التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ} (15)

ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة برسم صورة عجيبة لعناد هؤلاء المكذبين ولجحودهم للحق بعدما تبين فقال : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } .

وقوله - سبحانه - { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء . . } معطوف على قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ . . } لإِبطال معاذيرهم ، ولبيان أن سبب عدم إيمانهم هو الجحود والعناد ، وليس نقصان الدليل والبرهان على صحة ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .

قال الإِمام الرازى . وقوله - تعالى - { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } يقال : ظل فلان نهاره يفعل كذا ، إذا فعله بالنهار ، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظلول .

ويعرجون : من العروج ، وهو الذهاب في صعود ، وفعله من باب دخل ، يقال عرج فلان إلى الجبل يعرج إذا صعد ، ومنه المعراج والمعارج أى المصاعد .

وقوله { سكرت } من السَّكْر - بفتح السين المشددة وسكون الكاف - بمعنى السد والحبس والمنع ، يقال سكرت الباب أسْكرُه سَكْراً ، إذا سددته ، والتشديد في { سكرت } للمبالغة ، وهو قراءة الجمهور . وقرأ ابن كثير { سكرت } ، بكسر الكاف بدون تشديد .

وقوله { مسحورون } اسم مفعول من السحر ، بمعنى الخداع والتخييل والصرف عن الشئ إلى غيره .

والمعنى : أن هؤلاء المشركين بلغ بهم الغلو في الكفر والعناد ، أننا لو فتحنا لهم بابا من أبواب السماء ، ومكناهم من الصعود إليه ، فظلوا في ذلك الباب يصعدون ، ويطلعون على ملكوت السموات وما فيها من الملائكة والعجائب لقالوا بعد هذا التمكين والاطلاع - لفرط عنادهم وجحودهم - إنما أبصارنا منعت من الإِبصار ، وما نراه ما هو إلا لون من الخداع والتخييل والصرف عن إدراك الحقائق بسبب سحر محمد صلى الله عليه وسلم لنا وعلى هذا التفسير الذي سار عليه جمهور المفسرين ، يكون الضمير في قوله { فظلوا } يعود إلى هؤلاء المشركين المعاندين

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ} (15)

ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون : لا . لا . ليست هذه حقيقة . إنما أحد سكر أبصارنا وخدرها فهي لا ترى إنما تتخيل :

( إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) . .

سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر ، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكر مسحور !

يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري . ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء . ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان . وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل . فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة . إنما هم قوم مكابرون . مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف !

إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير ، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير . .

وهذا النموذج ليس محليا ولا وقتيا ، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين . . إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته ، وتستغلق بصيرته ، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي ، وينقطع عن الوجود الحي من حوله ، وعن إيقاعاته وإيحاءاته .

هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها " المذاهب العلمية ! " وهي أبعد ما تكون عن العلم ؛ بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة . .

إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ؛ ويجادلون في وجوده - سبحانه - وينكرون هذا الوجود . . ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله ، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته ، بلا خالق ، وبلا مدبر ، وبلا موجه . . يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و " أخلاقية ! " كذلك . ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس ، والتي لا تنفصل عنه بحال . . " علمية " . . هي وحدها " العلمية " !

وعدم الشعور بوجود الله سبحانه ، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية ، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النكدة . كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحا عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة :

( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا : إنما سكرت أبصارنا ، بل نحن قوم مسحورون ! ) . .

فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء . وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطابا هامسا وجاهرا ، باطنا وظاهرا ، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار .

إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته ؛ وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره ؛ كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه . . وهي موافقات لا تحصى . . إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري ، كما ترفضه الفطرة من أعماقها . وكلما توغل " العلم " في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته ؛ رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده ؛ واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه . . هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته . قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجيء إلا أخيرا !

إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته ، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده . كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة . وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا . . كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا :

يقول عالم الأحياء والنبات " رسل تشارلز إرنست " الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا : " لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورةالتي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذي خلق الأشياء ودبرها .

" إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيمانا راسخا "

وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة . إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة . والمنطق السائد في بحثه هو منطق " العلم الحديث " - بكل خصائصه - لا منطق الإلهام الفطري ، ولا منطق الحس الديني . ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري ، كما يقررها الحس الديني . ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود ، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها ؛ أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا !

والذين يجادلون في الله - مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل ، وعن منطق الكون . . أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا . . إنهم العمي الذين يقول الله تعالى فيهم : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) .

وإذا كانت هذه حقيقتهم ؛ فإن ما ينشئونه من مذاهب " علمية ! " اجتماعية وسياسية واقتصادية ؛ وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني ؛ يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط ، صادر عن أعمى ، معطل الحواس الأخرى ، محجوبا عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعا - على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها . وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئا ؛ فضلا على أن يكيف نظرته ، ويقيم منهج حياته ، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلا !

إن هذه قضية إيمانية اعتقادية ، وليست قضية رأي وفكر ! إن الذي يقيم تفكيره ، ويقيم مذهبه في الحياة ، ويقيم نظام حياته كذلك ، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشى ء ذاته ، ومنشى ء الإنسان أيضا . . إنما يخطيء في قاعدة الفكر والمذهب والنظام ؛ فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ؛ ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم ، يقيم اعتقاده وتصوره ، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره .

ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى " الاشتراكية العلمية " منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء ! ويصبح الأخذ بما يسمى " الاشتراكية العلمية " - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء أنظمتها - عدولا جذريا عن الإسلام : اعتقادا وتصورا ثم منهجا ونظاما . . حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك " الاشتراكية العلمية " واحترام العقيدة في الله بتاتا . ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والإسلام . . وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها .

إن الناس في أي أرض وفي أي زمان ؛ إما أن يتخذوا الإسلام دينا ، وإما أن يتخذوا المادية دينا . فإذااتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا " الاشتراكية العلمية " المنبثقة من " الفلسفة المادية " ، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه ، نظاما . . وعلى الناس أن تختار . . إما الإسلام ، وإما المادية ، منذ الابتداء !

إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير . إنما هو نظام قائم على عقيدة . . كما أن " الاشتراكية العلمية " - بهذا الاصطلاح - ليست قائمة على هواء ، إنما هي منبثقة انبثاقا طبيعيا من " المذهب المادي " الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر أصلا ، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي . . ومن ثم ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى " الاشتراكية العلمية " بكل تطبيقاتها !

ولا بد من الاختيار بينهما . . ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار ! ! !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ} (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ } .

اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله : فَظَلّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ فقال بعضهم : معنى الكلام : ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لك يا محمد لَوْما تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ بابا من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا ، لقالُوا إنمَا سُكّرَتْ أبصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرِجُونَ يقول : لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه ، لقال أهل الشرك : إنما أخَذَ أبصارنا ، وشَبّه علينا ، وإنما سحرنا فذلك قولهم : لَوْما تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس : فَظَلّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ فظلت الملائكة يعرجون فيه يراهم بنو آدم عيانا لقالُوا إنمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْم مَسْحورُون .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : يا أيّها الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إنّكَ لمَجْنُونٌ لَوْما تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ ، قال : ما بين ذلك إلى قوله : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرِجُونَ قال : رجع إلى قوله : لَوْما تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ ما بين ذلك . قال ابن جريج : قال ابن عباس : فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم ، لقالُوا إنّمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا قال : قريش تقوله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرِجُونَ قال : قال ابن عباس : لو فتح الله عليهم من السماء بابا فظلت الملائكة تعرج فيه ، يقول : يختلفون فيه جائين وذاهبين لقالُوا إنّمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرِجُونَ يعني الملائكة يقول : لو فتحتُ على المشركين بابا من السماء ، فنظروا إلى الملائكة تعرج بين السماء والأرض ، لقال المشركون : نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سُحرنا وليس هذا بالحقّ . ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الاَية : لَوْما تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمر ، عن نصر ، عن الضحاك ، في قوله : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرِجُونَ قال : لو أني فتحت بابا من السماء تعرج فيه الملائكة بين السماء والأرض ، لقال المشركون : بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ألا ترى أنهم قالوا : لَوْما تَأْتِينا بالمَلائِكَةِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ .

وقال آخرون : إنما عُني بذلك بنو آدم .

ومعنى الكلام عندهم : ولو فتحنا على هؤلاء المشركين من قومك يا محمد بابا من السماء فظلوا هم فيه يعرجون لقَالُوا إنّمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السّماءِ فَظَلّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ قال قتادة ، كان الحسن يقول : لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون ، لقالُوا إنّما سُكّرَتْ أبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ .

وأما قوله : يَعْرُجُونَ فإن معناه : يرقَوْن فيه ويَصْعَدون ، يقال منه : عرج يَعْرُج عُروجا إذا رَقِيَ وصَعَد ، وواحدة المعارج : معرج ومعراج ومنه قول كثير :

إلى حَسَبٍ عَوْدٍ بنَا المرْءَ قَبْلَهُ *** أبُوهُ لَهُ فِيهِ معَارِجَ سُلّمِ

وقد حُكي : عرِج يعرِج بكسر الراء في الاستقبال . وقوله : لقَالُوا إنّما سُكّرَتْ أبْصَارُنا يقول : لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم : ما هذا بحقّ إنما سكّرت أبصارنا .

واختلفت القراء في قراءة قوله : سُكّرَتْ فقرأ أهل المدينة والعراق : سُكّرَتْ بتشديد الكاف ، بمعنى : غُشّيت وغُطّيت ، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه . وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأ : «لقَالُوا إنّما سُكّرَتْ » .

حدثني بذلك الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة ، عن شبل ، عن مجاهد أنه قرأها : «سُكّرَتْ أبْصَارُنا » خفيفة .

وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى : حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح ، وذلك سكونها وركودها ، يقال منه : سكرت الريح : إذا سكنت وركدت . وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : هو مأخوذ من سُكْر الشراب ، وأن معناه : قد غشّى أبصارنا السكر .

وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى سُكّرَتْ : سدّت . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ورقاء وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سُكّرَتْ أبْصَارُنا قال : سدّت .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، يعني ابن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير قال : سدّت .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : سُكّرَتْ أبْصَارُنا يعني : سدّت .

فكأن مجاهدا ذهب في قوله وتأويله ذلك بمعنى : سدّت ، إلى أنه بمعنى : منعت النظر ، كما يُسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسّكر به .

وقال آخرون : معنى سُكرت : أُخذت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس : لقَالُوا إنّمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا يقول : أُخذت أبصارنا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : إنما أخذ أبصارنا ، وشبّه علينا ، وإنما سحرنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : لقَالُوا إنّما سُكّرَتْ أبْصَارُنا يقول : سُحرت أبصارنا يقول : أخذت أبصارنا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة ، قال : من قرأ : سُكّرَتْ مشددة : يعني سدّت . ومن قرأ «سُكِرَتْ » مخففة ، فإنه يعني سحرت .

وكأن هؤلاء وجّهوا معنى قوله سُكّرَتْ إلى أن أبصارهم سُحرت ، فشبه عليهم ما يبصرون ، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب : سُكّر على فلان رأيه : إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد فلم يدر الصواب فيه من غيره ، فإذا عزم على الرأي قالوا : ذهب عنه التسكير .

وقال آخرون : هو مأخوذ من السكر ، ومعناه : غشي على أبصارنا فلا نبصر ، . كما يفعل السكر بصاحبه ، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «إنّمَا سُكّرَتْ أبْصَارُنا » قال : سكرت ، السكران الذي لا يعقل .

وقال آخرون : معنى ذلك : عميت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن الكلبي : سُكّرَتْ قال : عميت .

وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : أخذت أبصارنا وسحرت ، فلا تبصر الشيء على ما هو به ، وذهب حدّ إبصارنا وانطفأ نوره كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته وسكن حدّ حرّة : قد سكر يسكر . قال المثنى بن جندل الطّهوي :

جاءَ الشّتاءُ واجْثَأَلّ القُبّرُ *** واستَخْفَتِ الأفْعَى وكانت تَظْهَرُ

*** وجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ ***

أي تسكن وتذهب وتنطفىء . وقال ذو الرّمّة :

قَبْلَ انْصِداعِ الفَجْرِ والتّهَجّرِ *** وخَوْضُهُنّ اللّيْلَ حينَ يَسْكُرُ

يعني : حين تسكن فورته . وذُكر عن قيس أنها تقول : سكرت الريح تسكر سُكُورا ، بمعنى : سكنت . وإن كان ذلك عنها صحيحا ، فإن معنى سُكِرَت وسُكّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان ، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن : سُكّرَتْ بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها ، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه .