ثم أخذت السورة الكريمة فى تفصيل حكم الظهار ، بعد بيان كونه منكرا من القول وزورا ، فقال - تعالى - : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } .
وقد اختلف العلماء فى معنى قوله - تعالى - : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } .
فمنهم من يرى أن المراد منه ، ثم يرجعون عما قالوا ، قاصدين معاشرة زوجاتهم . . أو قاصدين تحليل ما حرموه على أنفسهم بالنسبة لزوجاتهم بسبب الظهار .
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة : العودة إلى ما كانوا يقولونه فى الجاهلية ، بعد أن هداهم الله - تعالى - إلى الإسلام ، فيكون المعنى : ثم يعودون إلى ما كانوا يقولونه فى الجاهلية من ألفاظ الظهار ، التى يبغضها الله - تعالى - .
وهذا القول يبدو عليه الضعف من جهة : جعله الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال وهو { يُظَاهِرُونَ } ، بمعنى الماضى المنقطع ، ومن جهة جعلهم أن المظاهر بعد الإسلام ، كان قد ظاهر فى الجاهلية ، مع أن هذا ليس بلازم . إذ لم يثبت أن " أوس بن الصامت " كان قد ظاهر من زوجته فى الجاهلية ، وهذا الحكم إنما هو حق المظاهر فى الإسلام .
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة : تكرار لفظ الظهار ، فمعنى ثم يعودون لما قالوا : ثم يعودون إلى تكرار لفظ الظهار مرة أخرى .
وكان أصحاب هذا القول يرون ، أن الكفارة لا تكون إلا بتكرار ألفاظ الظهار ، وهو قول لا يؤيده دليل ، لأنه لم يثبت أن خولة - أو غيرها - كرر عليها زوجها لفظ الظهار أكثر من مرة ، بل الثابت أنه عندما قال لها : أنت على كظهر أمي ، ذهبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقصت عليه ما جرى بينها وبين زوجها .
وقد رجح الإمام ابن جرير الرأى الأول فقال : والصواب من القول فى ذلك عندي أن يقال : معنى اللام فى قوله : { لِمَا قَالُواْ } بمعنى إلى أو في ، لأن معنى الكلام : ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه ، وإن قيل : ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا ، أو فى تحليل ما حرموا فصواب ، لأن كل ذلك عود له ، فتأويل الكلام : ثم يعودون لتحليل ما حرموا على أنفسهم مما أحله الله لهم .
والمعنى : والذين يظاهرون منكم - أيها المؤمنون - من نسائهم ، ثم يندمون على ما فعلوا ، ويريدون أن يعودوا عما قالوه ، وأن يرجعوا إلى معاشرة زوجاتهم .
فعليهم فى هذه الحالة إعتاق رقبة { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } أى : من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر ، أى يحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير .
والمراد بالرقبة : المملوك ، من تسمية الكل باسم الجزء . واسم الإشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعود إلى الحكم بالكفارة .
أى : ذلكم الذى شرعنا لكم - أيها المؤمنون - وهو الحكم بالكفارة إنما شرعناه من أجل أن تتعظوا به ، وتنزجروا عن النطق بالألفاظ التى تؤدي إلى الظهار ، والله - تعالى - خبير ومطلع على كل ما تقولونه من أقوال ، وما تفعلونه من أفعال - وسيحاسبكم على ذلك حسابا دقيقا . وما دام الأمر كذلك ، فافعلوا ما أمركم به ، واجتنبوا ما نهاكم عنه .
وبعد تقرير أصل القضية على هذا النحو المحدد الواضح يجيء الحكم القضائي في الموضوع . ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا . ذلكم توعظون به ، والله بما تعملون خبير ) . .
وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة ، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل ، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها . وهناك أقوال كثيرة في معنى : ( ثم يعودون لما قالوا ) . . نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار . فهذا أقرب ما يناسب السياق . فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله . . ثم التعقيب : ( ذلكم توعظون به ) . . فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف ( والله بما تعملون خبير ) . . خبير بحقيقته ، وخبير بوقوعه ، وخبير بنيتكم فيه .
وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب ، وتربية النفوس ، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه .
وقوله :{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله :{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره ، وهذا القول باطل ، وهو اختيار بن حزم{[28379]} وقول داود ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بُكَيْر ابن الأشج والفراء ، وفرقة من أهل الكلام .
وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق .
وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة . وقد حكي عن مالك : أنه العزم على الجماع أو الإمساك{[28380]} وعنه أنه الجماع .
وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى تظاهر{[28381]} الرجل من امرأته فقد حرمها تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة . وإليه ذهب أصحابه ، والليث بن سعد .
وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء ، عن سعيد بن جبير :{ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يعني : يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم .
وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج . وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس :{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } والمس : النكاح . وكذا قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، ومقاتل ابن حيان .
وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر .
وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة ، عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر . فقال : " ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ " . قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر . قال : " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ، عز وجل " {[28382]}
وقال الترمذي : حسن غريب صحيح {[28383]} ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا . قال النسائي : وهو أولى بالصواب{[28384]}
وقوله :{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي ، رحمه الله ، ما أطلق ها هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب ، وهو عتق الرقبة ، واعتضد{[28385]} في ذلك بما رواه عن مالك بسنده ، عن معاوية بن الحكم السلمي ، في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " . وقد رواه أحمد في مسنده ، ومسلم في صحيحه{[28386]}
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف{[28387]} بن موسى ، حدثنا عبد الله بن نمير ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إني تظاهرت{[28388]} من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم يقل الله{ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } قال : أعجبتني ؟ قال : " أمسك حتى تكفر " {[28389]}
ثم قال البزار : لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا ، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه ، وروي عنه جماعة كثيرة من أهل العلم ، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة .
وقوله :{ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تزجرون به{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : خبير بما يصلحكم ، عليم بأحوالكم .