وبعد هذا التوبيخ والتحدى لليهود الذين زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس . . . وجه - سبحانه - للمؤمنين نداء أمرهم فيه بالمسارعة إلى أداء فرائضه ونهاهم عن أن تشغلهم دنياهم عن ذكره وطاعته ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا . . . } .
المقصود بالنداء فى قوله - سبحانه - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ . . . } جميع المكلفين بها ، الذين يجب عليهم أداؤها . .
وناداهم - سبحانه - بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة الإيمان فى قلوبهم ، ولتحريضهم على المسارعة إليها ، إذ من شأن المؤمن القوى ، أن يكون مطيعا لما يأمره خالقه به .
والمراد بالنداء : الأذان والإعلام بوقت حلولها .
والمقصود بالصلاة المنادى لها هنا : صلاة الجمعة ، بدليل قوله - تعالى - : { مِن يَوْمِ الجمعة } .
واللام فى قوله { لِلصَّلاَةِ } للتعليل ، و { مِن } بمعنى فى ، أو للبيان ، أو للتبعيض ، لأن يوم الجمعة زمان ، تقع فيه أعمال ، منها الصلاة المعهودة فيه وهى صلاة الجمعة لأن الأمر بترك البيع خاص بها ، لوجود الخطبة فيها .
وقوله : { فاسعوا . . . } جواب الشرط ، من السعى ، وهو المشى السريع .
والمراد به هنا : المشى المتوسط بوقار وسكينة ، وحسن تهيؤ لصلاة الجمعة . . .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } أى : امشوا إليه بدون إفراط فى السرعة . . .
فقد أخرج الستة فى كتبهم عن أبى سلمة من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وأنتم تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .
والمراد بذكر الله : الخطبة والصلاة جميعا ، لاشتمالهما عليه ، واستظهر بعضهم أن المراد به الصلاة ، وقصره بعضهم على الخطبة . .
وإنما عبر - سبحانه - بالسعى لتضمنه معنى زائدا على المشى ، وهو الجد والحرص على التبكير ، وعلى توقى التأخير .
والمعنى : يامن آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا نادى المنادى لأجل الصلاة فى يوم الجمعة ، فامضوا إليها بجد ، وإخلاص نية ، وحرص على الانتفاع بما تسمعونه من خطبة الجمعة ، التى هى لون من ألوان ذكر الله - تعالى - وطاعته .
والأمر فى قوله - سبحانه - : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . } الظاهر أنه للوجوب ، لأن الأمر يقتضى الوجوب ، ما لم يوجد له صارف عن ذلك ، ولا صارف له هنا .
والمراد من البيع هنا : المعاملة بجميع أنواعها ، فهو يعم البيع والشراء وسائر أنواع المعاملات .
أى : إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة ، فاخرجوا إليها بحرص وسكينة ووقار . واتركوا المعاملات الدنيوية من بيع ، وشراء ، وإجارة ، وغيرها .
وإنما قال - سبحانه - : { وَذَرُواْ البيع . . } لأنه أهم أنواع المعاملات ، فهو من باب التعبير عن الشىء بأهم أجزائه .
واسم الإشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره من الأمر بالسعى إلى ذكر الله ، متى نودى للصلاة ، وترك الاشتغال بالبيع وما يشبهه .
أى : ذلك الذى أمرتكم به من السعى إلى ذكر الله عند النداء للصلاة من يوم الجمعة ، ومن ترك أعمالكم الدنيوية .
. . خير لكم مما يحصل لكم من رزق فى هذه الأوقات ، عن طريق البيع أو الشراء أو غيرهما .
فالمفضل عليه محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، والمفضل هو السعى إلى ذكر الله - تعالى - .
وهذا التفضيل باعتبار أن منافع السعى إلى ذكر الله - تعالى - باقية دائمة ، أما المنافع الدنيوة فهى زائلة فانية .
وجواب الشرط فى قوله { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف : أى : إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم ، فاسعوا إلى ذكر الله عند النداء للصلاة ، واتركوا البيع والشراء .
أو إن كنتم من أهل العلم والفقه السليم للأمور ، عرفتم أن امتثال أمر الله - تعلى - بأن تسعوا ، إلى ذكره عند النداء لصلاة الجمعة ، خير لكم من الاشتغال فى هذا الوقت بالبيع والشراء .
إذ فى هذا الامتثال سعادتكم ونجاتكم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة .
والآن يجيء المقطع الأخير في السورة خاصا بتعليم يتعلق بالجمعة ، بمناسبة ذلك الحادث الذي وقع ربما أكثر من مرة ، لأن الصيغة تفيد التكرار :
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . فإذا قضيت الصلاة فاننتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .
( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . قل : ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة . والله خير الرازقين ) . .
وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة ، التي لا تصح إلا جماعة . . وهي صلاة أسبوعية يتحتم أن يتجمع فيها المسلمون ويلتقوا ويستمعوا إلى خطبة تذكرهم بالله . وهي عبادة تنظيمية على طريقة الإسلام في الإعداد للدنيا والآخرة في التنظيم الواحد وفي العبادة الواحدة ؛ وكلاهما عبادة . وهي ذات دلالة خاصة على طبيعة العقيدة الإسلامية الجماعية التي تحدثنا عنها في ظلال سورة الصف . وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل هذه الصلاة والحث عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب والطيب .
جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " .
وروى أصحاب السنة الأربعة من حديث أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها " . .
وروى الإمام أحمد من حديث كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ، ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج يأتي المسجد ، فيركع إن بدا له ، ولم يؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينهما وبين الجمعة الأخرى " . .
والآية الأولى في هذا المقطع تأمر المسلمين أن يتركوا البيع - وسائر نشاط المعاش - بمجرد سماعهم للأذان :
( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) . .
وترغبهم في هذا الانخلاع من شؤون المعاش والدخول في الذكر في هذا الوقت :
( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) . .
مما يوحي بأن الانخلاع من شؤون التجارة والمعاش كان يقتضي هذا الترغيب والتحبيب . وهو في الوقت ذاته تعليم دائم للنفوس ؛ فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجواذب الأرض ، ليخلو إلى ربه ، ويتجرد لذكره ، ويتذوق هذا الطعم الخاص للتجرد والاتصال بالملأ الأعلى ، ويملأ قلبه وصدره
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من عباده : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ وذلك هو النداء ، ينادى بالدعاء إلى صلاة الجمعة عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ومعنى الكلام : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ يقول : فامضوا إلى ذكر الله ، واعملوا له وأصل السعي في هذا الموضع العمل ، وقد ذكرنا الشواهد على ذلك فيما مضى قبل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن شُرَحْبيل بن مسلم الخَوْلانيّ ، في قول الله : فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهُ قال : فاسعوا في العمل ، وليس السعي في المشي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ للَصّلاةِ مِنْ يَوْم الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله والسعي يا بن آدم أن تسعى بقلبك وعملك ، وهو المضي إليها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدّي ، عن شعبة ، قال : أخبرني مغيرة ، عن إبراهيم أنه قيل لعمر رضي الله عنه : إن أُبيّا يقرؤها : فاسْعَوْا قال : أما إنه أقرؤنا وأعلمنا بالمنسوخ وإنما هي «فامضوا » .
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري ، قال : أخبرنا سفيان ، عن الزهريّ ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : ما سمعت عمر يقرؤها قطّ إلاّ فامضوا .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا حنظلة ، عن سالم بن عبد الله ، قال : كان عمر رضي الله عنه يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حنظلة ، عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قرأها : فامضوا .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حنظلة بن أبي سفيان الجمحيّ ، أنه سمع سالم بن عبد الله يحدّث عن أبيه ، أنه سمع عمر بن الخطاب يقرأ : «إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر ، أن عبد الله قال : لقد توفى الله عمر رضي الله عنه ، وما يقرأ هذه الاَية التي ذكر الله فيها الجمعة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمْعَةِ إلا «فامضوا » إلى ذكر الله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان عبد الله يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » ويقول : لو قرأتها فاسعوا ، لسعيت حتى يسقط ردائي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن عدّي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : لو كان السعي لسعيت حتى يسقط ردائي ، قال : ولكنها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » قال : هكذا كان يقرؤها .
حدثني عليّ بن الحسين الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان الأزدي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية أنه كان يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، أنه قرأها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : هي للأحرار .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور عن رجل ، عن مسروق ، قال : عند الوقت .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن رجل ، عن مسروق إذَا نُودِيَ للصّلاةِ قال : عند الوقت .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : هو عند العزمة عند الخطبة ، عند الذكر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : النداء عند الذكر عزيمة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : العزمة عند الذكر عند الخطبة .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن المُغيرة والأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، قال : لو قرأتها فاسْعَوْا لسعيت حتى يسقط ردائي ، وكان يقرؤها : «فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبيّ ، عن ابن مسعود قال : قرأها فامْضُوا .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن عكرمة فاسْعَوْا إلى ذِكْر اللّهِ قال : السعي : العمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله : إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ قال : إذا سمعتم الداعي الأوّل ، فأجيبوا إلى ذلك وأسرعوا ولا تبطئوا قال : ولم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم أذان إلا أذانان : أذان حين يجلس على المنبر ، وأذان حين تُقام الصلاة قال : وهذا الاَخر شيء أحدثه الناس بعد قال : لا يحلّ له البيع إذا سمع النداء الذي يكون بين يدي الإمام إذا قعد على المنبر وقرأ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا البَيْعَ قال : ولم يأمرهم يذرون شيئا غيره ، حرّم البيع ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا من الصلاة ، قال : والسعي أن يُسرع إليها ، أن يُقبِل إليها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إن في حرف ابن مسعود «إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فامْضُوا إلى ذِكْرِ اللّهِ » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ السعي : هو العمل ، قال الله : إنّ سَعْيَكُمْ لَشَتّى .
وقوله : وَذَرُوا البَيْعَ يقول : ودعوا البيع والشراء إذا نودي للصلاة عند الخطبة . وكان الضحاك يقول في ذلك ما :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، قال : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء .
حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل السديّ ، عن أبي مالك ، قال : كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ، فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ، ولا يقومون ، فنزلت : إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ .
وأما الذكر الذي أمر الله تبارك وتعالى بالسعي إليه عباده المؤمنين ، فإنه موعظة الإمام في خطبته فيما قيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : العزمة عند الذكر عند الخطبة .
حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبدان ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا منصور رجل من أهل الكوفة ، عن موسى بن أبي كثير ، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّهِ قال : فهي موعظة الإمام فإذا قضيت الصلاة بعد .
وقوله : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقول : سعيكم إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة إلى ذكر الله ، وترك البيع خير لكم من البيع والشراء في ذلك الوقت ، إن كنتم تعلمون مصالح أنفسكم ومضارّها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : مِنْ يَوْم الجُمُعَةِ فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار : الجُمُعَةِ بضم الميم والجيم ، خلا الأعمش فإنه قرأها بتخفيف الميم .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
«النداء بالجمعة » هو في ناحية من المسجد ، وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال السائب بن يزيد{[11093]} : كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد على باب المسجد ، وفي مصحف أبي داود : كان بين يديه وهو على منبر أذان ، وهو الذي استعمل بنو أمية ، وبقي بقرطبة إلى الآن ، ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس ، فقوم عبروا عن زيادة عثمان بالثاني ، كأنهم لم يعتدوا الذي كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوم عبروا عنه بالثالث ، وقرأ الأعمش وابن الزبير : «الجمْعة » بإسكان الميم وهي لغة ، والمأمور بالسعي هو المؤمن الصحيح البالغ الحر الذكر ، ولا جمعة على مسافر في طاعة ، فإن حضرها أحسن ، وأجزأته .
واختلف الناس في الحد الذي يلزم منه السعي ، فقال مالك : ثلاثة أميال .
قال القاضي أبو محمد : من منزل الساعي إلى المنادي ، وقال فريق : من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء ، وقال أصحاب الرأي : يلزم أهل المدينة كلها السعي من سمع النداء ومن لم يسمع ، وإن كانت أقطارها فوق ثلاثة أميال . قال أبو حنيفة : ولا من منزله خارج المدينة كزرارة من الكوفة ، وإنما بينهما مجرى نهر ، ولا يجوز لهم إقامتها لأن من شروطها الجامع والسلطان القاهر ، والسوق القائمة ، وقال بعض أهل العلم : يلزم السعي من خمسة أميال ، وقال الزهري : من ستة أميال ، وقال أيضاً : من أربعة أميال وقاله ابن المنكدر ، وقال ابن عمر وابن المسيب وابن حنبل : إنما يلزم السعي من سمع النداء ، وفي هذا نظر . والسعي في الآية : ليس الإسراع في المشي كالسعي بين الصفا والمروة ، وإنما هو بمعنى قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[11094]} [ النجم : 39 ] ، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي سعي كله إلى ذكر الله تعالى ، قال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، فالسعي هو بالنية والإرادة ، والعمل{[11095]} و " الذكر " هو وعظ الخطبة قاله ابن المسيب ، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الملائكة على باب المسجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول إذا خرج الإمام طويت الصحف وجلست الملائكة يستمعون الذكر » ، والخطبة عند جمهور العلماء شرط في انعقاد الجمعة ، وقال الحسن : وهي مستحبة ، وقرأ عمر بن الخطاب ، وعلي وأبي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، وجماعة من التابعين : «فامضوا إلى ذكر الله »{[11096]} ، وقال ابن مسعود : لو قرأت «فاسعوا » لأسرعت حتى يقع ردائي .
واختلف الناس في : { البيع } في الوقت المنهي عنه إذا وقع ما الحكم فيه بعد إجماعهم على وجوب امتناعه بدءاً ، فقال الشافعي : يمضي ، وقال مرة : يفسخ ما لم يفت فإن فات صح بالقيمة ، واختلف في وقت التقويم ، فقيل : وقت القبض ، وقيل : وقت الحكم ، وقوله تعالى : { ذلكم } إشارة إلى السعي وترك البيع .