ثم أكد - سبحانه - خلودهم فى النار فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض . . . }
أى أن الأشقياء لهم فى النار العذاب الأليم ، وهم ماكئون فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السموات التى تظلمهم ، والأرض التى تقلهم فهو فى معنى قوله - تعالى - { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } قال الآلوسى ما ملخصه : والمقصود من هذا التعبير : التأبيد ونفى الانقطاع على منهاج قول العرب لا أفعل كذا ، مالاح كوكب ، وما أضاء الفجر ، وما اختلف الليل والنهار . . . إلى غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم . . .
وليس المقصود منه تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض ، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها .
وجوز أن يحمل ذلك على التعليق ، ويراد بالسموات والأرض ، سماوت الآخرة وأرضها ، وهما دائمتان أبدا . . . )
أما قوله - سبحانه - { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فقد ذكر العلماء فى المقصود به أقوالا متعددة أوصلها بعضهم إلى ثلاثة عشر قولا من أشهرها :
أن هذا الأستثناء فى معنى الشرط فكأنه - سبحانه - يقول :
1 - خالدين فيها خلودا أبديا إن شاء ربك ذلك إذ كل شئ خاضع لمشيئة ربك وإرادته . . وعليه يكون المقصود من هذا الاستثناء وأمثاله إرشاد العباد إلى وجوب تفويض الأمور إليه - سبحانه - وإعلامهم بأن كل شئ خاضع لإرادته ومشيئته فهو الفاعل المختار الذى لا يجب عليه شئ ولا حق لأحد عليه { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } .
وليس المقصود من هذا الاستثناء وأمثاله نفى خلودهم فى النار لأنه لا يلزم من الاستثناء المعلق على المشيئة وقوع المشيئة ولأنه قد أخبرنا - سبحانه - فى كتابه بخلود الكافرين خلودا أبديا فى النار .
قال - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً . إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } وشبيه بهذا الاستثناء ما حكاه - سبحانه - عن نبيه شعيب - عليه السلام - فى قوله : { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً . . . } فشعيب - عليه السلام - مع ثقته المطلقة فى أنه لن عود هو وأتباعه على ملة الكفر ، نراه يفوض الأمر إلى مشيئة الله تأدبا معه - سبحانه . .
فيقول : وما يكون لنا أن نعود فيها - أى ملة الكفر - إلا أن يشاء ربنا شيئا غير ذلك وهذا من الأدب العالى فى مخاطبة الأنبياء لخالقهم - عز وجل .
وقد ذكر كثير من المفسرين هذا القول ضمن الأقوال فى معنى الآية ، وبعضهم اقتصر عليه ولم يذكر سواه ، ومن هذا البعض صاحب المنار ، وصاحب محاسن التأويل . . .
أما صاحب المنار فقد قال : قوله { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } أى : أن هذا الخلود الدائم هو والمعد لهم فى الآخرة . . . إلا ما شاء ربك من تغيير فى هذا النظام فى طور آخر ، فهو إنما وضع بمشيئته ، وسيبقى فى قبضة مشيئته ، وقد عهد مثل هذا الاستثناء فى سياق الأحكام القطعية للدلالة على تقييد تأبيدها يمشيئة الله - تعالى . . فقط ، لا لإِفادة عدم عمومها . . .
وأما صاحب محاسن التأويل فقد قال : فإن قلت : ما معنى الاستثناء بالمشيئة ، وقد ثبت خلودا أهل الدارين فيهما من غير استثناء ؟
فالجواب : أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل فى أسلوب القرآن ، للدلالة على الثبوت والاستمرار .
والنكتة فى الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة ، إنما كانت كذلك بمشيئة الله - تعالى - لا بطبيعتها فى نفسها ، ولو شاء - تعالى - أن يغيرها لفعل .
وابن كثير قد أشار إلى ذلك بقوله : " يعنى أن دوامهم فيها ليس أمرا واجبا بذاته ، بل هو موكول إلى مشيئته - تعالى - "
2 - أن الاستثناء هنا خاص بالعصاة من المؤمنين .
ومن العلماء الذني رجحوا هذا القول الإِمامان : ابن جرير وابن كثير .
" وأولى الأقوال فى تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذى ذكرناه عن الضحاك وقتادة من أن ذلك استثناء فى أهل التوحيد من أهل الكبائر ، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبدا ، إلا ما شاء تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة - أى العصاة من المؤمنين . . . "
وأما ابن كثير فقد وضح ما اختاره ، ابن جرير ورجحه فقال ما ملخصه :
وقد اختلف المفسرون فى المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة . . . نقل كثيرا منها الإِمام ابن جرير ، واختار : أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون فى أصحاب الكبائر ، ثم تأتى رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله ، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يبقى بعد ذلك فى النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ، ولا محيد له عنها ، وهذا الذى عليه كثير من العلماء قديما وحديثا فى تفسير هذه الآية الكريمة .
وقد ذكر الشيخ الشوكانى هذا القول ضمن أحد عشر قولا فقال ما ملخصه :
وقوله { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } : قد اختلف أهل العلم فى هذا الاستثناء على أقوال منها :
( أ ) أنه من قوله { فَفِي النار } كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك .
( ب ) أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين وإنهم يخرجون بعد مدة من النار ، وعلى هذا يكون قوله { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } عاما فى الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من خالدين ، وتكون { ما } بمعنى { من } ، وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا يفيد العلم الضرورى بأنه يرخج من النار أهل التوحيد ، فكان ذلك مخصصا لكل عموم .
( ج ) أن الاستثناء من الزفير والشهيق ، أى لهم فيها زفير وشهيق { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق . . .
ويبدو لن أن الرأى الأول أرجح الآراء ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أى فهو إن شاء غير ذلك فعله ، وإن شاء ذلك فعله ، ما شاء من الأفعال كان وما لم يشاء لم يكن .
وجاء - سبحانه - بصيغة المبالغة { فعال } للإِشارة إلى أنه - سبحانه - لا يتعاصى عليه فعل من الأفعال بأى وجه من الوجوه .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة السعداء فقال : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ } أى فى الآخرة بسبب إيمانهم وتقواهم فى الدنيا ، { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أى : عطاء منه - سبحانه - لهم غير مقطوع عنهم ، يقال : جذ الشئ يجذه جذا ، أى : كسره وقطعه ، ومنه الجذاذ - بضم الجيم - لما تكسر من الشئ كما فى قوله - تعالى - حكاية عما فعله إبراهيم - عليه السلام - بالأصنام { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } وبذلك نرى أن هذه الآيات قد فصلت أحوال السعداء والأشقياء ، تفصيلا يدعو العقلاء إلى أن يسلكوا طريق السعداء ، وأن يتجنبوا طريق الأشقياء .
هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم ( ما دامت السماوات والأرض ) . وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار . وللتعبير ظلال . وظل هذا التعبير هنا هو المقصود .
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين . وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية . فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها . إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله :
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال الإمام أبو جعفر بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت : " هذا دائم دوامَ السموات والأرض " ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليلُ والنهار ، وما سمر ابنا سَمير ، وما لألأت العُفْر{[14917]} بأذنابها . يعنون بذلك كلمة : " أبدا " ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } .
قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض : الجنس ؛ لأنه لا بدّ في عالم الآخرة من سموات وأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] ؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : تبدل سماء غير{[14918]} هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : لكل جنة سماء وأرض .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضًا ، والسماء سماءً .
وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } كقوله تعالى : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء ، على أقوال كثيرة ، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " زاد المسير " {[14919]} وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، في كتابه{[14920]} واختار هو ما نقله عن خالد بن مَعْدَان ، والضحاك ، وقتادة ، وأبي سِنَان ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا : أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله . كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس ، وجابر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة{[14921]} ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها . وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة . وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود{[14922]} ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبي سعيد ، من الصحابة . وعن أبي مِجْلَز ، والشعبي ، وغيرهما من التابعين . وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة - أقوال غريبة . وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير ، عن أبي أمامة صُدَىّ بن عَجْلان الباهلي ، ولكن سنده ضعيف ، والله أعلم .
وقال قتادة : الله أعلم بثنياه .
وقال السدي : هي منسوخة بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [ النساء : 57 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ * فَأَمّا الّذِينَ شَقُواْ فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لّمَا يُرِيدُ } .
يقول تعالى ذكره : يوم يأتي القيامة أيها الناس ، وتقوم الساعة لا تكلم نفس إلا بإذن ربها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { يَوْمَ يَأْتِي } ؛ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة بإثبات الياء فيها : { يَوْمَ يَأْتي لا تُكَلّمُ نَفْسٌ } . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة ، وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل ، وحذفها في الوقف . وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف : { يَوْمَ يَأْتِ لا تُكَلّمُ نَفْسٌ إلاّ بإذْنِهِ } .
والصواب من القراءة في ذلك عندي : { يَوْمَ يَأْتِ } ، بحذف الياء في الوصل والوقف ، اتباعا لخط المصحف ، وأنها لغة معروفة لهذيل ، تقول : ما أَدْرِ ما تقول ، ومنه قول الشاعر :
كَفّاكَ كَفّ ما تُلِيقُ دِرْهما *** جُودا وأُخرَى تُعْطِ بالسّيْفِ الدّما
وقيل : { لا تَكَلّمُ } ، وإنما هي : «لا تتكلم » ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها .
وقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيّ وسَعِيدٌ } ، يقول : فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها ، شقي وسعيد وعادٍ على النفس ، وهي في اللفظ واحدة بذكر الجميع في قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ } ، يقول تعالى ذكره : { فأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ } ، وهو أول نهاق الحمار وشبهه ، { وَشَهِيقٌ } ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نهاقه ، كما قال رؤبة بن العجاج :
حَشْرَجَ في الجَوْفِ سَحِيلاً أوْ شَهَقْ *** حتى يُقالَ ناهِقٌ وَما نَهَقْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : { لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهيقٌ } ، يقول : صوت شديد ، وصوت ضعيف .
قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية ، في قوله : { لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهِيقٌ } ، قال : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : صوت الكافر في النار صوت الحمار : أوله زفير ، وآخره شهيق .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ومحمد بن معمر البحراني ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالوا : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سليمان بن سفيان ، قال : حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : لما نزلت هذه الآية : { فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ } ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا نبيّ الله ، فعلام عملنا ؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «على شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يا عُمَرُ وَجَرَتْ بِهِ الأقْلامُ ، وَلَكِنْ كُلّ مُيَسّرٌ لِمّا خُلِقَ لَهُ » . اللفظ لحديث ابن معمر .
وقوله : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ إنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يرِيدُ } ، يعني تعالى ذكره بقوله : { خالِدِينَ فِيها } ، لابثين فيها ، ويعني بقوله : { ما دَامَتِ السّماوَاتُ والأرْضُ } ، أبدا ؛ وذلك أن العرب إذا أرادت أنُ تصف الشيء بالدوام أبدا ، قالت : هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى : إنه دائم أبدا ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار ، وما سمر لنا سمير ، وما لألأت العفر بأذنابها ، يعنون بذلك كله : أبدا . فخاطبهم جلّ ثناؤه بما يتعارفون به بينهم ، فقال : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ } ، والمعنى في ذلك : خالدين فيها أبدا .
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ } ، قال : ما دامت الأرض أرضا ، والسماء سماء . ثم قال : { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } .
واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : هذا استثناء استثناه الله في أهل التوحيد أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { فَأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّماوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : الله أعلم بثُنياه . وذُكر لنا أن ناسا يصيبهم سَفَع من النار بذنوب أصابوها ، ثم يدخلهم الجنة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، والله أعلم بثنيّته ، ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابتهم ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، يقال لهم الجهنميون .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا شيبان بن فروخ ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة ، وتلا هذه الآية : { فَأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ . . . } ، إلى قوله : { لِمَا يُريدُ } ، فقال عند ذلك : حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النار » ، قال قتادة : ولا نقول مثل ما يقول أهل حروراء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي مالك ، يعني : ثعلبة ، عن أبي سنان ، في قوله : { فَأمّا الّذِينَ شَقَوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : استثناء في أهل التوحيد .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الضحاك بن مزاحم : { فَأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ . . . } ، إلى قوله : { خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السمَواتُ والأرْضُ إلاّ ما شاء رَبّكَ } ، قال : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة ، فهم الذين استُثني لهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عامر بن جشِب ، عن خالد بن معدان في قوله : { لابِثِينَ فيها أحْقابا } ، وقوله : { خالِدينَ فِيها إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، أنهما في أهل التوحيد .
وقال آخرون : الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد ، إلا أنهم قالوا : معنى قوله : { لاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار . ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله : { فأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النارِ . . . إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، لا من الخلود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا ابن التيمي ، عن أبيه ، عن أبي نضرة ، عن جابر أو أبي سعيد ، يعني : الخدري ، أو عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قوله : { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ إنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ } ، قال : «هَذِهِ الآية تَأْتي على القُرْآنِ كُلّهِ » ، يقول : حيث كان في القرآن خالِدِينَ فيها تأتي عليه . قال : وسمعت أبا مُجَلّزٍ يقول : هو جزاؤه ، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه .
وقال آخرون : عنى بذلك أهل النار وكل من دخلها . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس : { خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ } ، لا يموتون ، ولا هم منها يخرجون ما دامت السماوات والأرض . { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : استثناء الله . قال : يأمر النار أن تأكلهم . قال : وقال ابن مسعود : ليأتينّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن الشعبي ، قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا .
وقال آخرون : أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة ، فعرفنا معنى ثنياه بقوله : { عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ، أنها في الزيادة على مقدار مدة السماوات والأرض ، قال : ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار ، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ آلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، فقرأ حتى بلغ : { عَطَاءً غيرَ مجْذُوذٍ } ، قال : وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة ، فقال : { عطاء غير مجذوذ } ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار .
وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب ، القول الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك ، من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار ، خالدين فيها أبدا إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك ، ثم يخرجهم ، فيدخلهم الجنة ، كما قد بيّنا في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار ، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغير جائز أن يكون استثناء في أهل الشرك ، وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار ، ثم يخرجهم منها ، فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء أهل التوحيد قبل دخولها مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا ، وأنا إن جعلناه استثناء في ذلك كنا قد دخلنا في قول من يقول : لا يدخل الجنة فاسق ولا النار مؤمن ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث . ولأهل العربية في ذلك مذهب غير ذلك سنذكره بعد ، ونبينه إن شاء الله تعالى .
وقوله : { إنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ } ، يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره من الانتقام منه ، ولكنه يفعل ما يشاء ، فيمضي فعله فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاءه .
معنى { ما دامت السّماوات والأرض } التأييد لأنّه جرى مجرى المثَل ، وإلاّ فإنّ السّماوات والأرض المعرُوفة تضمحلّ يومئذٍ ، قال تعالى : { يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] أو يراد سماوات الآخرة وأرضها .
و { إلاّ ما شاء ربك } استثناء من الأزمان التي عمّها الظرف في قوله : { ما دامت } أي إلاّ الأزمان التي شاء الله فيها عدم خلودهم ، ويستتبع ذلك استثناء بعض الخالدين تبعاً للأزمان . وهذا بناء على غالب إطلاق { ما } الموصولة أنّها لغير العاقل . ويجوز أن يكون استثناء من ضمير { خالدين } لأنّ { ما } تطلق على العاقل كثيراً ، كقوله : { ما طاب لكم من النّساء } [ النساء : 3 ] . وقد تكرّر هذا الاستثناء في الآية مرّتين .
فأمّا الأوّل منهما فالمقصود أنّ أهل النّار مراتب في طول المدة فمنهم من يعذّب ثمّ يعفى عنه ، مثل أهل المعاصي من الموحّدين ، كما جاء في الحديث : أنّهم يقال لهم الجهنميون في الجنّة ، ومنهم الخالدون وهم المشركون والكفّار .
وجملة { إنّ ربّك فعّال لما يريد } استئناف بيانيّ ناشىء عن الاستثناء ، لأنّ إجمال المستثنى ينشىء سؤالاً في نفس السّامع أن يقول : ما هو تعيين المستثنى أو لماذا لم يكن الخلود عاماً . وهذا مظهر من مظاهر التفويض إلى الله .