التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

وبعد أن ذكر - سبحانه - الأساس فى قبول الأعمال ، وهو إخلاص العبادة له - عزَّ وجل - وحده ، أتبع ذلك بتأكيد هذا الأساس بما هو من شرائط الإِيمان الحق وشعائره فقال - تعالى - : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً . . } .

قال القرطبى ما ملخصه : { قضى } أى : أمر وألزم وأوجب . . .

والقضاء يستعمل فى اللغة على وجوه ، فالقضاء بمعنى الأمر ، كما فى هذه الآية والقضاء بمعنى الخلق كقوله { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } يعنى خلقهن ، والقضاء بمعنى الفراغ من الشئ ، كقوله { قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أى فرغ منه .

والقضاء بمعنى الارادة . كقوله - تعالى - : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . . } والمعنى : لقد نهى ربك عن الاشراك به نهيا قاطعا ، وأمر أمرا محكما لا يحتمل النسخ ، بأن لا تعبدوا أحدا سواه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، والقادر على كل شئ ، وغيره مخلوق وعاجز عن فعل شئ إلا بإذنه - سبحانه - .

فالجملة الكريمة أمر لازم لإِخلاص العبادة لله ، بعد النهى عن الإِشراك به فى قوله - تعالى - : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ . . } وقد جاء هذا الأمر بلفظ { قضى } زيادة فى التأكيد ، لأن هذا اللفظ هنا يفيد الوجوب القطعى الذى لا رجعة فيه ، كما أن اشتمال الجملة الكريمة على النفى والاستثناء - وهما أعلا مراتب القصر - يزيد هذا الأمر تأكيدا وتوثيقا .

ثم أتبع - سبحانه - الأمر بوحدانيته ، بالأمر بالإِحسان إلى الوالدين فقال : { وبالوالدين إحسانا } .

أى : وقضى - أيضا - بأن تحسنوا - أيها المخاطبون - إلى الوالدين إحسانا كاملا لا يشوبه سوء أو مكروه .

وقد جاء الأمر بالاحسان إلى الوالدين عقب الأمر بوجوب إخلاص العبادة لله ، فى آيات كثيرة . منها قوله - تعالى - : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً . . } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً . . } ولعل السر فى ذلك هو الإِشعار للمخاطبين بأهمية هذا الأمر المقتضى لوجوب الإِحسان إلى الوالدين ، حيث إنهما هما السبب المباشر لوجود الإِنسان فى هذه الحياة ، وهما اللذان لقيا ما لقيا من متاعب من أجل راحة أولادهما ، فيجب أن يقابل ما فعلاه بالشكر والاعتراف بالجميل .

قال بعض العلماء : وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب ، وهو الإِحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى سموا بالإِنسان عن أن تظن به الإِساءة إلى الوالدين ، وكأن الاساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها . . .

ثم فصل - سبحانه - مظاهر هذا الإِحسان فقال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً .

. } .

و { إما } حرف مركب من " إن " الشرطية ، ومن " ما " المزيدة عليها للتأكيد ، وقوله : { أحدهما } فاعل يبلغن . وقرأ حمزة والكسائى { إما يبلغان } فيكون قوله { أحدهما } بدل من ألف الاثنين فى { يبلغان } .

وقوله { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } جواب الشرط .

قال الآلوسى : و { أف } اسم صوت ينبئ عن التضجر ، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر . .

وفيه نحو من أربعين لغة . والوارد من ذلك فى القراءات سبع ثلاث متواترة ، وأربعة شاذة .

فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وهو للتنكير : فالمعنى : فلا تقل أتضجر تضجرًا ما .

وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر بدون تنوين . . .

وقوله { ولا تنهرهما } من النهر بمعنى الزجر ، يقال نهر فلان فلانا إذا زجره بغلظة .

والمعنى : كن - أيها المخاطب - محسنا إحسانا تاما بأبويك .

فإذا ما بلغ { عندك } أى : فى رعايتك وكفالتك { أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } سن الكبر والضعف { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أى : قولا يدل على التضجر منهما والاستثقال لأى تصرف من تصرفاتهما .

قال البيضاوى : والنهى عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الايذاء قياسا بطريق الأولى ، وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير - فإن هذا القول يدل على أنه لايملك شيئا قليلا أو كثيرا .

وقوله { ولا تنهرهما } أى : ولا تزجرهما عما يتعاطيانه من الأفعال التى لا تعجبك .

فالمراد من النهى الأول : المنع من إظهار التضجر منهما مطلقا .

والمراد من النهى الثانى : المنع من إظهار المخالفة لهما على سبيل الرد والتكذيب والتغليظ فى القول .

والتعبير بقوله : { عندك } يشير إلى أن الوالدين قد صارا فى كنف الابن وتحت رعايته ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن أصبح مسئولا عنهما ، بعد أن كانا هما مسئولين عنه .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى { عندك } قلت هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلاًّ على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده فى بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليانه منه فى حالة الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطاءة الخلق ، ولين الجانب ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلا عما يزيد عليه .

والتقييد بحالة الكبر فى قوله - تعالى - : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر } جرى مجرى الغالب ، إذ أنهما يحتاجان إلى الرعاية فى حالة الكبر ، أكثر من احتياجهما إلى ذلك فى حالة قوتهما وشبابهما ، وإلا فالإِحسان إليهما ، والعناية بشأنهما . واجب على الأبناء سواء كان الآباء فى سن الكبر أم فى سن الشباب أم فى غيرهما .

وقوله - سبحانه - : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } أمر بالكلام الطيب معهما . بعد النهى عن الكلام الذى يدل على الضجر والقلق من فعلهما .

أى : وقل لهما بدل التأفيف والزجر ، قولا كريما حسنا ، يقتضيه حسن الأدب معهما ، والاحترام لهما والعطف عليهما .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

22

( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) . .

فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة( قضى ) تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ( ألا تعبدوا إلا إياه ) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .

فإذا وضعت القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .

والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله ، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله :

( وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .

بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .

إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !

فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .

ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !

وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

القول في تأويل قوله تعالى { وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمّا يَبْلُغَنّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } .

يعني بذلك تعالى ذكره حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله ، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره .

وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله وَقَضَى رَبّكَ وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحدا . ذكر ما قالوا في ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه يقول : أمر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا زكريا بن سلام ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إنك عصيتَ ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : قضى الله ذلك عليّ ، قال الحسن ، وكان فصيحا : ما قضى الله : أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الاَية وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه ، فهذا قضاء الله العاجل ، وكان يُقال في بعض الحكمة : من أرضى والديه : أرض خالقه ، ومن أسخط والديه ، فقد أسخط ربه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَوَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيّاهُ قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، وفي حرف ابن مسعود : «وَصّى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا نصير بن أبي الأشعث ، قال : ثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا ، فقال : هذا على قراءة أبيّ بن كعب ، قال أبو كريب : قال يحيى : رأيت المصحف عند نصير فيه : «وَوَصّى رَبّكَ » يعني : وقضى ربك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال : وأوصى ربك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قرأها : «وَوَصّى رَبّكَ » وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .

وقوله : وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما . ومعنى الكلام : وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين فلما حذفت «أن » تعلق القضاء بالإحسان ، كما يقال في الكلام : آمرك به خيرا ، وأوصيك به خيرا ، بمعنى : آمرك أن تفعل به خيرا ، ثم تحذف «أن » فيتعلق الأمر والوصية بالخير ، كما قال الشاعر :

عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا *** ومِنْ أبي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا

*** خَيْرا بها كأننا جافُونا ***

وعمل يوصينا في الخير .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء الكوفيين : إمّا يَبْلُغَنّ على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد ، فوحدوا يَبْلُغَنّ لتوحيده ، وجعلوا قوله أوْ كِلاهُما معطوفا على الأحد . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «إما يَبْلُغانّ » على التثنية وكسر النون وتشديدها ، وقالوا : قد ذكر الوالدان قبل ، وقوله : «يَبْلُغانّ » خبر عنهما بعد ما قدّم أسماءهما . قالوا : والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين أو جماعة . قالوا : والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون . قالوا : وقوله أحَدُهُما أوْ كِلاهُما كلام مستأنف ، كما قيل : فَعَمُوا وَصَمّوا ثم تَاب اللّهُ عَلَيْهِمْ ، ثم عَمُوا وَصَمّوا كَثِيرٌ منهُمْ وكقوله وأسَرّوا النّجْوَى ثم ابتدأ فقال الّذِينَ ظَلَمُوا .

وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك ، قراءة من قرأه إما يَبْلُغَنّ على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما ، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين ، قد تناهى عند قوله وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا ثم ابتدأ قوله إمّا يَبْلُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما .

وقوله : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ يقول : فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذّى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما ، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما ، كما صبرا عليك في صغرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ وَلا تَنْهَرْهُما قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أفّ تقذّرهما .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : إما يَبْلُغانّ عِندك الكبر فلا تَقُل لهما أف حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرا ، ولا تؤذهما .

وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى «أفّ » ، فقال بعضهم : معناه : كلّ ما غلظ من الكلام وقبُح . وقال آخرون : الأفّ : وسخ الأظفار والتف كلّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير . وللعرب في «أُفّ » لغات ستّ رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها فمن خفض ذلك بالتنوين ، وهي قراءة عامة أهل المدينة . شبهها بالأصوات التي لا معنى لها ، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق ، فخفضوا القاف ونوّنوها ، وكان حكمها السكون ، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف ، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين ، فحرّكوا إلى أقرب الحركات من السكون ، وذلك الكسر ، لأن المجزوم إذا حرّك ، فإنما يحرّك إلى الكسر . وأما الذين خفضوا بغير تنوين ، وهي قراءة عامة قرّاء الكوفيين والبصريين ، فإنهم قالوا : إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا ، كالذي يأتي على حرفين مثل : مَه وصَه وبَخ ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنيه الأسماء . قالوا : وأفّ تامّ لا حاجة بنا إلى تتمته بغيره ، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف . قالوا : وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين . وأما من ضمّ ونوّن ، فإنه قال : هو اسم كسائر الأسماء التي تُعرب وليس بصوت ، وعدل به عن الأصوات . وأما من ضمّ ذلك بغير تنوين ، فإنه قال : ليس هو باسم متمكن فيُعرب بإعراب الأسماء المتمكنة ، وقالوا : نضمه كما نضمّ قوله لِلّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وكما نضمّ الاسم في النداء المفرد ، فنقول : يا زيد . ومن نصبه بغير تنوين ، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم : مدّ يا هذا وردّ . ومن نصب بالتنوين ، فإنه أعمل الفعل فيه ، وجعله اسما صحيحا ، فيقول : ما قلت له : أفا ولا تفا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : قُرِئت : أفّ ، وأفا لغة جعلوها مثل نعتها . وقرأ بعضهم «أُفّ » ، وذلك أن بعض العرب يقول : «أفّ لك » على الحكاية : أي لا تقل لهما هذا القول . قال : والرفع قبيح ، لأنه لم يجيء بعده بلام ، والذين قالوا : «أُفّ » فكسروا كثير ، وهو أجود . وكسر بعضهم ونوّن . وقال بعضهم : «أُفّي » ، كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه ، فقال : أُفّي هذا لكما ، والمكسور من هذا منوّن وغير منوّن على أنه اسم غير متمكن ، نحو أمس وما أشبهه ، والمفتوح بغير تنوين كذلك . وقال بعض أهل العربية : كل هذه الحركات الستّ تدخل في «أفّ » حكاية تشبه بالاسم مرّة وبالصوت أخرى . قال : وأكثر ما تُكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ . وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات «أفّ » مثل : ليت ومَدّ ، وأُفّ مثل مُدّ يُشبه بالأدوات . وإذا قال أَفّ مثل صَهّ . وقالوا سمعت مِضّ يا هذا ومِضّ . وحُكي عن الكسائي أنه قال : سمعت «ما علمك أهلك إلا مِضّ ومِضّ » ، وهذا كأفّ وأفّ . ومن قال : «أُفّا » جعله مثل سُحْقا وبُعدا .

والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك ، قراءة من قرأه : «فلا تَقُلْ لَهُما أُفّ » بكسر الفاء بغير تنوين لعلّتين إحداهما : أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب والثانية : أن حظّ كلّ ما لم يكن له معرَب من الكلام السكون فلما كان ذلك كذلك . وكانت الفاء في أفّ حظها الوقوف ، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه ، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلى الكسر حرّكت إلى الكسر ، كما قيل : مُدّ وشُدّ ورُدّ الباب .

وقوله : وَلا تَنْهَرْهُما يقول جلّ ثناؤه : ولا تزجُرهما . كما :

حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمَسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا واصل الرّقاشَيّ ، عن عطاء ابن أبي رَباح ، في قوله : وَلا تَقُلْ لَهُما أُفَ وَلا تَنْهَرْهُما قال : لا تنفض يدك على والديك . يقال منه : نَهرَه يَنهره نَهْرا ، وانتهره ينتهره انتهارا .

وأما قوله : وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقل لهما قولاً جميلاً حسنا . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما قال : أحسن ما تجد من القول .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا المتعمر بن سليمان ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب قَوْلاً كَرِيما قالا : لا تمتنع من شيء يريدانه .

قال أبو جعفر : وهذا الحديث خطأ ، أعني حديث هشام بن عُروة ، إنما هو عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، ليس فيه عمر ، حدّث عن ابن عُلية وغيره ، عن عبد الله بن المختار .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما : أي قولاً ليّنا سهلاً .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حَرْملة بن عمران ، عن أبي الهَدّاج التّجِيبي ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : كلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن من برّ الوالدين ، فقد عرفته ، إلاّ قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيما ما هذا القول الكريم ؟ فقال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ وقضى ربك } أمر مقطوعا به . { ألا تعبدوا } بأن لا تعبدوا . { إلا إياه } لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة . ويجوز أن تكون { أن } مفسرة و{ لا } ناهية . { وبالوالدين إحسانا } وبأن تحسنوا ، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش ، ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم عليه . { إما يبلُغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } { إما } هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا ولذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل ، وأحدهما فاعل { يبلغن } ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف " يبلغان " الراجع إلى " الوالدين " ، وكلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف ، ومعنى { عندك } أن يكونا في كنفك وكفالتك . { فلا تقل لهما أفٍّ } فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت يدل على تضجر . وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر ، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتنكير . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالفتح على التخفيف . وقرئ به منونا وبالضم للاتباع كمنذ منونا وغير منون ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى . وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير ، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين ، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما . { ولا تنهرهما } ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ . وقيل النهي والنهر والنهم أخوات . { وقل لهما } بدل التأفيف والنهر . { قولا كريما } جميلا لا شراسة فيه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه }

عطف على الكلام السابق عطف غرض على غرض تخلصاً إلى أعمدة من شريعة الإسلام بمناسبة الفذلكة المتقدمة تنبيهاً على أن إصلاح الأعمال متفرع على نبذ الشرك كما قال تعالى : { فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 13 17 ] .

وقد ابتُدىء تشريع للمسلمين أحكاماً عظيمة لإصلاح جامعتهم وبناء أركانها ليزدادوا يقيناً بارتفاعهم على أهل الشرك وبانحطاط هؤلاء عنهم ، وفي جميعها تعريض بالمشركين الذين كانوا منغمسين في المنهيات . وهذه الآيات أول تفصيل للشريعة للمسلمين وقع بمكة ، وأن ما ذكر في هذه الآيات مقصود به تعليم المسلمين . ولذلك اختلف أسلوبه عن أسلوب نظيره في سورة الأنعام الذي وُجه فيه الخطاب إلى المشركين لتوقيفهم على قواعد ضلالتهم .

فمن الاختلاف بين الأسلوبين أن هذه الآية افتتحت بفعل القضاء المقتضي الإلزام ، وهو مناسب لخطاب أمة تمتثل أمر ربها ، وافتتح خطاب سورة [ الأنعام : 151 ] ب { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } كما تقدم هنالك .

ومنها أن هذه الآية جعلت المقضي هو توحيد الله بالعبادة ، لأنه المناسب لحال المسلمين فحذرهم من عبادة غير الله . وآية الأنعام جعلت المحرم فيها هو الإشراك بالله في الإلهية المناسب لما كانوا عليه من الشرك إذ لا عبادة لهم .

وأن هذه الآية فصل فيها حكم البر بالوالدين وحكم القتل وحكم الإنفاق ولم يفصل ما في آية الأنعام .

وكان ما ذكر في هذه الآيات خمسة عشر تشريعاً هي أصول التشريع الراجع إلى نظام المجتمع .

وأحسب أن هذه الآيات اشتهرت بين الناس في مكة وتناقلها العرب في الآفاق ، فلذلك ألَمّ الأعشى ببعضها في قصيدته المروية التي أعدها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء يريد الإيمان فصدته قريش عن ذلك ، وهي القصيدة الدالية التي يقول فيها :

أجدّك لم تسمع وَصاة محمــــد *** نبيء الإله حين أوصى وأشهدا

فإياك والميتاتِ لا تأكلنهـــــا *** ولا تأخذنْ سهماً حديداً لتفصـدا

وذا النُصُب المنصوب لا تنسكنـه *** ولا تَعبد الشيطانَ والله فاعبـدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنـــه *** لفاقتـــه ولا الأسيرَ المقـيدا

ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة *** ولا تَحسبن المال للمرء مخلـدا

ولا تقربَنّ جارةً إن سرهــــا *** عليك حَرام فانكحَنّ أو تأبّــدا{[270]}

وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماماً به وأنه مما أمر الله به أمراً جازماً وحكماً لازماً ، وليس هو بمعنى التقدير كقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } [ الإسراء : 4 ] لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع .

و ( أنْ ) يجوز أن تكون تفسيرية لما في ( قضى ) من معنى القول . ويجوز أن تكون مصدرية مجرورة بباء جر مقدرة ، أي قضى بأن لا تعبدوا . وابتدىء هذا التشريع بذكر أصل التشريعة كلها وهو توحيد الله ، فذلك تمهيد لما سيذكر بعده من الأحكام .

وجيء بخطاب الجماعة في قوله : { ألا تعبدوا إلا إياه } لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين .

والخطاب في قوله : { ربك } للنبيء صلى الله عليه وسلم كالذي في قوله قبل : { من عطاء ربك } [ الإسراء : 20 ] ، والقرينة ظاهرة . ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد .

وابتدىء التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح ، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل ، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحاً . وفي الحديث : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب » وقد فصلت ذلك في كتابي المسمى « أصول النظام الاجتماعي في الإسلام » .

{ وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما } .

هذا أصل ثانٍ من أصول الشريعة وهو بر الوالدين .

وانتصب { إحساناً } على المفعولية المطلقة مصدر نائباً عن فعله . والتقدير : وأحسنوا إحساناً بالوالدين كما يقتضيه العطف على { ألا تعبدوا إلا إياه } أي وقضى إحساناً بالوالدين .

{ وبالوالدين } متعلق بقوله ؛ { إحساناً } ، والباء فيه للتعدية يقال : أحسن بفلان كما يقال أحسن إليه ، وقد تقدم قوله تعالى : { وقد أحسن بي } في سورة [ يوسف : 100 ] . وتقديمه على متعلقه للاهتمام به ، والتعريف في الوالدين للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في { ألا تعبدوا } .

وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس . ولما جعل الله الأبوين مظهرَ إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما ، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان ، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة ، ، وسببُ الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة ، ولأنه ليس بمُوجد حقيقي ، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما ، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي { وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً } .

وشمل الإحسان كل ما يصدق فيه هذا الجنس من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة .

وجملة { إما يبلغن } بيان لجملة { إحساناً } ، و { إما } مركبة من ( إن ) الشرطية و ( ما ) الزائدة المهيئة لنون التوكيد ، وحقها أن تكتب بنون بعد الهمزة وبعدها ( ما ) ولكنهم راعوا حالة النطق بها مدغمة فرسموها كذلك في المصاحف وتبعها رسم الناس غالباً ، أي إن يبلغ أحدُ الوالدين أو كلاهما حد الكبَر وهما عندك ، أي في كفالتك فَوَطّىء لهما خُلُقك ولين جانبك .

والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذٍ . وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله : { ألا تعبدوا إلا إياه } فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب غير المعين يساوي خطاب الجمع .

وخص هذه الحالة بالبيان لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمّه من مشقة القيام بشؤونهما ومن سوء الخلق منهما .

ووجه تَعدد فاعل { يبلغن } مُظهراً دون جعله بضمير التثنية بأن يقال إما يبلغَانِّ عندك الكبر ، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر ، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما ، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حُبّاً له دون ما لو كان أحدهما منفرداً عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد ، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له . وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما ، فالاحتياج إلى { أو كلاهما } في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرَج عليه ، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء ، فكانت جملة { فلا تقل لهما أف } بتمامها جواباً ل ( إما ) .

وأكد فعل الشرط بنون التوكيد لتحقيق الربط بين مضمون الجواب ومضمون الشرط في الوجود . وقرأ الجمهور { إما يبلغن } على أن { أحدهما } فاعل { يبلغن } فلا تلحق الفعل علامة لأنّ فاعله اسم ظاهر .

وقرأ حمزة والكسائي وخلف { يبلغان } بألف التثنية ونون مشددة والضمير فاعل عائد إلى الوالدين في قوله : { وبالوالدين إحساناً } ، فيكون { أحدهما أو كلاهما } بدلاً من ألف المثنى تنبيهاً على أنه ليس الحكم لاجتماعهما فقط بل هو للحالتين على التوزيع .

والخطاب ب { عندك } لكل من يصلح لسماع الكلام فيعم كل مخاطب بقرينة سبق قوله : { ألا تعبدوا إلا إياه } ، وقوله اللاحق { ربكم أعلم بما في نفوسكم } [ الإسراء : 25 ] .

{ أف } اسم فعل مضارع معناه أتضخر . وفيه لغات كثيرة أشهرها كلها ضم الهمزة وتشديد الفاء ، والخلاف في حركة الفاء ، فقرأ نافع ، وأبو جعفر ، وحفص عن عاصم بكسر الفاء منونة . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء غيرَ منونة . وقرأ الباقون بكسر الفاء غير منونة .

وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما { أف } خاصة ، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوْجز كلمة ، وبأنها غير دالة على أكثر من حصُول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم ، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأوْلى .

ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يُحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى . والنهر الزجر ، يقال : نهره وانتهره .

ثم أمر بإكرام القول لهما . والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه .

وتقدم عند قوله تعالى : { ومغفرة ورزق كريم } في سورة [ الأنفال : 4 ] .

وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذر مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع .

ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذل لهما لإزالة و حشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد ، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما . والقصد من ذلك التخلق بشكره على أنعامهما السابقة عليه .

وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللاً . ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذُؤْيبَ :

وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيتَ كل تميمة لا تنفع

وبمنزلة تخييل اليد للشمال بفتح الشين والزمام للقرة في قول لبيد :

وغداة ريح قد كشفت وقِرةٍ *** إذْ أصبحت بيد الشمال زِمامها

ومجموع هذه الاستعارة تمثيل . وقد تقدم في قوله : { واخفض جناحك للمؤمنين } في سورة [ الحجر : 88 ] .

والتعريف في { الرحمة } عوض عن المضاف إليه ، أي من رحمتك إياهما . و ( من ) ابتدائية ، أي الذل الناشىء عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة . والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقاً ، كما قيل :

إن التخلق يأتي دونه الخلق

وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين ، ولا يُطاعان في معصية ولا كفر كما في آية سورة العنكبوت .

ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معاً في ذلك ، لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه وذلك قابل للتسوية . ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر . ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع .

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة : « أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم مَن أحقّ الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . قال : ثم مَن ؟ قال : ثم أمُّك . قال : ثم مَن ؟ قال : ثم أمُّك . قال : ثمّ من ؟ قال : ثم أبوك »

وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه .

وللعلماء أقوال :

أحدها : ترجيح الأم على الأب وإلى هذا ذهب الليث بن سعد ، والمحاسبي ، وأبو حنيفة . وهو ظاهر قول مالك ، فقد حكى القرافي في الفرق 23 عن مختصر الجامع أن رجلاً سأل مالكاً فقال : إن أبي في بلد السودان وقد كتب إليّ أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك ؟ فقال مالك : أَطِعْ أباك ولا تعْص أمك .

وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكاً أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم .

الثاني : قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر . وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين .

وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب « الرعاية » أنه قال : لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع . وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث ، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال : ثم أبوك بعد المرة الثانية أو بعد المرة الثالثة .

والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال .

ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى .


[270]:- التأبد : التعزب