ثم بين - سبحانه - أن العزة الكاملة إنما هى لله - تعالى - وحده فقال : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً . . . } .
والمراد بالعزة : الشرف والمنعة والاستعلاء ، من قولهم : أرض عَزاز ، أى : صلبة قوية . و { مَن } شرطية ، وجواب الشرط محذوف . وقوله : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } تعليل للجواب المحذوف .
والمعنى من كان من الناس يريد العزة التى لا ذلة معها . فليطع الله وليعتمد عليه وحده فالله - تعالى - العزة كلها فى الدنيا والآخرة ، وليس لغيره منها شئ .
وفى هذا رد على المشركين وغيرهم من يطلبون العزة من الأصنام أو من غيرها من المخلوقات قال - تعالى - : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } وقال - سبحانه - : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } قال القرطبى ما ملخصه : يريد - سبحانه فى هذه الآية ، أن ينبه ذوى الأقدار والهمم ، من يان تنال العزة ومن أين تستحق ، فمن طلب العزة من الله - تعالى وجدها عنده ، - إن شاء الله - ، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه . . ومن طلبها من غيره وكلَه إلى من طلبها عنده . وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لهذه الآية : " من أراد عز الدارين فليطع العزيز " ، ولقد أحسن القائل :
وإذا تذللت الرقاب تواضعا . . . منا إليك فعزها فى ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، فليعتز بالله - تعالى - ، فإن منا عتز بغير الله ، أذله الله ، ومن اعتز به - سبحانه أعزه .
ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله - تعالى - : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } لأن العزة الكاملة لله - تعالى - وحده ، أما عزة الرسول صلى الله عليه وسلم فمستمدة من قربه من الله - تعالى - ، كما أن عزة المؤمنين مستمدة من إيمانهم بالله - تعالى - وبرسوله صلى الله عليه وسلم .
والخلاصة أن هذه الآية الكريمة ترشد المؤمنين إلى الطريق الذى يوصلهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية . ألا وهو طاعة الله - تعالى - ، والاعتماد عليه والاعتزاز به .
وقوله - سبحانه - : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } حض لمؤمنين على النطق بالكلام الحسن ، وعلى الإِكثار من العمل الصالح .
و { يَصْعَدُ } من الصعود بمعنى الارتفاع إلى أعلى والعروج من مكان منخفض إلى مكان مرتفع . يقال صعد فى السلم ويصعد صعودا إذا ارتقاه وارتفع فيه .
و { الكلم } اسم جنس جمعى واحده كلمة .
والمراد بالكلمة الطيب : كل كلام يرضى الله - تعالى - من تسبيح وتحميد وتكبيره . وأمره بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وغير ذلك من الأقوال الحسنة .
والمراد بصعوده : قبوله عند الله - تعالى - ورضاه عن صاحبه ، أو صعود صحائف هذه الأقوال الطيبة .
والمعنى : إليه - تعالى - وحده ، لا إلى غيره يصعد الكلم الطيب ، أى : يقبل عنده ، ويكون مرضيا لديه ، أو إليه - وحده - ترفع صحائف أعمال عباده ، الصادقين فيجازيهم بما يستحقون من ثواب ، والعمل الصالح الصادر عن عباده المؤمنين يرفعه الله - تعالى - إليه ، ويقبله منهم ، ويكافئهم عليه .
فالفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } ضمير يعود على الله - تعالى - العمل الصالح إليه ، ويقبله من أصحابه .
ومنهم من يرى أن الفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } هو العمل الصالح . والضمير المنصوب يعود إلى الكلم الطيب . أى : أن العمل الصالح هو الذى يرفع الكلم الطيب . بأنه يجعله مقبولا عند الله - تعالى - .
ومنهم من يرى العكس . أى : أن الكلم الطيب هو الذى يرفع العمل الصالح .
قال الشوكانى ما ملخصه : ومعنى : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب . كما قال الحسن وغيره . ووجهه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا من العمل الصلاح وقيل : إن فاعل { يَرْفَعُهُ } هو الكلم الطيب ، ومفعوله العمل الصالح . ووجه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإِيمان وقيل : إن فاعل { يَرْفَعُهُ } ضمير يعود إلى الله - تعالى - .
والمعنى : أن الله - تعالى - يرفع العمل الصلاح على الكلم الطيب ، لأن العمل يحقق الكلام . وقيل : العمل الصالح هو الذى يرفع صاحبه .
ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال ، أن يكون الفاعل لقوله { يَرْفَعُهُ } هو الله - تعالى - ، وأن الضمير المنصوب عائد إلى العمل الصالح لأن الله - تعالى - هو الذى يقبل الأقوال الطيبة ، وهو - سبحانه - الذى يرفع الأعمال الصالحة ويقبلها عنده من عباده المؤمنين .
ثم بين - تعالى - بعد ذلك سوء عاقبة الذين يمكرون السوء فقال : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } .
والمكر : التدبير المحكم . أو صرف غيرك عما يريده بحيلة . وهو مذموم إن تحرى به صاحبه الشر والسوء - كما فى الآية الكريمة ، ومحمود إن تحرى به صاحبه الخير والنفع و { السيئات } جمع سيئة وهى صفة لموصوف محذوف .
وقوله { يَبُورُ } أى : يبطل ويفسد ، من البوار : يقال : بار المتاع بوارا إذا كسد وصار فى حكم الهالك .
أى : والذين يمكرون المكرات السيئات من المشركين والمنافقين وأشباههم ، لهم عذاب شديد من الله - تعالى - ، ومكر أولئك الماكرين المفسدين ، مصيره إلى الفساد والخسران ، لأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله .
ويدخل فى هذا المكر السيئ ما فعله المشركون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى دار الندوة ، حيث بيتوا قتله ، ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم ، كما دخل فيه غير ذلك من أقوالهم القبيحة ، وأفعالهم الذميمة ، ونياتهم الخبيثة .
ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة - شيئاً - إلى معنى نفسي ومطلب شعوري .
ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والاستعلاء . ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح الذي يرفعه الله . كما يعرض الصفحة المقابلة . صفحة التدبير السيّىء والمكر الخبيث ، وهو يهلك ويبور :
( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ، ومكر أولئك هو يبور ) . .
ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات ، والكلمة الطيبة والعمل الصالح ، هو الحياة الطيبة في هذه وفي تلك ؛ وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة . وهي الصلة التي سبقت الإشارة إليها في سورة إبراهيم . ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) . . وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة ؛ وما فيهما من حياة ونماء . والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء !
وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة ، وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل بحكم العقيدة ، وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة الألوان . العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال . مما جعلهم يقولون : ( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) . .
( من كان يريد العزة فلله العزّة جميعاً )
وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها ، وتبدل الوسائل والخطط أيضاً !
إن العزة كلها لله . وليس شيء منها عند أحد سواه . فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره . ليطلبها عند الله ، فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد ، ولا في أي كنف ، ولا بأي سبب ( فلله العزّة جميعاً ) . .
إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة ؛ وتخشى اتباع الهدى - وهي تعترف أنه الهدى - خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى . إن الناس هؤلاء ، القبائل والعشائر وما إليها ، إن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة ، ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها ( فلله العزّة جميعاً ) . . وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله . وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله . وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر الأول ، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر . ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة ، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم . وهم مثله طلاب محاويج ضعاف !
إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية . وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين ، وتعديل الحكم والتقدير ، وتعديل النهج والسلوك ، وتعديل الوسائل والأسباب ! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً ثابتاً في وقفته غير مزعزع ، عارفاً طريقه إلى العزة ، طريقه الذي ليس هنالك سواه !
إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر . ولا لعاصفة طاغية . ولا لحدث جلل . ولا لوضع ولا لحكم . ولا لدولة ولا لمصلحة ، ولا لقوة من قوى الأرض جميعاً . وعلام ? والعزة لله جميعاً . وليس لأحد منها شيء إلا برضاه ?
ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح :
( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) . .
ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه . فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله . القول الطيب والعمل الصالح . القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه ؛ والعمل الصالحالذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع . ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء .
والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس . حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله . حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي . يستعلي بها على شهواته المذلة ، ورغائبه القاهرة ، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس . ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه . فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ، ومخاوفهم ومطامعهم . ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان . . وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان !
إن العزة ليست عناداً جامحاً يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل . وليست طغياناً فاجراً يضرب في عتو وتجبر وإصرار . وليست اندفاعاً باغياً يخضع للنزوة ويذل للشهوة . وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح . . كلا ! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس ، واستعلاء على القيد والذل ، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله . ثم هي خضوع لله وخشوع ؛ وخشية لله وتقوى ، ومراقبة لله في السراء والضراء . . ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه . ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه . ومن هذه المراقبة لله لا تعنى إلا برضاه .
هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة ، وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق . ثم تكمل بالصفحة المقابلة :
( والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور ) .
ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون . ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء . فهؤلاء لهم عذاب شديد . فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور . فلا يحيا ولا يثمر . من البوار ومن البوران سواء . وذلك تنسيقاً مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة .
والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزة الكاذبة ، والغلبة الموهومة . وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء ، وأنهم أعزاء وأنهم أقوياء . ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله ، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه . وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل . فأما المكر السيى ء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان . إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد . وعد الله ، لا يخلف الله وعده . وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم .
وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي : مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة ، فليلزم طاعة الله ، فإنه يحصل له مقصوده ؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة ، وله العزة جميعها ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ النساء : 139 ] .
وقال تعالى : { وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ يونس : 65 ] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] .
قال مجاهد : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ } بعبادة الأوثان ، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
وقال قتادة : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } أي : فليتعزز بطاعة الله عز وجل .
وقيل : مَنْ كان يريد علْم العزة ، لمن هي ، { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } ، حكاه ابن جرير .
وقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } يعني : الذكر والتلاوة والدعاء . قاله غير واحد من السلف .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل الأحْمَسِيّ ، أخبرني جعفر بن عَوْن ، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي ، عن عبد الله بن المخارق ، عن أبيه المخارق بن سليم{[24478]} قال : قال لنا عبد الله - هو ابن مسعود - إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله : إن العبد المسلم إذا قال : " سبحان الله وبحمده ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، تبارك الله " ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن ، حتى يجيء بهن وجه الرحمن عز وجل ، ثم قرأ عبد الله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي{[24479]} ، عن عبد الله بن شقيق قال{[24480]} : قال كعب الأحبار : إن ل " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " لدويا حول العرش كدويّ النحل ، يُذَكِّرْنَ بصاحبهن ، والعمل الصالح في الخزائن . {[24481]}
وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار ، رحمه الله ، وقد روي مرفوعًا .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا موسى - يعني : ابن مسلم الطحان - عن عون بن عبد الله ، عن أبيه - أو : عن أخيه{[24482]} - عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذين يذكرون من جلال الله ، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله ، يتعاطفن حول العرش ، لهن دوي كدوي النحل ، يذكرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به ؟ " . {[24483]}
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف ، عن يحيى بن سعيد{[24484]} القطان ، عن موسى بن أبي [ عيسى ]{[24485]} الطحان ، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبيه - أو : عن أخيه - عن النعمان بن بشير ، به . {[24486]}
وقوله : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الكلم الطيب : ذكر الله ، يصعد به إلى الله ، عز وجل ، والعمل الصالح : أداء فرائضه . ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ، رد كلامه على عمله ، فكان أولى به .
وكذا قال مجاهد : العمل الصالح يرفع الكلام الطيب . وكذا قال أبو العالية ، وعكرمة ، وإبراهيم النَّخعِيّ ، والضحاك ، والسُّدِّيّ ، والربيع بن أنس ، وشَهْر بن حَوْشَب ، وغير واحد [ من السلف ] . {[24487]}
وقال إياس بن معاوية القاضي : لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام .
وقال الحسن ، وقتادة : لا يقبل قولٌ إلا بعمل .
وقوله : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } : قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وشَهْر بن حَوْشَب : هم المراؤون بأعمالهم ، يعني : يمكرون بالناس ، يوهمون أنهم في طاعة الله ، وهم بُغَضَاء إلى الله
عز وجل ، يراؤون بأعمالهم ، { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 142 ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المشركون .
والصحيح أنها عامة ، والمشركون داخلون بطريق الأولى ، ولهذا قال : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } ، أي : يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى ، فإنه ما أسر عبد{[24488]} سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر . فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل يُكشَف{[24489]} لهم عن قريب ، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية .
{ من كان يريد العزة } الشرف والمنعة . { فلله العزة جميعا } أي فليطلبها من عنده فإن له كلها ، فاستغنى بالدليل عن المدلول . { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح ، وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما ، أو صعود الكتبة بصحيفتهما ، والمستكن في { يرفعه } ل{ الكلم } فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد ويؤيده أنه نصب { العمل } ، أو ل العمل } فإنه يحقق الإيمان ويقويه ، أو لله وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة . وقرئ { يصعد } على البناءين والمعصد هو الله تعالى أو المتكلم به أو الملك . وقيل { الكلم الطيب } يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن . وعنه عليه الصلاة والسلام " هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن ، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل " . { والذين يمكرون السيئات } المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله وإجلائه . { لهم عذاب شديد } لا يؤبه دونه بما يمكرون به . { ومكر أولئك هو يبور } يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله : { والله خلقكم من تراب } .