ثم حكى - سبحانه - ما رد به هؤلاء المتكبرون على نبيهم فقال - تعالى - { قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ . . . } .
وقوله : { اطيرنا } أصله تطيرنا ، فأدغمت التاء فى الطاء ، وزيدت همزة الوصل ، ليتأتى الابتداء بالكلمة . والتطير : التشاؤم .
قال الآلوسى : وعبر عنه بذلك ، لأنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا - بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره - تيمنوا ، وإن مر بارحا - بأن مر من المياسر إلى الميامن - تساءموا . فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير لما كان سببا لهما من قدر الله - تعالى - وقسمته - عز وجل - أو من عمل العبد الذى هو سبب الرحمة والنعمة .
أى قال المكذبون من قوم صالح فى الرد عليه : أصابنا الشؤم والنحس بسبب وجودك فينا ، وبسبب المؤمنين الذين استجابوا لدعوتك . حيث أصبنا بالقحط بعد الرخاء والضراء بعد السراء .
ولا شك أن قولهم هذا يدل على جهلهم المطبق ، وعلى سوء تفكيرهم ، لأن السراء والضراء من عند الله - تعالى - وحده . ولا صلة لهما بوجود صالح والذين آمنوا معه بينهم ولذا رد عليهم صالح - عليه السلام - بقوله { طَائِرُكُمْ عِندَ الله . . . } .
أى : قال لهم موبخا وزاجرا : ليس الأمر كما زعمتم أن وجودنا بينكم هو السبب فيما أصابكم من شر ، بل الحق أن ما يصيبكم من شر وقحط هو من عند الله ، بسبب أعمالكم السيئة ، وإصراركم على الكفر ، واستحبابكم المعصية على الطاعة . والعقوبة على المغفرة .
ثم زاد صالح - عليه السلام - الأمر توضيحا وتبيانا فقال لهم : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } .
أى قال لهم : ليس ما أصابكم بسببنا . بل أنتم قوم " تفتنون " أى تختبرون وتمتحنون بما يقع عليكم من شر ، حتى تتوبوا إلى خالقكم ، قبل أن ينزل بكم العذاب الماحق ، إذا ما بقيتم على كفركم .
فأنت ترى أن صالحا - عليه السلام - قد رد على جهالتهم بأسلوب قوى رصين ، بين لهم فيه ، أن تشاؤمهم فى غير محله ، وأن حظهم ومستقبلهم ومصيرهم بيد الله - تعالى - وحده ، وأن ما أصابهم من بلاء وقحط ، إنما هو لون من امتحان الله - تعالى - لهم ، لكى يتنبهوا ويستجيبوا لدعوة لحق ، قبل أن يفاجئهم الله - تعالى - بالعذاب الذى يهلكهم .
وكذلك كان قوم صالح يقولون . ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار . ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤما عليهم ، ويتوقعون الشر من ورائهم :
( قالوا : اطيرنا بك وبمن معك ) .
والتطير . التشاؤم . مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام ، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان . فقد كان الواحد منهم إذا هم بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا . فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر . وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر !
وما تدري الطير الغيب ، وما تنبئ حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول . ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه . فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد ، ولا تخضع لعقل ، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين .
وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله ، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه ، لأنهم - بزعمهم - قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين ! - هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه . . نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13 ، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم ، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد . . . إلى آخر هذه الخرافات الساذجة . ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة . وهي جوعتها إلى الإيمان ، وعدم استغنائها عنه ، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان ؛ وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام ، لأنه أكبر من الطاقة البشرية ، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان ، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض ، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات !
فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة ، الضالة في تيه الوهم والخرافة ، ردهم صالح إلى نور اليقين ، وإلى حقيقته الواضحة ، البعيدة عن الضباب والظلام :
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله . والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور ، وبين لهم الطريق المستنير . فمن اتبع سنة الله ، وسار على هداه ، فهناك الخير ، بدون حاجة إلى زجر الطير . ومن انحرف عن السنة ، وحاد عن السواء ، فهناك الشر ، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير .
تفتنون بنعمة الله ، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر . فاليقظة وتدبر السنن ، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية . لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء .
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور . وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم . وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله ، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة . . وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس . وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله ، وبخالق الكون ومدبره ، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ اطّيّرْنَا بِكَ وَبِمَن مّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت ثمود لرسولها صالح اطّيّرنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي تشاءمنا بك وبمن معك من أتباعنا ، وزجرنا الطير بأنا سيصيبنا بك وبهم المكاره والمصائب ، فأجابهم صالح فقال لهم طائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه ، لا يدري أيّ ذلك كائن ، أما تظنون من المصائب أو المكاره ، أم ما لا ترجونه من العافية والرجاء والمحاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله قالَ طائرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ يقول : مصائبكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله طائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ علمكم عند الله .
وقوله : بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ يقول : بل أنتم قوم تختبرون ، يختبركم ربكم إذ أرسلني إليكم ، أتطيعونه ، فتعملون بما أمركم به ، فيجزيكم الجزيل من ثوابه ، أم تعصونه ، فتعملون بخلافه ، فيحلّ بكم عقابه .
{ قالوا اطيرنا } تشاءمنا . { بك وبمن معك } إذ تتابعت علينا الشدائد ، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم . { قال طائركم } سببكم الذي جاء منه شركم . { عند الله } وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده . { بل أنتم قوم تفتنون } تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، والإضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.