ثم ذكرهم ، سبحانه ، بما يعرفونه من حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث نصره الله . تعالى ، على أعدائه بدون عون منهم ، وأيده بجنود لم يروها فقال ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } .
قال ابن جرير . هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه ، وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .
والمعنى : إنكم ، أيها المؤمنون ، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده ، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه . فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة ، كما نصره ، وأنتم تعلمون ذلك ، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة { ثَانِيَ اثنين } أى : أحد اثنين . والثانى : أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه .
يقال . فلان ثالث ثلاثة ، أو رابع أربعة . . أى : هو من الثلاثة أو من الأربعة .
فإن قيل : فلان رابع ثلاث أو خامس أربعة ، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته اليهم ، أو صير الأربعة خمسة .
وأسند سبحانه الإِخراج إلى المشركين مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بنفسه بإذن من الله ، تعالى ، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك ، بعد أن تآمروا على قتله .
قيل : وجواب الشرط في قوله ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } محذوف وقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } تعليل لهذا لمحذوف .
والتقدير : إلا تنصروه ينصره الله في كل حال . { فَقَدْ نَصَرَهُ } سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بدله ولم يكن معه سوى رجل واحد .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت . كيف يكون قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط ؟ .
قلت " فيه وجهان " أحدهما : إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد . ولا أقل من الواحد ، فدل بقوله . { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت .
والثانى . أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده .
وقوله : { ثَانِيَ اثنين } حال من الهاء في قوله { أَخْرَجَهُ } أى اخرجه الذين كفروا حال كونه منفرداً عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق - رضى الله عنه .
وقوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } بدل من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .
والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . والمراد به هنا : غار جبل ثور . وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام .
وقوله : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بدل ثان من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .
أى : لا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار ، ووقت أن كان - صلى الله عليه وسلم - يقول لصاحبه الصديق :
" لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته " .
وذلك أن أبا بكر وهو مع النبى - صلى الله عليه وسلم - في الغار ، أحسن بحركة المشركين من فوق الغار ، فخاف خوفا شديداً لا على حياته هو ، وإنما على حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك ، أخذ في تسكين روعة وجزعه وجعل يقول له : لا تحزن إن الله معنا .
أخرج الشيخان " عن أبى بكر قال . نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت . يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قديمه ، فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا " " .
وقوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } بيان لما أحاط الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحفظ والرعاية .
والسكينة : من السكون ، وهو ثبوت الشئ ؛ بعد التحرك . أو من السكن - بالتحريك - وهو كل ما سكنت إليه نفسك ، واطمأنت به من أهل وغيرهم .
والمراد بها هنا : الطمأنينة التي استقرت في قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار ، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه .
والمراد بالجنود المؤيدين له . الملائكة الذين أرسلهم - سبحانه - لهذا الغرض : والضمير في قوله : { عَلَيْهِ } يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم .
أى . فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم ، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه .
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله { عَلَيْهِ } يعود إلى ابى بكر الصديق ، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة . وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر ، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف .
وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } الضمير فيه لا يصح إلا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله { عَلَيْهِ } عائداً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يحصل تفكك في الكلام .
أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف ، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان ، وللدلالة على علو شأنه - صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير قوله { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أى . تأييده ونصره عليه أى .
على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أشهر القولين . وقيل . على أبى بكر .
قالوا : لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تزل معه سكينة . وهذا لا ينافى تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ، ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } أى : الملائكة .
وقوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة .
والمراد بكلمة الذين كفروا . كملة الشرك ، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهى اتفاقهم على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
والمراد بكلمة الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإِسلام ، وما يترتب على اتباع هذا لدين من نصر وحسن عاقبة ، أى : كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة ، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى ، أى . المقهورة الذليلة . وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإِسلام هي العليا أى : هي الثابتة الغالبة النافذة .
وقراءة الجمهور برفع . { كَلِمَةَ } على الابتداء . وقوله { هِيَ } مبتدأ ثان : وقوله : { العليا } خبرها ، والجملة خبر المبتدأ الأول .
ويجوز أن يكون الضمير { هِيَ } ضمير فصل ، وقوله { العليا } هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب { وَكَلِمَةُ الله } بالنصر عطفاً على مفعول جعل وهو { كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ } .
أى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وجعل كلمة الله هي العليا .
قالوا : وقراءة الرفع أبلغ وأوجه ، لأن الجملة الأسمية تدل . على الدوام والثبوت ، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهى قوله : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } لأنها في ذاتها عالية ثابتة ، بدون جعلها كذلك في حالة معينة . بخلاف علو غيرها فهو ذاتى ، وإنما هو علو مؤقت في حال معينة ، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أى : والله - تعالى - { عَزِيزٌ } لا يغلبه غالب ، ولا يقهر قاهر ، ولا ينصر من عاقبه ناصر ، { وَحَكِيمٌ } في تصريفه شأن خلقه ، لا قصور في تدبيره ، ولا نقص في أفعاله .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : الدلالة على فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - وعلى علو منزلته ، وقوة إيمانه ، وشدة إخلاصه لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ومما يشهد لذلك ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أذن الله له بالهجرة ، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة .
ولقد أظهر الصديق - رضى الله عنه - خلال مصاحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثير من ألوان الوفاء والإِخلاص وصدق العقيدة .
قال الآلوسى ما ملخصه : واستدل بالآية على فضل أبى بكر . . فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا كبر . . فعن الحسن قال : عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } الآية .
ولأن فيها النص على صحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة : لأنه هو المراد بالصاحب في قوله { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } وهذا مما وقع عليه الإِجماع .
ومن هنا قالوا : من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر ، لإِنكار كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .
وقد ساق الإِمام الرازى ، والشيخ رشيد رضا ، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجهاً في فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، فارجع إليهما إن شئت .
ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء :
( إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة اللّه هي العليا ، واللّه عزيز حكيم )
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - [ ص ] - وصاحبه :
والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - [ ص ] - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - [ ص ] - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) .
وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :
وقد قرئ ( وكلمة اللّه )بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه( عزيز )لا يذل أولياؤه( حكيم )يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !
يقول تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ } أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ] } {[13513]} أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه ، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول ، عليه السلام{[13514]} منهم أذى ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن في الغار : لو أن أحدهم{[13515]} نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . قال : فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .
أخرجاه في الصحيحين{[13516]} ولهذا قال تعالى : { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : تأييده ونصره عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } أي : الملائكة ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }
قال ابن عباس : يعني { كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الشرك و { كَلِمَةُ اللَّهِ } هي : لا إله إلا الله .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[13517]} وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يُضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله .