ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وقوله { لَتُبْلَوُنَّ } جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .
وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .
والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن { في أَمْوَالِكُمْ } بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى { أَنْفُسِكُمْ } بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } وهم اليهود والنصارى { وَمِنَ الذين أشركوا } وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا { أَذًى كَثِيراً } كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .
وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } .
وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .
ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .
وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .
ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . { وَتَتَّقُواْ } الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .
والإشارة فى قوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .
وقوله { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } دليل على جواب الشرط .
والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .
فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .
ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء :
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره ، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ، وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو ، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء ، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك ، مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ، وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم ، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ، ومزالق الطريق ، ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير ، ولا بد فيها من سر ، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله ، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء :
( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل ، ولم تتراجع ، ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها ، تتوالى القرون والأجيال ؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة ، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) !
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها ، وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية ، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى ، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ، ووسائل الدعاية الحديثة ، لتشويه أهدافها ، وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة ، وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى ، وحين تعوي حولها بالدعاية ، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق ، وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
كله ، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ؛ وتمضي في طريقها الموعود ، إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
{ لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : { لُتبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ } لتختبرن بالمصائب في أموالكم وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم ، { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : من اليهود وقولهم { إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياءُ } وقولهم { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ } وما أشبه ذلك من افترائهم على الله . { وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا } يعني النصارى ، { أذًى كَثِيرا } والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : المسيح ابن الله ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله . { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا } يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته وتتقوا ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته . { فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به . وقيل إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع . كالذي :
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة في قوله : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثيرا } قال : نزلت هذه الاَية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدّه ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : «لا تَفْتَاتَنّ عليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجِعَ » فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : قد احتاج ربكم أن نمده ! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَفْتاتَنّ عَليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجعَ » فكف¹ ونزلت : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ } وما بين الاَيتين إلى قوله : { لَتُبْلَوْنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } نزلت هذه الاَيات في بني قينقاع ، إلى قوله : { فإنْ كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } . قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم فينظر كيف صبرهم على دينهم ، ثم قال : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : اليهود والنصارى ، { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : عزير ابن الله ، ومن النصارى : المسيح ابن الله ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب ، ويسمعون إشراكهم ، فقال الله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به .
وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشبب بنساء المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي¹ فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة ، قال : فليدن إليّ بعضكم ، فليحدثني بحاجته ! فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها ، فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس . فأتوه ، فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب ! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم . قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهنوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا ، قال : فقالوا إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وَسْق ، وهذا رهينة وسقين ! فقال : أترهنوني نسائكم ؟ قالوا : أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم . فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم ! قالوا : فانزل إلينا نأخذ عليك ، وتأخذ علينا . فذهب ينزل ، فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك . قال : لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني . قالت : فكلمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوح ريحه ، قالوا : ما هذه الريح يا فلان ؟ قال : هذا عطر أم فلان ! امرأته . فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله ! فطعنه أبو عبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ، ثم رجعوا . فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قتل سيدنا غيلة ! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ، ويحرض في قتالهم ، ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا ، فقال : فكان ذلك الكتاب مع عليّ رضوان الله عليه .
{ لتبلون } أي والله لتختبرن . { في أموالكم } بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات . { وأنفسكم } بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب . { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين . أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها . { وإن تصبروا } على ذلك . { وتتقوا } مخالفة أمر الله . { فإن ذلك } يعني الصبر والتقوى . { من عزم الأمور } من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه . والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه .
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن إغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة{[3761]} ، و«الأذى » : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم » : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال{[3762]} :
إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ . . . وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا
وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد : الحاء مبدلة من العين .
قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم » : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت }{[3763]} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم و لو أعزم{[3764]} .
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة .
فأصل { لتبلونّ } لتبلوونّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ . وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : { ولتسمعنّ } وفي توكيده .
والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات . والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة . والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح . وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده .
والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] كما تقدّم آنفاً ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد ، وهي بعد الأمر بالقتال . قاله القفّال .
وقوله : { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور .
و ( عزم الأمور ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم ، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها . والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ] .
ووقع قوله : { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور .