالته ، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر ، إلا بيوت بني إسرائيل ، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ، ويقال : بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم ، يكون لهم به دولة ورفعة ، وهكذا جاء في حديث الفُتُون ، كما سيأتي في موضعه [ في سورة طه ]{[1720]} إن شاء الله ، فعند ذلك أمر فرعون - لعنه الله - بقتل كل [ ذي ]{[1721]} ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل ، وأن تترك البنات ، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها .

وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه ، كما قال : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } [ إبراهيم ] وسيأتي تفسير{[1722]} ذلك في أول سورة القصص ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة والمعونة والتأييد .

ومعنى { يَسُومُونَكُمْ } أي : يولونكم ، قاله أبو عبيدة ، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ، قال عمرو بن كلثوم :

إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل : معناه : يديمون عذابكم ، كما يقال : سائمة الغنم من إدامتها الرعي ، نقله القرطبي ، وإنما قال هاهنا : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وأما في سورة إبراهيم فلما قال : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } [ إبراهيم : 5 ] ، أي : بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي .

وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر ، كافرًا من العماليق{[1723]} وغيرهم ، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا ، وكسرى لكل من ملك الفرس ، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا [ والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وبطليموس لمن ملك الهند ]{[1724]} ويقال : كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى ، عليه السلام ، الوليد بن مصعب بن الريان ، وقيل : مصعب بن الريان ، أيا ما كان فعليه لعنة الله ، [ وكان من سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح ، وكنيته أبو مرة ، وأصله فارسي من استخر ]{[1725]} .

وقوله تعالى : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال ابن جرير : وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم . أي : نعمة عظيمة عليكم في ذلك{[1726]} .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ في ]{[1727]} قوله : { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال : نعمة . وقال مجاهد : { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال : نعمة من ربكم عظيمة . وكذا قال أبو العالية ، وأبو مالك ، والسدي ، وغيرهم .

وأصل البلاء : الاختبار ، وقد يكون بالخير والشر ، كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] .

قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشر : بلوته أبلوه بَلاءً ، وفي الخير : أبليه إبلاء وبلاء ، قال زهير بن أبي سلمى :

جزى الله بالإحسان ما فَعَلا بكُم *** وأبلاهما خَيْرَ البلاءِ الذي يَبْلُو{[1728]}

قال : فجمع بين اللغتين ؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر بها عباده .

[ وقيل : المراد بقوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ } إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء ؛ قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول ، ثم قال : وقال الجمهور : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، والبلاء هاهنا في الشر ، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان ]{[1729]} .


[1718]:في جـ: "يقول الله تبارك وتعالى".
[1719]:في جـ: "بصحبة".
[1720]:زيادة من جـ، ط.
[1721]:زيادة من جـ.
[1722]:في جـ، ط: "تفصيل".
[1723]:في جـ: "العمالقة".
[1724]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1725]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1726]:في جـ: "أي نعمة عليكم عظيمة في ذلك".
[1727]:زيادة من جـ، أ.
[1728]:البيت في تفسير الطبري (2/49).
[1729]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

{ وإذ نجيناكم من آل فرعون } تفصيل لما أجمله في قوله : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } وعطف على { نعمتي } عطف { جبريل } و{ ميكائيل } على { الملائكة } وقرئ " أنجيتكم " . وأصل { آل } أهل لأن تصغيره أهيل ، وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك . و{ فرعون } لقب لمن ملك العمالقة ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم . ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتجبر ، وكان فرعون موسى ، مصعب بن ريان ، وقيل ابنه وليد من بقايا عاد . وفرعون يوسف عليه السلام ، ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة .

{ يسومونكم } يبغونكم ، من سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء .

{ سوء العذاب } أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره ، والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على المفعول ليسومونكم ، والجملة حال من الضمير في نجيناكم ، أو من { آل فرعون } ، أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل واحد منهما .

{ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف ، وقرئ { يذبحون } بالتخفيف . وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام ، أو قال له الكهنة : سيولد منهم من يذهب بملكه ، فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئا .

{ وفي ذلكم بلاء } محنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيعهم ، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وأصله الاختبار لكن لما كان اختبار الله تعالى عباده تارة بالمحنة وتارة بالمنحة أطلق عليهما ، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان الشائع بينهما .

{ من ربكم } بتسليطهم عليكم ، أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما . { عظيم } صفة بلاء . وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر إختبار من الله تعالى ، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 )

وقوله تعالى : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } أي خلصناكم ، و { آل } أصله أهل ، قلبت الهاء ألفاً كما عمل في ماء ، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل ، فقيل أُهَيْل ، موَيْه ، وقد قيل في { آل } إنه اسم غير أهل ، أصله أول وتصغيره أويل ، وإنما نسب الفعل إلى { آل فرعون } وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم .

وقال الطبري رحمه الله : «ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به( {[577]} ) ، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه » .

ومنه قول أراكة الثقفي( {[578]} ) : [ الطويل ]

فلا تبك ميْتاً بعد ميْتٍ أجنّهُ . . . عليٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بكر

يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأشهر في { آل } أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد ، وقد يقال آل مكة ، وآل المدنية ، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر ، وفرعون( {[579]} ) موسى قيل اسمه مصعب بن الريان .

وقال ابن إسحاق : «اسمه الوليد بن مصعب » .

وروي أنه كان من أهل اصطخر ، ورد مصر فاتفق له فيها الملك ، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام .

و { يسومونكم } معناه : يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة ، وسامه خطة خسف و { يسومونكم } إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال ، أي سائمين لكم سوء العذاب( {[580]} ) ، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال ، ويكون وصف حال ماضية ، و { سوء العذاب } أشده وأصعبه .

قال السدي : «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء ، ويستحيي النساء » .

وقال غيره : صرفهم على الأعمال : الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، وكان قومه جنداً ملوكاً ، وقرأ الجمهور «يذبِّحون » بشد الباء المكسورة على المبالغة ، وقرأ ابن محيصن : «يذبحون » بالتخفيف ، والأول أرجح إذ الذبح متكرر . كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر ، فأولت له رؤياه أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه( {[581]} ) .

وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما : إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون : قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك .

وقال ابن عباس أيضاً : إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل ، ووكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من يحمل منهن .

وقيل : «وكل بذلك القوابل » .

وقالت طائفة : معنى { يذبحون أبناءكم } يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك( {[582]} ) ، واستدل هذا القائل بقوله تعالى : { نساءكم } .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور ، والنساء هم الأطفال الإناث ، وعبر عنهن باسم النساء بالمآل( {[583]} ) ، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنَّ ، ونفس الاستحياء ليس بعذاب ، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء ، و { يذبحون } بدل من «يسومون » .

قوله تعالى : { وفي ذلكم } إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر ، و { بلاء } معناه امتحان واختبار ، ويكون { البلاء } في الخير والشر .

وقال قوم : الإشارة { بذلكم } إلى التنجية من بني إسرائيل ، فيكون { البلاء } على هذا في الخير ، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم .

وقال جمهور الناس : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، و { البلاء } هنا في الشر ، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان .

وحكى الطبري وغيره في كيفيه نجاتهم : أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط ، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل ، فسرى بهم موسى من أول الليل ، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة ، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح ، وأمات الله تلك الليلة كثيراً من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين ، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه ، وكانت عدة بني إسرائيل نيفاً على ستمائة ألف ، وكانت عدة فرعون( {[584]} ) ألف ألف ومائتي ألف .

وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته ، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين ، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت ؟ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض فرسه فيه حتى بلغ الغمر ، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت ، فوالله ما كذبت ولا كذبت ، فأشار إلى البحر ، وأوحى الله تعالى إليه ، { أن اضرب بعصاك البحر } [ الشعراء : 63 ] . وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك ، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر ، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء( {[585]} ) .


[577]:- أي يقتضي نسبة الله الفعل إلى آل فرعون- وهم إنما كانوا يفعلون بأمره- أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، أي لأنه مباشر، والآمر متسبب، ولذلك أغرق الله فرعون ومن معه، أي أغرق الآمر والمباشر، وقد اختلف الفكر الإسلامي في هذه المسألة على تفصيل معروف في موضعه، وفقه المالكية لخصه صاحب "المختصر" بقوله: "والمتسبب مع المباشر كمكره ومكره".
[578]:- عندهم أراكة، وابن أراكة، أما أراكة: فهو ابن عبد الله بن سفيان. شاعر محسن وأما ابن أراكة: فهو يزيد بن عمر الأشجعي- شاعر خبيث. وأجنه: ستره وأخفاه في التراب.
[579]:- أي المذكور. هنا.
[580]:- عبارة أبي (ح): "يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية. ويحتمل أن تكون في موضع الحال،أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون وهي أوضح وأفصح".
[581]:- وقيل: إن سبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم على ما روى في التوراة خوفه من نموهم وكثرتهم، وكانت أرض مصر قد امتلأت منهم بسبب انفساح المجال أمامهم أيام يوسف عليه السلام، ونزولهم في أفضل الأراضي، فتكاثروا، وتناسلوا، حتى خاف منهم المصريون فلما اعتلى الفراعنة ملك مصر ساموهم سوء العذاب، وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله علينا، وعلى ما في التوراة يكون هذا من الأنظمة الشاذة الجائرة في تحديد النسل وتنفيذه في نوع خاص.
[582]:- أي أن التسمية مجازية باعتبار ما كان.
[583]:- أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهن، ولأن استخدامهن وامتهانهن إنما يكون عندما يكن نساء، فعبر عن البنات بالنساء لما ذكر، واستحياؤهن ليس بعذاب، ولكنه يؤول إلى العذاب، أي إلى إرهاقهن في أعمال شاقة.
[584]:- أي عدة أتباع فرعون.
[585]:- ثبت في الصحيحن وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدنية، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم. فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصومه اهـ. ففي يوم عاشوراء وقع إنجاء بني إسرائيل وإغراق فرعون وأتباعه.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكرهم النعم ليوحدوه، فقال سبحانه: {وإذ نجيناكم}، يعني أنقذناكم

{من آل فرعون}، يعني أهل مصر.

{يسومونكم سوء العذاب}، يعني يعذبونكم شدة العذاب... ثم بين العذاب، فقال: {يذبحون أبناءكم} في حجور أمهاتهم.

{ويستحيون نساءكم}؛ يعني قتل البنين وترك البنات...

يقول الله عز وجل: {وفي ذلكم}، يعني فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات {بلاء}، يعني نقمة.

{من ربكم عظيم} فاذكروا فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وإذْ نَجّيْناكُمْ "عطف على قوله: "يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ "فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إنعامنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون بإنجائنا لكم منهم.

وأما آل فرعون؛ فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه...

وأحسن أماكن «آل» أن ينطق به مع الأسماء المشهورة، مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل عليّ، وآل عباس، وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول، وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل، ورآني آل المرأة، ولا رأيت آل البصرة، وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: رأيت آل مكة وآل المدينة، وليس ذلك في كلامهم بالمستعمل الفاشي.

وأما فرعون فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمّى به، كما كانت ملوك الروم يُسمّي بعضهم قيصر وبعضهم هرقل، وكما كانت ملوك فارس تُسمى الأكاسرة واحدهم كسرى، وملوك اليمن تسمى التبابعة واحدهم تبع...

وإنما جاز أن يقال: "وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ" والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة، كما يقول القائل لآخر: فعلنا بكم كذا، وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبيناكم، والمخبر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان المقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه... فكذلك خطاب الله عزّ وجلّ من خاطبه بقوله: "وَإِذْ نَجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم.

"يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَاب".

وفي قوله: "يَسُومُونَكُمْ" وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل، فيكون معناه حينئذٍ: واذكروا نعمتي عليكم إذ نجّيتكم من آل فرعون، وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب.. والوجه الثاني: أن يكون «يسومونكم» حالاً، فيكون تأويله حينئذٍ: وإذْ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب...

" يَسُومُونَكُمْ": يوردونكم، ويذيقونكم، ويُولونكم، يقال منه: سامه خطة ضيم: إذا أولاه ذلك وأذاقه...

" سُوءَ العَذَابِ": ما ساءهم من العذاب.

فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم؟ قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: "يُذَبّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ"...

وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سَوْمهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستحيائهم نساءهم دون فرعون، وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوّة فرعون وعن أمره، لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حيّ بنفسه وإن كان عن أمر غيره، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه، وإن كان الاَمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك، سلطانا كان الاَمر أو لصّا خاربا أو متغلبا فاجرا، كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوّة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما فهو المقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله.

وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل، واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس... قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا وائتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشّفارَ، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تُفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما. فحملت أمّ موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية أمه، حتى إذا كان القابل حملت بموسى...

والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم، فتأويل قوله إذا على ما تأوّله الذين ذكرنا قولهم: ويستحيون نساءكم: يستبقونهن فلا يقتلونهن.

وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: "ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ": أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الإناث في حال صباها وبعد ولادها امرأة، والصبايا الصغار وهن أطفال: نساء، لأنهم تأوّلوا قول الله جل وعزّ: "وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ": يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.

وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال:"وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ" قال: يسترقّون نساءكم. فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إنه استحياء الصبايا الأطفال، قال: إذ لم نجدهن يلزمهن اسم نساء. ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله «ويستحيون» يسترقّون، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا عجمية، وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعالٌ من الحياة نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقي، وهو معنى من الاسترقاق بمعزل.

وقد قال آخرون: قوله "يُذَبّحونَ أبْناءَكُمْ" بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم. وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحين هم النساء الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عزّ وجل أنهم النساء ما يبين أن المذبحين هم الرجال. وقد أغفل قائلو هذه المقالة مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين موضع الصواب، وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أمّ موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء لم يكن بأمّ موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليمّ، أو لو أن موسى كان رجلاً لم تجعله أمه في التابوت ولكن ذلك عندنا على ما تأوّله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا.

وإنما قيل: "وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ" إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن، وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن، فقيل: "وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ" يعني بذلك الوالدات والمولودات كما يقال: قد أقبل الرجال وإن كان فيهم صبيان، فكذلك قوله: "وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ". وأما من الذكور فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودين قيل: يذبحون أبناءكم، ولم يقل يذبحون رجالكم.

"وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ منْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ": وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم على ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيم. ويعني بقوله بلاء: نعمة. وأصل البلاء في كلام العرب: الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشرّ، لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشرّ، كما قال الله جل ثناؤه: "وَبَلَوْناهُمْ بالحَسَناتِ وَالسّيّئات لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ" يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: "وَنَبْلُوكُمْ بالشّرّ والخَيْرِ فِتْنَةً". ثم تسمي العرب الخير بلاء والشرّ بلاء، غير أن الأكثر في الشرّ أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يَسُومُونَكُمْ}: وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم {سُوءَ العذاب} ويريدونكم عليه. والسوء: مصدر السيئ: يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل، يراد قبحهما. ومعنى {سُوءَ العذاب} والعذاب كله سيئ: أشدّه وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره. و {يُذَبّحُونَ}: بيان لقوله: {يَسُومُونَكُمْ}... وإنما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يكون على يده هلاكه، كما أنذر نمروذ. فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ، وكان ما شاء الله. والبلاء المحنة إن أشير ب (ذلكم) إلى صنيع فرعون. والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} أي خلصناكم... و {يسومونكم} معناه: يأخذونكم به ويلزمونكم إياه...

قال السدي: «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء، ويستحيي النساء».

وقال غيره: صرفهم على الأعمال: الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، وكان قومه جنداً ملوكاً.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

البحث الأول... ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه،

أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء،

وثانيها: أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت، لما قد يقع إليها من نكد العيش بالانفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن، والنجاة منها في العظم تكون بحسبها،

وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب، لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعا به مسرورا بأحواله، فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه،

ورابعها: أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات، ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم، ولذلك قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} الآية، ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور،

وخامسها: بقاء النسوان بدون الذكر أن يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان...

البحث الثاني: ذكر في هذه السورة {يذبحون} بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو، والوجه فيه أنه إذا جعل قوله: {يسومونكم سوء العذاب} مفسرا بقوله:

{يذبحون أبناءكم} لم يحتج إلى الواو، وأما إذا جعل قوله: {يسومونكم سوء العذاب} مفسرا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئا آخر سوى سوء العذاب، احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين، إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال: إنه تعالى قال قبل تلك الآية: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله} والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى، فوجب أن يكون المراد من قوله: {يسومونكم سوء العذاب} نوعا من العذاب، والمراد من قوله: {ويذبحون أبناءكم} نوعا آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة. فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} فسواء [أكان] المراد من سوء العذاب هو الذبح [أم] غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلا فظهر الفرق...

.

البحث الخامس: اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه،

أحدها: أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة، صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة، ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعا لعذرهم.

وثانيها: أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلا لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين، فكأنه تعالى قال: لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال، فإنه محق لابد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه،

وثالثها: أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(قال الأستاذ الإمام) في هذه الآية بعد قراءة عبارة الجلال ما مثاله: خاطب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لآبائهم. لأن الإنعام على أمة بعنوان أنها أمة كذا، هو إنعام شامل للأمة من أصابه ذلك الإنعام من أفرادها ومن لم يصبه. ويصح الامتنان به على اللاحقين منهم والسابقين كما يصح الفخر به منهم أجمعين، كما أن الإنعام على شخص بشيء يختص بعضو من أعضائه كلبوس يلبسه أو لذيذ طعامه يطعمه يكون إنعاما على الشخص، ولا يقال، إنه إنعام على لسان فلان ولا على رأسه، أو يده أو رجله؛ ولأن ما وصل إلى مجتمع بعنوان ذلك الاجتماع والرابطة التي ربطت أفراده بعضهم ببعض يكون له أثر في مجموع الأفراد، لا سيما إذا كان الواصل من نقمه أو نعمه مسببا عن عمل الأمة. شرا أو خيرا، ولا يكون لذلك أثر في الأمة يورثه السلف الخلف ما بقيت الأمة. وأنواع البلاء التي ذكر بها اليهود في القرآن كانت لشعب إسرائيل من حيث هو شعب إسرائيل لأن الجرائم التي كان البلاء عقوبة عليها إنما كانت من مجموع الشعب. من حيث هو شعب إسرائيل، ثم إن الله تعالى كان يتوب على الشعب بعد كل بلاء ويفيض عليه النعم. فتكون العقوبة تربية وتعليما تفيد المعتبرين بها نعمة وسعادة.

لا أقول إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تاريخ أمتهم الماضي يتذكروا صنع الله تعالى فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء. وسعادة البقاء، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم، وما ينتظر أن يحل بهم، وإنما الكلام نص صريح لا يحتاج إلى التأويل. فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعاتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق. تعثر الرجل فتخدش أو توثأ، والألم يلم بالشخص كله من حيث هو شخص حي بحياة واحدة تستوي فيها رجله وسائر أعضائه. ولذلك يسعى بجملته لإزالة ألم الرجل ويتوقى أسباب العثار بعد ذلك مستعينا بكل أعضائه وقواه.

علمنا الله تعالى هذا بما قص علينا من أخبار الأمم. وأنعم على أمتنا – التي لا تختص بشعب ولا جنس – بهذا القرآن الكريم فكان لهم به نعم لا تحصى تعرف من الكتاب والسنة. منها أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ومنها أنهم كانوا مستضعفين فمكن لهم في الأرض وأورثهم أرض الشعوب القوية وديارهم وجعل لهم السلطان عليهم، ومنها أنهم جعلهم أمة وسطا لا تفريط عندها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على الناس الذين غلوا وأفرطوا، والذين قصروا وفرطوا. ثم لما كفرت بأنعم الله أنزل بها ألوانا من البلاء والنقم بعنوان الأمة. فإن التتار إنما نكلوا بها و تبروا ما علوا تتبيرا لأنها الأمة الإسلامية، ثم زحف عليها الغربيون أيام حروب الصليب وجاسوا خلال الديار، لأنها الأمة الإسلامية، ثم إن الفتن لا تزال تحل بديارها، وتنقصها من أطرافها، وسوط عذاب الله يصب عليها بعنوان الأمة الإسلامية، وقد مرت عليها قرون وهي لا تعتبر بما مضى، ولا تتربى بما حضر، بل جهلت الماضي فحارت في الماضي، لا تعرف سببه ولا مخرج منه.

أليس من العجيب أن الجمهور الأعظم من المشتغلين بالعلم منها هم أجهلها بتاريخها؛ لا يعرفون شيئا من ماضيها ولا حاضرها؟ ولكنهم يعترفون بأن الأمة في بلاء كبير، ويعتذرون بالقضاء والقدر عن معرفة الأسباب، ويكلون إلى القضاء والقدر النجاة منه أو البقاء فيه.

إن هذه الأمة أمة واحدة وإن اختلفت ديارها وتعددت أجناسها، ولا يمكن أن تعرف حقيتها إلا بعد معرفة تاريخها الماضي، فلا بد من تتبع السواقي والجداول إلى الينبوع الأول الذي هو الأصل.

كان سلفنا رضي الله تعالى عنهم يضبطون أحوال من قبلهم من أمور الدين والدنيا بكل اعتناء ودقة، حتى كانوا يروون البيت من الشعر أو النكتة بين العاشق ومعشوقته بالأسانيد المتصلة، وليست هذه المبالغة مما يؤخذ عليهم فإن الأمة إنما تكون أمة بدينها ولغتها وأخلاقها وعاداتها، فإذا لم يحفظ خلفها عن سلفها هذه المقومات بحفظ تاريخها تكون عرضة للتغير بتأثير حوادث الزمان وتقلبات شئون الاجتماع مع جهل المتأخر بما كان عليه المتقدم وبكيفية حدوث التغيير الضار للجهل بالتاريخ. بهذا تفعل فواعل الكون بالأمة الجاهلة أفاعيلها حتى تقلب كيانها، وتقوض بنيانها، وتقطع عرى الربط العامة بين أفرادها، فلا يكون لهم عمل إلا للمصلحة الشخصية، وهي لا حفاظ لها في مجموع الأمة إلا بالمصلحة العامة، فإذا أهملت تكون الأمة من الهالكين.

عنيت أمتنا بالتاريخ عناية لم تسبقها به أمة فلم تكتف بضبط الوقائع وتلقيها بالرواية كالسنة النبوية؛ بل تفننت فيها فصنفت في تاريخ الأشخاص كما صنفت في تاريخ البلاد والشعوب، ثم نوعت تاريخ الأشخاص فجعلت لكل طبقة تاريخا فترى في المكاتب طبقات المفسرين وطبقات المحدثين وطبقات النحويين وطبقات الأطباء وطبقات الشعراء إلى غير ذلك. ثم اهتدى بعضهم إلى استنباط قواعد العمران وأصول الاجتماع من التاريخ فصنف ابن خلدون في ذلك مقدمة تاريخه. ولو لم تنقطع بنا سلسلة العلم من ذلك العهد لكنا أتممنا ما بدأ به سلفنا ولكننا تركناه وسبقنا غيرنا إلى إتمامه واستثماره. فالتاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه من سعة العمران. وعزة السلطان؛ وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتاريخ ومعرفة سنن الله في الأمم منه، وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السنة وسيرة السلف هو المرشد الثاني إلى ذلك. فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلين بعلم الدين، فإن وجد من يلتفت إليه فإنما يكون متبعا في ذلك سنة قوم آخرين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه -باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد- ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب.

يقول لهم: واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم، [من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائما] وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه!! ثم يذكر لونا من هذا العذاب. هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث. كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم!

وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم. ليلقي في حسهم -وحس كل من يصادف شدة- أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء، واختبار وفتنة. وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ. والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته.. ومن ثم هذا التعقيب الموحى: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة أخرى، منَّ بها الله سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يَذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). القرآن يعبّر عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل (يَسُومُونَكُمْ) من «سام» التي تعني في الأصل الذهاب في ابتغاء الشيء، واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوماً تحت التعذيب من قبل الفراعنة.

والقرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإِناث لخدمة آل فرعون، واستثمار طاقات بني إسرائيل لخدمة الأقباط وإشباع رغبات ونزوات المستكبرين.

والبلاء يعني الامتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم. كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأن بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم، فكان ما أصابهم من آل عمران عقاباً على كفرانهم.

... وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإِماتة أيضاً بأساليب أخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإِناث إلى مستنقع إشباع الشهوات.