التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب ، أو أن يكفروا بعد إيمانهم ، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم فقال - تعالى - : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ، الاستفهام فى قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } للانكار ، ولاستبعاد كفرهم فى حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإيمان .

أى : كيف يتصور منكم الكفر ، أو يسوغ لكم أن تسيروا فى أسبابه وآيات الله تقرا على مسامعكم غضة طرية صباح مساء ، ورسول الله صلى الله عليكم وسلم بين ظهرانيكم ، يردكم إلى الصواب إن أخطأتم ، ويزيح شبهكم إن التبس عليكم أمر .

وفى هذا ما يومىء إلى إلقاء اليأس فى قلوب هذا الفريق من اليهود من أن يصلوا إلى ما يبغونه بين المؤمنين فى وقت يذكر النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما ينفعهم ؛ ويحذرهم مما يؤذيهم ويضرهم .

وفى توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر مبالغة ، لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا أنكر ونفى فى جميع الأحوال انتفى وجوده بالكلية بالطريق البرهانى .

وقوله : { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } جملتان حاليتان من فاعل { تَكْفُرُونَ } وهو ضمير الجماعة . وهاتان الجملتان هما محط الانكار والاستبعاد .

أى أن كلا تلاوة آيات الله وإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ، وازع لهم عن الكفر ، ودافع لهم إلى التمسك بعرى الإيمان .

ففى الآية الكريمة دلالة على عظمة قدر الصحابة ، وأن لهم وازعين عن مواقعة الضلال : سماع القرآن ، ومشاهدة أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن وجوده عصمة من ضلالهم .

قال قتادة : أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر .

ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى الوسيلة التى متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال - تعالى - { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .

أى ومن يتلجىء إلى الله فى كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل ، ويتمسك بدينه ، فقد هدى إلى الطريق الذى لا عوج فيه ولا انحراف .

وفى هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع .

قال ابن جرير ما ملخصه : وأصل العصم : المنع ، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به ولذلك قيل للحبل : عصام ، وللسبب الذى يتسبب به الرجل إلى حاجته عصام ، وأفصح اللغتين : إدخال الباء كما قال - عز وجل - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

93

وما كان يفزع المسلم - حينذاك - ما يفزعه أن يرى نفسه منتكسا إلى الكفر بعد الإيمان . وراجعا إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة . وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطا يلهب الضمير ، ويوقظه بشدة لصوت النذير . . ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير . . فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم ، وآيات الله تتلى عليهم ، ورسوله فيهم . ودواعي الإيمان حاضرة ، والدعوة إلى الإيمان قائمة ، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور :

( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ )

أجل . إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان . . وإذا كان رسول الله [ ص ] قد استوفى أجله ، واختار الرفيق الأعلى ، فإن آيات الله باقية ، وهدى رسوله [ ص ] باق . . ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون ، وطريق العصمة بين ، ولواء العصمة مرفوع :

( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .

أجل . إنه الاعتصام بالله يعصم . والله سبحانه باق . وهو - سبحانه - الحي القيوم .

ولقد كان رسول الله [ ص ] يتشدد مع أصحابه - رضوان الله عليهم - في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج ، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة ، كشؤون الزرع ، وخطط القتال ، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي ، ولا بالنظام الاجتماعي ، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان . . وفرق بين هذا وذلك بين . فمنهج الحياة شيء ، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر . والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله ، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة . .

قال الإمام أحمد : " حدثنا عبد الرازق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت . قال : جاء عمر إلى النبي [ ص ] فقال : يا رسول الله . إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة . ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغير وجه رسول الله [ ص ] قال عبد الله بن ثابت : قلت له : ألا ترى ما وجه رسول الله [ ص ] ؟ فقال عمر : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . قال : فسري عن النبي [ ص ] وقال : " والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم . إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين " .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر . قال : قال رسول الله [ ص ] " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء . فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا . وإنكم إما أن تصدقوا بباطل ، وإما أنتكذبوا بحق . وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " . . وفي بعض الأحاديث : " لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي " . .

هؤلاء هم أهل الكتاب . وهذا هو هدى رسول الله [ ص ] في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور ، أو بالشريعة والمنهج . . ولا ضير - وفق روح الإسلام وتوجيهه - من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة ، علما وتطبيقا . . مع ربطها بالمنهج الإيماني : من ناحية الشعور بها ، وكونها من تسخير الله للإنسان . ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية ، وتوفير الأمن لها والرخاء . وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية . شكره بالعبادة ، وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية . .

فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني ، وفي تفسير الوجود ، وغاية الوجود الإنساني . وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها ، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضا . . أما التلقي في شيء من هذا كله ، فهو الذي تغير وجه رسول الله [ ص ] لأيسر شيء منه . وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته . وهي الكفر الصراح . .

هذا هو توجيه الله - سبحانه - وهذا هو هدى رسوله [ ص ] فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون ، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا [ ص ] عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين ! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء ، ومن الفلاسفة والمفكرين : الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان ! وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة ! وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن ، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين . . أي دين . . ثم نزعم - والله - أننا مسلمون ! وهو زعم إثمه أثقل من إثم الكفر الصريح . فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ . حيث لا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون - مثلنا - أنهم مسلمون !

إن الإسلام منهج . وهو نهج ذو خصائص متميزة : من ناحية التصور الاعتقادي ، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها . ومن ناحية القواعد الأخلاقية ، التي تقوم عليها هذه الارتباطات ، ولا تفارقها ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية . وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها . فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية . ومما يتناقض مع طبيعة القيادة - كما أسلفنا - أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي . .

ولخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء . ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغدا . بل الأمر اليوم الزم ، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني . وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي ، الذي يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى .

لقد أحرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية . وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق - بالنسبة للماضي - وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة . . ولكن ما أثر هذا كله في حياتها ؟ ما أثره في حياتها النفسية ؟ هل وجدت السعادة هل وجدت الطمأنينة ؟ هل وجدت السلام ؟ كلا ! لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف . . والأمراض العصبية والنفسية ، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق ! . . إنها لم تتقدم كذلك في تصور غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية . . وحين تقاس غاية الوجودالإنساني وأهداف الحياة الإنسانية في ذهن الرجل المتحضر المعاصر ، إلى التصور الإسلامي في هذا الجانب ، تبدو هذه الحضارة في غاية القزامة ! بل تبدو لعنة تحط من تصور الإنسان لنفسه ومقامه في هذا الوجود ، وتسفل به ، وتصغر من اهتماماته ومن أشواقه ! . . والخواء يأكل قلب البشرية المكدود ، والحيرة تهد روحها المتعبة . . إنها لا تجد الله . . لقد أبعدتها عنه ملابسات نكدة . والعلم الذي كان من شأنه ، لو سار تحت منهج الله ، أن يجعل من كل انتصار للبشرية في ميدانه خطوة تقربها من الله ، هو ذاته الذي تبعد به البشرية أشواطا بسبب انطماس روحها ونكستها . . إنها لا تجد النور الذي يكشف لها غاية وجودها الحقيقية فتنطلق إليها مستعينة بهذا العلم الذي منحه الله لها ووهبها الاستعداد له . ولا تجد المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون ، وفطرتها وفطرة الكون ، وقانونها وناموس الكون . ولا تجد النظام الذي ينسق بين طاقاتها وقواها ، وآخرتها ودنياها ، وأفرادها وجماعاتها ، وواجباتها وحقوقها . . تنسيقا طبيعيا شاملا مريحا . .

وهذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي . وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج " رجعية ! " ويحسبونه مجرد حنين إلى فترة ذاهبة من فترات التاريخ . . وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود خطاها إلى السلام والطمأنينة ، كما يقود خطاها إلى النمو والرقي . . ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو . إننا نرى واقع البشرية النكد ، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه . ونرى . نرى هنالك على الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق ، والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع ؛ ونرى أن قيادة البشرية إن لم ترد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان ، ولكل معنى من معاني الإنسان !

وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج يتفرد ، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم . . كيما يظل المنهج نظيفا سليما . إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى . والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر ، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك ! . . وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم ؛ وما حرص رسول الله [ ص ] أن يعلمها إياه في تعليمه القويم . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وكيف تكفرون أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله ، فترتدوا على أعقابكم { وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } يعني : حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . { وفِيكُمْ رَسُولُهُ } حجة أخرى عليكم لله ، مع آي كتابه ، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ ، ويبصركم الهدى والرشاد ، وينهاكم عن الغيّ والضلال يقول لهم تعالى ذكره : فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوّة نبيكم ، وارتدادكم على أعقابكم ، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم ، إن أنتم راجعتم ذلك وكفرتم ، وفيه هذه الحجج الواضحة ، والاَيات البينة ، على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } . . . الاَية ، علمان بينان : وُجْدَانُ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الله¹ فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم¹ وأما كتاب الله ، فأبقاه الله بين أظهركم رحمة من الله ونعمة ، فيه حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته .

وأما قوله : { مَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فإنه يعني : ومن يتعلق بأسباب الله ، ويتمسك بدينه وطاعته ، { فَقَدْ هُدِيَ } يقول : فقد وفق لطريق واضح ومحجة مستقيمة غير معوجة ، فيستقيم به إلى رضا الله وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ } قال : يؤمن بالله .

وأصل العصم : المنع ، فكل مانع شيئا فهو عاصمه ، والممتنع به معتصم به ، ومنه قول الفرزدق :

أنا ابْنُ العاصِمينَ بني تَمِيم *** ٍإذَا ما أعْظَمُ الحدَثانِ نابَا

ولذلك قيل للحبل : عصام ، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته : عصام ، ومنه قول الأعشى :

إلى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السّرى *** وآخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عُصُمْ

يعني بالعُصُم : الأسباب ، أسباب الذمة والأمان ، يقال منه : اعتصمت بحبل من فلان ، واعتصمت حبلاً منه ، واعتصمت به واعتصمه . وأفصح اللغتين : إدخال الباء ، كما قال عزّ وجلّ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } وقد جاء «اعتصمته » ، كما قال الشاعر :

إذَا أنْتَ جازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ *** وَآسَيْتَنِي ثُمّ اعْتَصَمْتُ حبِالِيا

فقال : «اعتصمت حباليا » ، ولم يدخل الباء ، وذلك نظير قولهم : تناولت الخطام وتناولت بالخطام ، وتعلقت به وتعلقته ، كما قال الشاعر :

تَعَلّقْتَ هِنْدا ناشِئا ذَاتَ مِئْزَرٍ *** وأنتَ وَقد فارَقْتَ لمْ تَدْرِ ما الحِلْمُ

وقد بينت معنى الهدى والصراط وأنه معنّي به الإسلام فيما مضى قبل بشواهده ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .

وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحَاوُرْ القبيلتين الأوس والخزرج ، كان منه قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ } . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن الأغرّ بن الصباح ، عن خليفة بن حصين ، عن أبي نصر ، عن ابن عباس ، قال : كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر ، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا ، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح ، فنزلت هذه الاَية : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه } . . . إلى آخر الاَيتين ، { واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } . . . إلى آخر الاَية .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

{ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر . { ومن يعتصم بالله } ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره . { فقد هدي إلى صراط مستقيم } فقد اهتدى لا محالة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

قوله : { وكيف تكفرون } استفهام مستعمل في الاستبْعَاد استبعاداً لكفرهم ونفياً له ، كقول جرير :

كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكّ صَالِحَةٌ *** من آل لأمٍ بِظهْرِ الغَيْبِ تَأتينِي

وجملة { وأنتم تتلى عليكم آيات الله } حالية ، وهي محطّ الاستبعاد والنَّفي لأنّ كلاّ من تلاوة آيات الله وإقامة الرّسول عليه الصّلاة والسَّلام فيهم وازع لهم عن الكفر ، وأيّ وازع ، فالآيات هنا هي القرآن ومواعظه .

والظرفية في قوله : { وفيكم رسوله } حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة ، ومنّة جليلة ، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم ، تلك المزيّة الَّتي فاز بها أصحابه المخاطبون .

وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدْري : « لاَ تسبُّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لَوْ أنّ أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذَهَباً مَا بَلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه » النصيف نِصْف مدّ .

وفي الآية دلالة على عِظْم قدْر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال : سماعُ القرآن ، ومشاهدَة أنوار الرّسول عليه السَّلام فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم . قال قتادة : أمّا الرسول فقد مضى إلى رحمة الله ، وأمَّا الكتاب فباقٍ على وجه الدّهر .

وقوله : { ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم } أي من يتمسّك بالدّين فلا يخش عليه الضّلال . فالاعتصام هنا استعارة للتَّمسّك .

وفي هذا إشارة إلى التمسّك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الَّذين لم يشهدوا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعۡتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدۡ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (101)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله}، يعني القرآن، {وفيكم رسوله}، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. {ومن يعتصم بالله}، يعني يحترز بالله، فيجعله ثقته، {فقد هدي إلى صراط مستقيم} يعني إلى دين الإسلام...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وكيف تكفرون أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدوا على أعقابكم {وأنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ} يعني: حجج الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. {وفِيكُمْ رَسُولُهُ} حجة أخرى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصركم الهدى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عذركم عند ربكم في جحودكم نبوّة نبيكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إن أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة، والآيات البينة، على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه...

وأما قوله: {مَنْ يَعْتَصِمْ باللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسك بدينه وطاعته، {فَقَدْ هُدِيَ} يقول: فقد وفق لطريق واضح ومحجة مستقيمة غير معوجة، فيستقيم به إلى رضا الله وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته...

وأصل العصم: المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به... وقد بينت معنى الهدى والصراط وأنه معنّي به الإسلام...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وهو على وجه التعجب ظاهره، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم. {وفيكم رسوله} يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم. {ومن يعتصم بالله} أي من جعل الله جل وعلا ملجأ له ومفزعا عند الشبه والإشكال، {فقد هدي إلى صراط مستقيم} أي يحفظه عن الشبه، ويرشده {إلى صراط مستقيم}، والله أعلم. ويحتمل {ومن يعتصم بالله} يتمسك بالذي جاء من القرآن {فقد هدي إلى صراط مستقيم}...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"وكيف" موضوعة للاستفهام، ومعناها ههنا التعجب وإنما استعملت في ذلك، لأنها طلب للجواب عما حمل على الفساد فيما لا يصح فيما لا يصح فيه الاعتذار. والتعجب هو: حدوث إدراك مالم يكن يقدر لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله، ولذك لم يجز في صفة القديم، ولكن يجوز في صفة تعجيب العباد من بعض الأمور...

وقوله: "وفيكم رسوله" خطاب للذين عاصروه، فأما اليوم، فقد قال الزجاج: يجوز أن يقال: فينا رسول الله، ويراد به أن أثاره قائمة فينا، وأعلامه ظاهرة، وذلك بمنزلة لو كان موجودا فينا...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

المعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز {تتلى عَلَيْكُمْ} على لسان الرسول غضة طرية، وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم. {وَمَن يَعْتَصِم بالله}: ومن يتمسك بدينه. ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم، {فَقَدْ هُدِيَ} فقد حصل له الهدى لا محالة، كما تقول: إذا جئت فلاناً فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصلاً. ومعنى التوقع في {قَدْ} ظاهر، لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{كيف} في موضع نصب على الحال... والمعنى أجاحدين تكفرون؟ أجاهلين أمستخفين أمرتدين؟ ونحو هذا من التقدير...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المقصود: إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد، والمعنى: ومن يتمسك بدين الله، ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام... وأما قوله {فقد هدى إلى صراط مستقيم} فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله، فلما جعل ذلك الاعتصام فعلا لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر.

{ومن يعتصم بالله} ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره. {فقد هدي إلى صراط مستقيم} فقد اهتدى لا محالة...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

{وكيف تكفرون} إنكار واستبعاد...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

كلمة كيف كلمة تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال، فالمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله وهي القرآن حالاً بعد حال وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم يرشدكم إلى مصالحكم وذلك يمنع من وقوع الكفر فكان وقوع الكفر منهم بعيداً على هذا الوجه...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه، فلا يتطرّق إليهم كفر مع ذلك. وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون، ولذلك نودوا بقوله: يا أيها الذين آمنوا...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يعني: أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه؛ فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا ونهارًا، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 8] والآية بعدها. وكما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه:"أيُّ الْمُؤمِنِينَ أعْجَبُ إلَيْكُمْ إيمَانًا؟" قالوا: الملائكة. قال: "وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟! "وذكروا الأنبياء قال: "وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنزلُ عَلَيْهِمْ؟" قالوا: فنحن. قال: "وَكَيْفَ لا تُؤْمِنُونَ وأنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟!". قالوا: فأيّ الناس أعجب إيمانًا؟ قال:"قَوْمٌ يَجِيؤُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا". وقد ذكرت سَنَد هذا الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري، ولله الحمد.

ثم قال تعالى: {وَمَن يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أيّ: ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العُمْدة في الهداية، والعُدَّة في مباعدة الغَواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحوال الشريفة فقال -عاطفاً على ما تقديره: فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم: {وكيف تكفرون} أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {وأنتم تتلى} أي تواصل بالقراءة {عليكم آيات الله} أي علامات الملك الأعظم البينات {وفيكم رسوله} الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه {ومن} أي والحال أنه من {يعتصم} أي يجهد نفسه في ربط أموره {بالله} المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان. ولما كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال: {فقد هدى} وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين {إلى صراط مستقيم}.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(وفيكم رسوله) يبين لكم ما نزل إليكم، ولكم في سنته وإخلاصه خير أسوة تغذي إيمانكم وتنير برهانكم. فهل يليق بمن أوتوا هذه الآيات، ووجد فيهم هذا الرسول الحكيم الرؤوف الرحيم، أن يتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا، حتى استحوذ عليهم الشيطان، وغلب عليهم البغي والعدوان، وعرفوا بالكذب والبهتان؟ فالاستفهام في الآية للإنكار والاستبعاد: (ومن يعتصم بالله) وبكتابه يكون الاعتصام إذن هو حبله الممدود، ورسوله هو الوسيلة إليه. وهو ورده المورود: (فقد هدى إلى صراط مستقيم) لا يضل فيه السالك، ولا يخشى عليه من المهالك، فلا تروج عنده الشبهات ولا تروق في عينه الترهات وقد جاء جواب الشرط بصيغة الماضي المحقق للإشعار بأن من يلتجئ إليه تعالى ويعتصم بحبله فقد تحققت هدايته وثبتت استقامته...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وما كان يفزع المسلم -حينذاك- ما يفزعه أن يرى نفسه منتكسا إلى الكفر بعد الإيمان. وراجعا إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة. وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطا يلهب الضمير، ويوقظه بشدة لصوت النذير.. ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير.. فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم، وآيات الله تتلى عليهم، ورسوله فيهم. ودواعي الإيمان حاضرة، والدعوة إلى الإيمان قائمة، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟) أجل. إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان.. وإذا كان رسول الله [ص] قد استوفى أجله، واختار الرفيق الأعلى، فإن آيات الله باقية، وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم باق.. ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون، وطريق العصمة بين، ولواء العصمة مرفوع: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم).. أجل. إنه الاعتصام بالله يعصم. والله سبحانه باق. وهو -سبحانه- الحي القيوم. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشدد مع أصحابه -رضوان الله عليهم- في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة، كشؤون الزرع، وخطط القتال، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي، ولا بالنظام الاجتماعي، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان.. وفرق بين هذا وذلك بين. فمنهج الحياة شيء، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر. والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة.. قال الإمام أحمد: "حدثنا عبد الرازق، أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت. قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله. إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة. ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى -عليه السلام- ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم. إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين".

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والظرفية في قوله: {وفيكم رسوله} حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة، ومنّة جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزيّة الَّتي فاز بها أصحابه المخاطبون.

وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدْري: « لاَ تسبُّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لَوْ أنّ أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذَهَباً مَا بَلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه» النصيف: نِصْف مدّ.

وفي الآية دلالة على عِظْم قدْر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال: سماعُ القرآن، ومشاهدَة أنوار الرّسول عليه السَّلام فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم. قال قتادة: أمّا الرسول فقد مضى إلى رحمة الله، وأمَّا الكتاب فباقٍ على وجه الدّهر.

وقوله: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}... إشارة إلى التمسّك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الَّذين لم يشهدوا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 100]

قد نستوحي من هاتين الآيتين أنَّ على المسلمين أن يعيشوا حالة عالية من الوعي المتقدّم للأجواء المضادّة المحيطة بهم في مجتمعات الكفر والضلال، وأن يدرسوا الأساليب المعقَّدة التي يتبعها دعاة الكفر والضلال في تفتيت القوّة الإسلامية بما يثيرونه من رواسب التاريخ وخلافاته، وفي تضليل المسيرة الإسلامية وإبعادها عن الخطّ المستقيم، ليستطيعوا، من خلال ذلك، الانفتاح على القواعد الثابتة التي تحفظ لهم وحدتهم، وتصون لهم دينهم الحقّ عندما يعرفون سبيل الاعتصام باللّه الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم. وبذلك نعرف أنَّ السذاجة الفكرية والبساطة العملية اللتين تدفعان المسلم إلى الاستسلام لخطط العدوّ من خلال الغفلة عن طبيعته، ليستا من خُلق المسلم الذي يريده الإسلام واعياً للحقّ والفكر والطريق والمجتمع الذي من حوله في كلّ ما لديه من سلبيات وإيجابيات...

إذا أردنا أن نستوحي الفكرة العامّة من هذه الفقرة من الآية، فإنَّنا نستطيع تلخيص ذلك في نقطتين، تمثّلان القاعدة الثابتة الأصيلة في وسيلة المحافظة على تماسك الأمّة في عقيدتها أمام مخططات الأعداء، وهما: الارتباط بالفكرة من خلال مصادرها النقية الأصيلة، والارتباط بالقيادة المخلصة الرسالية في تخطيطها العملي لحركة الفكرة للحياة، لأنَّ الفكرة وحدها لا تستطيع حماية مسيرتها من الانزلاق والانحراف بدون قيادة تحرّك الفكرة في الخطّ السليم، كما أنَّ القيادة لا تستطيع القيام بدورها الأصيل إذا لم تكن القاعدة سائرة في خطّ الفكرة ومؤمنة بقيمتها الفكرية والروحية في الطريق الطويل. وقد نستوحي منها، أنَّ على الإنسان المسلم أن يلجأ إلى آيات اللّه ليستنطقها في عملية تحليلٍ لكلّ ما يُعرض عليه من دعوات وأفكار يجد فيها الهدى كلّ الهدى، والوعي كلّ الوعي، وأن يرجع إلى حياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسنته ليعيش معه الروح المنفتحة على النّاس في محبّة ممزوجة بالحذر، وفي وعي نابض بالحياة، وفي حياة متحرّكة في أكثر من اتجاه على أساسٍ من وضوح الرؤية لفكر الإنسان وواقعه في خطّ العقيدة والعمل، فإنَّ ذلك هو السبيل للاعتصام باللّه والسير على هداه. الاعتصام بحبل اللّه: [ومن يعتصم باللّه] بالتمسك بكتابه ورسوله ورسالته، والانفتاح عليه بالإخلاص والتَّقوى والاستقامة في خطّ اللّه، والوقوف بقوّة في مواجهة التحدّيات الكبرى التي تتحدّى قضايا المصير من أجل ردّ التحدّيات بمثلها وإطلاق التحدّي في وجه الكفر والاستكبار، وهو الموقف الذي يفرضه الانتماء إلى الإسلام في الفكر والعمل، [فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم] لأنَّ اللّه هو الحقّ وما يدعون من دونه الباطل، ولذلك فإنَّ الاعتصام به هو اعتصام بالخطّ المستقيم الذي يحفظ للإنسان دنياه وآخرته، ويقوده إلى النجاة في نعيم اللّه ورضوانه. وربَّما نحتاج إلى التوقف عند كلمة الاعتصام باللّه، وعلاقته بالاهتداء إلى الصراط المستقيم، فإنَّ الاعتصام باللّه يشير إلى التمسك بكلّ المفاهيم التي أوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم والسير مع كلّ الشرائع التي شرّعها للنّاس على لسانه، والتحرّك نحو كلّ الأهداف الكبيرة في الحياة التي أراد للإنسان أن يسير عليها من خلال وسائله الطاهرة النظيفة، وبذلك تستقيم للإنسان الرؤية الواضحة والمنهج المحدّد، والهدف الكبير الذي يبدأ من اللّه وينتهي إليه، فلا يبقى لديه أيّ شك أو ريب أو انحراف، بل هو الطريق المستقيم الذي لا عِوَجَ فيه ولا التواء. وفي هذا الجوّ نفهم أنَّ الاعتصام باللّه ليس كلمةً تُقال، ولكنَّه فكرٌ وخطٌّ وموقفٌ وهدفٌ يحكم حياة الإنسان في مجالاتها الفكرية والعملية؛ فإنَّ الإنسان الذي لا يعتصم باللّه يبقى عُرضةً للانحراف مع الخطوط المتنوّعة للأهواء المختلفة التي يثيرها الشَّيطان وجنوده في قلب الإنسان.

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية:

- الأخذ بالإِسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ يتساءل في عجب واستغراب (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفّاراً والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيكم، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المحيية؟

إن هذه العبارة ما هي في الحقيقة إلاَّ الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي اتصال دائم... ومع آياته صحبة دائمة، إن العجب إنما هو في الحقيقة من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟

إنه حقّاً يدعو إلى الدهشة والاستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور، ولاشك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا الضلال إن ضلوا لأنهم لم يضلوا إلاَّ عن بيّنة، ولم ينحرفوا إلاَّ بعد بصيرة... ولا شكّ أن عذابهم سيكون شديداً جدّاً لذلك.

سبب النزول:

كانت بين «الأوس» و«الخزرج» القبيلتين الكبيرتين القاطنتين في يثرب حروب طويلة دامية ومنازعات استمرت ما يقرب من مئة عام، وكانت المعارك والمناوشات تنشب بينهم بين فترة وأخرى وتكلف الجانبين خسائر جسيمة في الأموال والأرواح.

كلّ ذلك كان أيّام الجاهلية قبل بزوغ الإسلام وطلوع شمسه على تلك الربوع.

وقد كان ممّا وفق له الرسول ونجح فيه أكبر نجاح ـ بعد هجرته إلى المدينة (يثرب) ـ هو تمكنه من وضع حد لتلك المعارك والمناوشات وتلك المذابح والمجازر، وإقرار الإخاء مكان العداء وإحلال السلام محل الحروب، وتشكيل جبهة متحدة متراصة الصفوف، قوية البنيان والأركان في المدينة المنورة.

ولكن حيث إن جذور النزاع كانت قوية وعديدة جداً، كان ذلك الاتحاد يتعرض أحياناً لبعض الهزات بسبب بعض الاختلافات المنسية التي كانت تطفو على السطح أحياناً فتشتعل نيران النزاع بعد غياب، ولكن سرعان ما كانت تختفي مرّة أخرى بفضل تعليمات النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكمته، وتدبيره.

وقد لاحظنا في الآيات السابقة نموذجاً من تلك الاختلافات المتجددة التي كانت تبرز على أثر التحركات التي كان يقوم بها الأعداء الأذكياء، ولكن هذه الآيات تشير إلى نوع آخر من الاختلافات التي كان يسببها الأصدقاء الجاهلون، والعصبيات العمياء والحمقاء.

... ثمّ في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين ـ إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء، وأرادوا الاهتداء إلى الصراط المستقيم ـ أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم).

هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة، لأن الله سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له (قل) ولكنه عندما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الأخريين يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه (قل) وهذا يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين، وأنهم ـ دون غيرهم ـ لائقون بأن يخاطبهم الله مباشرة، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحداً.