التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته وحكمته ، وابتلائه لعباده بشتى أنواع الابتلاء ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه .

فقال - تعالى - :

{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً . . . } .

قال الإِمام ابن كثير : يقول الله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار } أى : خزانها { إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أى : غلاظا شدادا . وذلك رد على مشركى قريش حين ذكر عدد الخزنة . فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ؟ فقال الله - تعالى - :

{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أى : شديدى الخلق لا يقاومون ولا يغالبون .

وقد قيل : إن أبا الأشد - واسمه : كلدة بن أسيد بن خلف - قال : يا معشر قريش ، اكفونى منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر ، إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة - فيما يزعمون - أنه كان يقف على جلد البقرة ، ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ، ولا يتزحزح عنه . .

وقال الجمل فى حاشيته : قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ! محمد صلى الله عليه وسلم يخبر أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منكم ؟

فقال أبو الأشد : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، عشرة على ظهرى ، وسبعة على بطنى .

وأكفونى أنتم اثنين . . فأنزل الله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً . . } .

والمقصود من هذه الآية الكريمة الرد على المشركين ، الذين سخروا من النبى صلى الله عليه وسلم عندما عرفوا منه أن على سقر تسعة عشر ملكا يتولون أمرها . .

أى : أننا أوجدنا النار لعذاب الكافرين ، وما جعلنا خزنتها إلا من الملائكة الغلاظ الشداد ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم أو مخالفة أمرهم ، لأنهم أشد بأسا ، وأقوى بطشا من كافة الإِنس والجن . .

والاستثناء من عموم الأنواع . أى : وما جعلنا أصحاب النار إلا من نوع الملائكة ، الذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم . .

وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } بيان لحكمة أخرى من ذكر هذا العدد . .

والفتنة بمعنى الاختبار والامتحان . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته بها ، لتعلم جودته من رداءته . وقوله : { إِلاَّ فِتْنَةً } مفعول ثان لقوله { جَعَلْنَا } والكلام على حذف مضاف . .

أى : وما جعلنا عدة خزنة النار تسعة عشر ، إلا ليكون هذا العدد سبب فتنة واختبار للذين كفروا ، ولقد زادهم هذا الامتحان والاختبار جحودا وضلالا ، ومن مظاهر ذلك أنهم استهزأوا بالنبى صلى الله عليه وسلم عندما قرأ عليهم القرآن ، فحق عليهم عذابنا ووعيدنا . .

قال الإِمام الرازى : وإنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين : الأول أن الكفار كانوا يستهزئون ويقولون : لم لا يكونون عشرين - بدلا من تسعة عشر - وما المقتضى لتخصيص هذا العدد ؟

والثانى أن الكفار كانوا يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكون وافيا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإِنس .

. ؟

وأجيب عن الأول : بأن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض ، وأفعال الله - تعالى - لا تعلل ، فلا يقال فيها لم كان هذا العدد ، فإن ذكره لحكمة لا يعلمها إلا هو - سبحانه - .

وأجيب عن الثانى : بأنه لا يبعد أن الله - تعالى - يعطى ذلك العدد القليل قوة تفى بذلك ، فقد اقتلع جبريل وحده ، مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ، ورفعها إلى السماء . . ثم قلبها ، فجعل عاليها سافلها . .

- وأيضا - فأحوال القيامة ، لا تقاس بأحوال الدنيا ، وليس للعقل فيها مجال . .

وقوله - سبحانه - : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً . . . } علة أخرى ، لذكر هذا العدد . والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء للمبالغة .

أى : وما جعلنا عدتهم كذلك - أيضا - إلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، إذ أن الكتب السماوية التى بين أيديهم قد ذكرت هذا العدد ، كما ذكره القرآن الكريم ، وإذا ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، بصدق نبيهم صلى الله عليه وسلم ، إذ أن الإِخبار عن المغيبات عن طريق القرآن الكريم ، من شأنها أن تجعل الإِيمان فى قلوب المؤمنين الصادقين ، يزداد رسوخا وثباتا .

قال الإِمام ابن كثير : قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } أى : يعلمون أن هذا الرسول حق ، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله . .

وقال الآلوسى : وأخرج الترمذى وابن مردويه عن جابر قال : " قال ناس من اليهود ، لأناس من المسلمين : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هكذا وهكذا " فى مرة عشرة . وفى مرة تسعة " .

وقال الآلوسى : واستشعر من هذا أن الآية مدنية ، لأن اليهود إنما كانوا فيها ، وهو استشعار ضعيف ، لأن السؤال لصحابى فلعله كان مسافرا فاجتمع بيهودى حيث كان - وأيضا - لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة . .

وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } معطوف على قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ . . } وهو مؤكد لما قبله ، من الاستيقان وازدياد الإِيمان ، ونفى لما قد يعترى المستيقن من شبهة عارضة .

أى : فعلنا ما فعلنا ليكتسب أهل الكتاب اليقين من نبوته صلى الله عليه وسلم وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم . ولتزول كل ريبة أو شبهة قد تطرأ على قلوب الذين أوتوا الكتاب ، وعلى قلوب المؤمنين . .

وقوله - سبحانه - : { وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } بيان لعلة أخرى لكون خزنة سقر تسعة عشر .

أى : ما جعلنا عدتهم كذلك إلا فتنة للذين كفروا ، وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا ليزداد الذين آمنوا إيمانا ، وإلا لنزول الريبة من قلوب الفريقين ، وإلا ليقول الذين فى قلوبهم مرض ، أى : شك وضعف إيمان ، وليقول الكافرون المصرون على التكذيب : ما الأمر الذى أراده الله بهذا المثل ، وهو جعل خزنة سقر تسعة عشر ؟ فالمقصود بالاستفهام فى قوله - تعالى - : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } الإِنكار . والإِشارة بهذا مرجعها إلى قوله - تعالى - قبل ذلك : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } وقوله : { مثلا } حال من اسم الإِشارة ، والمراد به العدد السابق . وسموه مثلا لغرابته عندهم . أى : ما الفائدة فى أن تكون عدة خزنة سقر تسعة عشر ، وليسوا أكثر أو أقل ؟ وهم يقصدون بذلك نفى أن يكون هذا العدد من عنده - تعالى - .

قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أى : أى شئ أراده الله - تعالى - ، أو ما الذى أراده الله - تعالى - بهذا العدد المستغرب استغراب المثل .

وعلى الأول تكون { ماذا } بمنزلة اسم واحد . . وعلى الثانى : هى مؤلفة من كلمة { ما } اسم استفهام مبتدأ ، و { ذا } اسم موصول خبره ، والجملة بعده صلة ، والعائد فيها محذوف ، { ومثلا } نصب على التمييز أو على الحال . . وعنوا بالإِشارة : التحقير ، وغرضهم : نفى أن يكون ذلك من عند الله - تعالى - . .

واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ } يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق ، من استيقان أهل الكتاب ، وازدياد المؤمنين إيمانا ، واستنكار الكافرين ومن فى قلوبهم مرض لهذا المثل .

أى : مثل ذلك الضلال الحاصل للذين فى قلوبهم مرض للكافرين ، يضل الله - تعالى - من يشاء إضلاله من خلقه ، ومثل ذلك الهدى الحاصل فى قولب المؤمنين ، يهدى الله من يشايء هدايته من عباده ، إذ هو - سبحانه - الخالق لكل شئ ، وهو على كل شئ قدير .

ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يخرس ألسنة الكافرين ، الذين أنكروا هذا العدد الذى جعله الله - تعالى - على سقر ، ليتصرف فيها على حسب إرادته - تعالى - ومشيئته ، فقال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } والجنود : جمع جند ، وهو اسم لما يتألف منه الجيش من أفراد .

والمراد بهم هنا : مخلوقاته - تعالى - الذين سخرهم لتنفيذ أمره ، وسموا جنودا ، تشبيها لهم بالجنود فى تنفيذ مراده - سبحانه - .

أى : وما يعلم عدد جنود ربك - أيها الرسول الكريم - ولا مبلغ قوتهم ، إلا هو - عز وجل - وما هذا العدد الذى ذكرناه لك إلا جزء من جنودنا ، الذين حجبنا علم عددهم وكثرتهم .

. عن غيرنا .

قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } أى : وما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو - تعالى - ، لئلا يتوهم متوهم أنماهم تسعة عشر فقط .

وقد ثبت فى حديث الإِسراء المروى فى الصحيحين وغيرهما ، " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى صفة البيت المعمور ، الذى فى السماء السابعة : فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك . . "

والضمير فى قوله : { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } يعود إلى سقر . . أى : وما سقر التى ذكرت لكم أن عليها تسعة عشر ملكا يلون أمرها ، إلا تذكرة وعظة للبشر ، لأن من يتذكر حرها وسعيرها وشدة عذابها . . من شأنه ، أن يخلص العبادة لله - تعالى - ، وأن يقدم فى دنياه العمل الصالح الذى ينفعه فى أخراه .

وقيل : الضمير للآيات الناطقة بأحوال سقر . أى : وما هذه الآيات التى ذكرت بشأن سقر وأهوالها إلا ذكرى للبشر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

فأما المؤمنون فقد تلقوا كلمات الله بالتسليم اللائق بمن وثق بربه ، وتأدب معه أدب العبد مع الرب فلم يعد يماري في خبره وقوله . وأما المشركون فتلقفوا هذا العدد بقلوب خاوية من الإيمان ، عارية من التوقير لله ، خالية من الجد في تلقي هذا الأمر العظيم . وراحوا يتهكمون عليه ويسخرون منه ، ويتخذونه موضعا للتندر والمزاح . . . قال قائل منهم : أليس يتكفل كل عشرة منكم بواحد من هؤلاء التسعة عشر ! ? وقال قائل : لا بل اكفوني أنتم أمر اثنين منهم وعلي الباقي أنا أكفيكموهم ! وبمثل هذه الروح المطموسة المغلقة الفاضية تلقوا هذا القول العظيم الكريم .

عندئذ نزلت الآيات التالية تكشف عن حكمة الله في الكشف عن هذا الجانب من الغيب ، وذكر هذا العدد ، وترد علم الغيب إلى الله ، وتقرر ما وراء ذكر سقر وحراسها من غاية ينتهي الموقف إليها :

( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . . .

تبدأ الآية بتقرير حقيقة أولئك التسعة عشر الذين تمارى فيهم المشركون :

( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) . .

فهم من ذلك الخلق المغيب الذي لا يعلم طبيعته وقوته إلا الله ؛ وقد قال لنا عنهم : إنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )فقرر أنهم يطيعون ما يأمرهم به الله ، وأن بهم القدرة على فعل ما يأمرهم . فهم إذن مزودون بالقوة التي يقدرون بها على كل ما يكلفهم الله إياه . فإذا كان قد كلفهم القيام على سقر ، فهم مزودون من قبله سبحانه بالقوة المطلوبة لهذه المهمة ، كما يعلمها الله ، فلا مجال لقهرهم أو مغالبتهم من هؤلاء البشر المضعوفين ! وما كان قولهم عن مغالبتهم إلا وليد الجهل الغليظ بحقيقة خلق الله وتدبيره للأمور .

( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) . .

فهم الذين يثير ذكر العدد في قلوبهم رغبة الجدل ؛ ولا يعرفون مواضع التسليم ومواضع الجدل . فهذا الأمر الغيبي كله من شأن الله ، وليس لدى البشر عنه من علم كثير ولا قليل ، فإذا أخبر الله عنه خبرا فهو المصدر الوحيد لهذا الطرف من الحقيقة ، وشأن البشر هو تلقي هذا الخبر بالتسليم ، والاطمئنان إلى أن الخير في ذكر هذا الطرف وحده ، بالقدر الذي ذكره ، وأن لا مجال للجدل فيه ، فالإنسان إنما يجادل فيما لديه عنه علم سابق يناقض الخبر الجديد أو يغايره . أما لماذا كانوا تسعة عشر [ أيا كان مدلول هذا العدد ] فهو أمر يعلمه الله الذي ينسق الوجود كله ، ويخلق كل شيء بقدر . وهذا العدد كغيره من الأعداد . والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض . . لماذا كانت السماوات سبعا ? لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ? لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر ? لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين ? لماذا ? لماذا ? لماذا ? والجواب : لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد ! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور . .

( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) . .

فهؤلاء وهؤلاء سيجدون في عدد حراس سقر ما يدعو بعضهم إلى اليقين ويدعو البعض إلى ازدياد الإيمان . فأما الذين أوتوا الكتاب فلا بد أن لديهم شيئا عن هذه الحقيقة ، فإذا سمعوها من القرآن استيقنوا أنه مصدق لما بين يديهم عنها . وأما الذين آمنوا فكل قول من ربهم يزيدهم إيمانا . لأن قلوبهم مفتوحة موصولة تتلقى الحقائق تلقيا مباشرا ؛ وكل حقيقة ترد إليها من عند الله تزيدها أنسا بالله . . وستشعر قلوبهم بحكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، فتزيد قلوبهم إيمانا . وتثبت هذه الحقيقة في قلوب هؤلاء وهؤلاء فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .

( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . .

وهكذا تترك الحقيقة الواحدة أثرين مختلفين في القلوب المختلفة . . فبينما الذين أوتوا الكتاب يستيقنون ، والذين آمنوا يزيدون إيمانا ، إذا بالذين كفروا وضعاف القلوب المنافقون في حيرة يتساءلون : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ? ) . . فهم لا يدركون حكمة هذا الأمر الغريب . ولا يسلمون بحكمة الله المطلقة في تقدير كل خلق . ولا يطمئنون إلى صدق الخبر والخير الكامن في إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة . .

( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) . .

كذلك . بذكر الحقائق وعرض الآيات . فتتلقاها القلوب المختلفة تلقيا مختلفا . ويهتدي بها فريق وفق مشيئة الله ؛ ويضل بها فريق حسب مشيئة الله . فكل أمر مرجعه في النهاية إلى إرادة الله المطلقة التي ينتهي إليها كل شيء . وهؤلاء البشر خرجوا من يد القدرة باستعداد مزدوج للهدى وللضلال ؛ فمن اهتدى ومن ضل كلاهما يتصرف داخل حدود المشيئة التي خلقتهم بهذا الاستعداد المزدوج ، ويسرت لهم التصرف في هذا أو ذاك ، في حدود المشيئة الطليقة ، ووفق حكمة الله المكنونة .

وتصور طلاقة المشيئة وانتهاء كل ما يقع في هذا الوجود إليها تصورا كاملا واسع المدلول ، يعفي العقول من الجدل الضيق حول ما يسمونه الجبر والإرادة . وهو الجدل الذي لا ينتهي إلى تصور صحيح ، بسبب أنه يتناول المسألة من زاوية ضيقة ، ويضعها في أشكال محددة نابعة من منطق الإنسان وتجاربه وتصوراته المحدودة ! بينما هو يعالج قضية من قضايا الألوهية غير المحدودة !

لقد كشف الله لنا عن طريق الهدى وطريق الضلال . وحدد لنا نهجا نسلكه فنهتدي ونسعد ونفوز . وبين لنا نهوجا ننحرف إليها فنضل ونشقى ونخسر . ولم يكلفنا أن نعلم وراء ذلك شيئا ، ولم يهبنا القدرة على علم شيء وراء هذا . وقال لنا : إن إرادتي مطلقة وإن مشيئتي نافذة . . فعلينا أن نعالج - بقدر طاقتنا - تصور حقيقة الإرادة المطلقة والمشيئة النافذة . وأن نلتزم النهج الهادئ ونتجنب النهوج المضللة . ولا ننشغل في جدل عقيم حول ما لم نوهب القدرة على إدراك كنهه من الغيب المكنون . ومن ثم ننظر فنرى كل ما أنفقه المتكلمون في مسألة القدر على النحو الذي تكلموا به جهدا ضائعا لا طائل وراءه لأنه في غير ميدانه . .

إننا لا نعلم مشيئة الله المغيبة بنا ، ولكننا نعلم ماذا يطلب الله منا لنستحق فضله الذي كتبه على نفسه . وعلينا إذن أن ننفق طاقتنا في أداء ما كلفنا ، وأن ندع له هو غيب مشيئته فينا . والذي سيكون هو مشيئته ، وعندما يكون سنعرف أن هذه مشيئته لا قبل كونه ! والذي سيكون وراءه حكمة يعرفها العليم بالكل المطلق . . وهو الله وحده . . وهذا هو طريق المؤمن في التصور ومنهجه في التفكر . .

( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) . .

فهي غيب . حقيقتها . ووظيفتها . وقدرتها . . وهو يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها ، وقوله هو الفصلفي شأنها . وليس لقائل بعده أن يجادل أو يماحك أو يحاول معرفة ما لم يكشف الله عنه ، فليس إلى معرفة هذا من سبيل . .

( وما هي إلا ذكرى للبشر ) . .

( وهي )إما أن تكون هي جنود ربك ، وإما أن تكون هي سقر ومن عليها . وهي من جنود ربك . وذكرها جاء لينبه ويحذر ؛ لا لتكون موضوعا للجدل والمماحكة ! والقلوب المؤمنة هي التي تتعظ بالذكرى ، فأما القلوب الضالة فتتخذها مماحكة وجدلا !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

وقوله : وَما جَعَلْنا أصحَابَ النّارِ إلاّ مَلائِكَةً يقول تعالى ذكره : وما جعلنا خزَنة النار إلا ملائكة . يقول لأبي جهل في قوله لقريش : أما يستطيع كلّ عشرة منكم أن تغلب منها واحدا ؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن زيد ، في قوله : وَما جَعَلْنا أصحَابَ النّارِ إلاّ مَلائِكَةً قال : ما جعلناهم رجالاً ، فيأخذ كلّ رجل رجلاً كما قال هذا .

وقوله : وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا يقول : وما جعلنا عدّة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مُشركي قريش . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلْنا عِدّتَهُمْ إلاّ فِتْنَةً للّذِينَ كَفَرُوا : إلا بلاء .

وإنما جعل الله الخبر عن عدّة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا ، لتكذيبهم بذلك ، وقول بعضهم لأصحابه : أنا أكفيكموهم . ذكر الخبر عمن قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تِسْعَةَ عَشَرَ قال : جعلوا فتنة ، قال أبو الأشدّ بن الجمحي : لا يبلغون رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم .

وقوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يقول تعالى ذكره : ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدّة خزَنة جهنم ، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا قال : وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشرة ، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : يجدونه مكتوبا عندهم عدّة خزَنة أهل النار .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يصدّق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها ، التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدّة خزنة النار ما في كتبهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : عدّة خزنة جهنم تسعة عشر في التوراة والإنجيل .

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لِيَسْتَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنك رسول الله .

وقوله : وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إيمَانا يقول تعالى ذكره : وليزداد الذين آمنوا بالله تصديقا إلى تصديقهم بالله وبرسوله بتصديقهم بعدّة خزنة جهنم .

وقوله : وَلا يَرْتابَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُؤْمِنُونَ يقول : ولا يشكّ أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقوله : وَليَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ يقول تعالى ذكره : وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق ، والكافرون بالله من مشركي قريش ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ : أي نفاق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يقول : حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر .

وقوله : كَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ يقول تعالى ذكره : كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدّة خزنة جهنم : أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوّفنا بذكر عدتهم ، ويهتدي به المؤمنون ، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا كَذلكَ يُضِل اللّهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ فيخذله عن إصابة الحقّ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم ، فيوفقه لإصابة الصواب وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ من كثرتهم إلاّ هُوَ : يعني الله ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إلاّ هُوَ أي من كثرتهم .

وقوله : وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَرِ يقول تعالى ذكره : وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر ، وهم بنو آدم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَر يعني النار .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَما هِيَ إلاّ ذِكْرَى للْبَشَر قال : النار .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقون لهم ولا يستروحون إليهم ولأنهم أقوى الخلق بأسا وأشدهم غضبا لله روي أن أبا جهل لما سمع عليها تسعة عشر قال لقريش أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فنزلت وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر فعبر بالإثر عن المؤثر تنبيها على أنه لا ينفك منه وافتتانهم به استقلالهم واستهزاؤهم به واستبعادهم أن يتولى هذه العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين ولعل المراد الجعل بالقول ليحسن تعليله بقوله ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أي ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم ويزدادوا الذين آمنوا إيمانا بالإيمان به وبتصديق أهل الكتاب به ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان به ويتصدق أهل الكتاب له ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان ونفي لما يعرض للمتيقن حيثما عراه شبهة وليقول الذين في قلوبهم مرض شك أو نفاق فيكون إخبارا بمكة عما سيكون في المدينة بعد الهجرة والكافرون الجازمون في التكذيب ماذا أراد الله بهذا مثلا أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل وقيل لما استبعدوه حسبوا أنه مثل مضروب كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين وما يعلم جنود ربك جموع خلقه على ما هم عليه إلا هو إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطلاع على حقائقها وصفاتها وما يوجب اختصاص كل منها بما يخصه من كم وكيف واعتبار ونسبة وما هي وما سقر أو عدة الخزنة أو السورة إلا ذكرى للبشر إلا تذكرة لهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا جَعَلۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةٗۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسۡتَيۡقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَيَزۡدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِيمَٰنٗا وَلَا يَرۡتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ} (31)

وقوله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } تبيين لفساد أقوال قريش ، أي إن جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع و { ليستيقن } أهل الكتاب : التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله ، إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد صلى الله عليه وسلم ولا هو من أهلها ، ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله ، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم ، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيماناً ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين ، وقوله تعالى : { وليقول الذين في قلوبهم مرض } الآية ، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر ، أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضاً عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعاداً أن يكون هذا من عند الله ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان .

قوله تعالى : { كذلك يضل الله من يشاء } أي بهذه الصفة وهذا الرّين{[11436]} على القلوب يضل ، ثم أخبر تعالى أنه { يهدي من يشاء } من المؤمنين لما ورد بذلك لعلمهم بالقدرة ووقوف عقولهم على كنه{[11437]} سلطان الله تعالى ، فهم موقنون متصورون صحة ما أخبرت به الأنبياء وكتب الله تعالى ، ثم قال : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } إعلاماً بأن الأمر فوق ما يتوهم وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء{[11438]} كلها عامرة بأنواع من الملائكة كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم وطاعة لا فترة في شيء من ذلك ولا دقيقة واحدة . وقوله تعالى : { وما هي إلا ذكرى للبشر } قال مجاهد الضمير في قوله { وما هي } للنار المذكورة ، أي يذكرها البشر فيخافونها فيطيعون الله تعالى . وقال بعض الحذاق : قوله تعالى : { ما هي } ، يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة ، قال الثعلبي : وقيل { وما هي } ، يراد نار الدنيا ، أي إن هذه تذكرة للبشر بنار الآخرة .


[11436]:الرين : الغطاء والحجاب الكثيف.
[11437]:الكنه: جوهر الشيء وحقيقته.
[11438]:في بعض النسخ: "والمملكة عامرة" وفي بعضها: "والسماء كلها عامرة".