ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان ، لتزداد يقينا بوحدانية الله - تعالى - ، وبعظم النعم التى أعطاها - سبحانه - له فقال : { قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } .
والصرح : القصر ويطلق على كل بناء مرتفع . ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب } ويطلق - أيضا - على صحن الدار وساحته . يقال : هذه صرحة الدار . أى : ساحتها وعرصتها .
وكان سليمان - عليه السلام - قد بنى هذا الصرح ، وجعل بلاطه من زجاج نقى صاف كالبلور . بحيث يرى الناظر ما يجرى تحته من ماء .
أى : قال سليمان لملكة سبأ بعد أن سألها : أهكذا عرشك ، وبعد أن أجابته بما سبق بيانه . قال لها : ادخلى هذا القصر ، فلما رأت هذا الصرح وما عليه من جمال وفخامة ، حسبته لجة ، أى : ظنته ماء غزيرا كالبحر .
{ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } لئلا تبتل بالماء أذيال ثيابها .
وهنا قال سليمان مزيلا لما اعتراها من دهشة : { إِنَّهُ } أى : ما حسبته لجة { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } أى : قصر مملس من زجاج لا يحجب ما وراءه .
فقوله { مُّمَرَّدٌ } بمعنى مملس ، مأخوذ من قولهم : شجرة مرداء إذا كانت عارية من الورق ، وغلام أمرد ، إذا لم يكن فى وجهه شعر والتمريد فى البناء ، معناه : التمليس والتسوية والنعومة .
والقوارير : جمع قارورة ، وهى إناء من زجاج ، وتطلق القارورة على المرأة ، لأن الولد يقر فى رحمها ، أو تشبيها لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها ، ومنه الحديث الشريف : " رفقا بالقوارير " والمراد بالقوارير هنا . المعنى الأول .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته بلقيس بعد أن رأت جانبا من عداب صنع الله فقال : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أى : بسبب عبادى لغيرك قبل هذا الوقت . . . { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } طائعة مختارة ، وإسلامى إنما هو { لِلَّهِ رَبِّ العالمين } وليس لأحد سواه .
وبعد ، فهذا تفسير محرر لتلك القصة ، وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التى حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم ، عند حديثهم عن الآيات التى وردت فى هذه القصة ، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان - عليه السلام - وبجنوده من الطير . وبمحاورة النملة له ، وبالهدية التى أرسلتها ملكة سبأ إليه ، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة . . الخ وقد اشتملت هذه القصة على عبر وعظات وأحكام وآداب ، من أهمها ما يأتى :
1 - أن الله - تعالى - قد أعطى - بفضله وإحسانه - داود وسليمان - عليهما السلام - نعما عظيمة ، على رأسها نعمة النبوة ، والملك ، والعلم النافع .
وأنهما قد قابلا هذه النعم بالشكر لله - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
ونرى ذلك فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } وفى قوله - تعالى - : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } وفى قوله - سبحانه - : { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } 2 - أن سليمان - عليه السلام - قد أقام دولته على الإيمان بالله - تعالى - وعلى العلم النافع ، وعلى القوة العادلة .
أما الإيمان بالله - تعالى - وإخلاص العبادة له - سحبانه - ، فهو كائن له - عليه السلام - بمقتضى نبوته التى اختاره الله لها ، وبمقتضى دعوته إلى وحدانية الله - عز وجل - فقد حكى القرآن عنه أنه قال فى رسالته إلى ملكة سبأ : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }
وأما العلم النافع ، فيكفى أن القصة الكريمة قد افتتحت بقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً . . } واشتملت على قوله - سبحانه - : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير . . } وعلى قوله - عز و جل - : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } وأما القوة ، فنراها فى قوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } وفى قوله - سبحانه { ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } 3 - أن سليمان عليه السلام كانت رسالته الأولى نشر الإيمان بالله - تعالى - فى الأرض ، وتطهيرها من كل معبود سواه .
والدليل على ذلك أن الهدهد عندما أخبره بحال الملكة التى كانت هى وقومها يعبدون الشمس من دون الله . . .
ما كان من سليمان - عليه السلام - إلا أن حمله كتابا قويا بليغا يأمرهم فيه بترك التكبر والغرور ، وبإسلام وجوهمم لله وحده : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } 4 - أن سليمان - عليه السلام - كان يمثل الحاكم اليقظ المتنبه لأحوال رعيته ، حيث يعرف شئونها الصغيرة والكبيرة ، ويعرف الحاضر من أفرادها والغائب ، حتى ولو كان الغائب طيرا صغيرا ، من بين آلاف الخلائق الذين هم تحت قيادته .
ولقد صور القرآن ما كان عليه سليمان - عليه السلام - من يقظة ودراية بأفراد رعيته أبدع تصوير فقال : { وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } قال الإمام القرطبى : رحمه الله - : فى هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ، والمحافظة عليهم ، فانظر إلى الهدهد مع صغره ، كيف لم يَخْفَ على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك . .
ثم يقول - رحمه الله - على سبيل التفجع والشكوى عن حال الولاة فى عهده : فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان . . . ورحم الله القائل :
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ . . . وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها
5 - أن سليمان - عليه السلام - كان بجانب تعهده لشئون رعيته ، يمثل الحاكم الحازم العادل ، الذى يحاسب المهمل ، ويتوعد المقصر ، ويعاقب من يستحق العقاب ، وفى الوقت نفسه يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذرا مشروعا ومقنعا .
انظر إليه وهو يقول - كما حكى القرآن عنه - عندما تفقد الهدهد فلم يجده : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } إن الجيوش الجرارة التى تحت قيادة سليمان - عليه السلام - لا تؤثر فيها غياب هدهد منها . . . ولكن سليمان القائد الحازم ، كأنه يريد أن يعلم جنوده ، أن لكل جندى رسالته التى يجب عليه أن يؤديها على الوجه الأكمل سواء أكان هذا الجندى صغيرا أم كبيرا ، وأ ، من فرط فى الأمور الصغيرة ، لا يستبعد منه أن يفرط فى الأمور الكبيرة .
6 - أن الجندى الصغير فى الأمة التى يظلها العدل والحرية والأمان . . . لا يمنعه صغره من أن يرد على الحاكم الكبير ، بشجاعة وقوة . . .
انظر إلى الهدهد - مع صغره - يحكى عن القرآن ، أنه رد على نبى الله سليمان الذى آتاه الله ملكا لا ينبغى لأحد من بعده بقوله : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ونجد سليمان - عليه السلام - لا يؤاخذه على هذا القول ، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة ، لا يهان فيها الصغير ، ولا يظلم فيها الكبير .
7 - أن حكمة الله - تعالى - قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين ، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات ، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها ، ويحق الحق ويبطل الباطل .
قال القرطبى : عند تفسيره لقوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } فى الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وَزَعةً - أى ولاة ، أو قضاة - يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض . . .
قال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو فى مجلس قضائه : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة .
ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضى الله عنه - " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
8 - أن الحاكم العاقل هو الذى يستشير من هو أهل للاستشارة فى الأمور التى تهم الأمة . فها هى ذى ملكة سبأ عندما جاءها كتاب سليمان - عليه السلام - جمعت وجوه قومها ، وقالت لهم - كما حكى القرآن عنها : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ . . } قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على صحة المشاورة . . . وقد قال - الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } وقد مدح الله الفضلاء بقوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } والمشاورة من الأمر القديم وخاصة فى الحرب ، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي . . } لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم . وربما كان فى استبدادها برأيها وهن فى طاعتها ، وكان فى مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ، ألا ترى إلى قولهم فى جوابهم : { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ . . } 9 - أن الهداية إذا لمس المهدى إليه من ورائها ، عدم الإخلاص فى إهدائها . وأن المقصد منها صرفه عن حق يقيمه ، أو عن باطل يزيله .
. . فإن الواجب عليه أن يرد هذه الهدية لصاحبها . وأن يمتنع عن قبولها . . .
ألا ترى إلى سليمان - عليه السلام - قد رد الهدية الثمينة التى أهدتها بلقيس إليه ، حين أحس أن من وراء هذه الهدية شيئا . يتنافى مع تبليغ وتنفيذ رسالة الله - تعالى - التى أمره بتبليغها وتنفيذها ، ألا وهى : الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - والنهى عن الإشراك به ، وبلقيس إنما كانت تقصد بهديتها ، اختبار سليمان ، أنبى هو أم ملك ، كما سبق أن أشرنا .
لذا وجدنا القرآن يحكى عن سليمان - عليه السلم - أنه رد هذه الهدية مع من جاءوا بها ، وقال : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } 10 - أن ملكة سبأ دل تصرفها على أنها كانت ملكة عاقبة رشيدة ، حكيمة ، فقد استشارت خاصتها فى كتاب سليمان - عليه السلام - ، ولوحت لهم بقوته وبما سيترتب على حره ، وآثرت أن تقدم له هدية على سبيل الامتحان ، واستحبت المسالمة على المحاربة . . . وكان عندها الاستعداد لقبول الحق والدخول فيه ، وما أخرها عن المسارعة إليه إلا لكونها كانت من قوم كافرين .
وعندما التقت بسليمان ، وانكشفت لها الحقائق سارعت إلى الدخول فى الدين الحق ، وقالت : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .
هذه بعض العبر والعظات التى تؤخذ من هذه القصة . . . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة صالح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ . . . } .
وكان سليمان - عليه السلام - قد أعد للملكة مفاجأة أخرى ، لم يكشف السياق عنها بعد ، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها - وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى :
( قيل لها : ادخلي الصرح . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ! قال : إنه صرح ممرد من قوارير ! قالت : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) . .
لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور ، أقيمت أرضيته فوق الماء ، وظهر كأنه لجة . فلما قيل لها : ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة . فكشفت عن ساقيها ? فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها : ( قال : إنه صرح ممرد من قوارير ) !
ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر ، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر . فرجعت إلى الله ، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره . معلنة إسلامها ( مع سليمان )لا لسليمان . ولكن ( لله رب العالمين ) .
لقد اهتدى قلبها واستنار . فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه ، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات . إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين . ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة . . ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) .
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها ، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله ، والإسلام له . فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين . بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله . لا غلاب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله . . رب العالمين . . على قدم المساواة .
ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إياهم إلى الإسلام . وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله ، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء . فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين . بين القائد والتابعين . فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين !
القول في تأويل قوله تعالى : حسر سورة النمل ) { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
ذُكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ تريده ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا ، وهو كهيئة السطح من قوارير ، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك ، وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بين الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس ، ثم قال : ادْخُلِي الصّرْحَ ليريها مُلكا هو أعزّ من مُلكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها فَلَما رأَتْهُ حَسِبَتْهُ لّجةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لا تشكّ أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحكِ ماذا قلت ؟ قال : وأُنْسِيت ما قالت : ، فقالت : رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانِ لله رَبّ العالَمِينَ وأسلمت ، فحسُن إسلامها .
وقيل : إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله ، لأن الجنّ خافت من سليمان أن يتزوّجها ، فأرادوا أن يزهدوه فيها ، فقالوا : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ ، فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجنّ من ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : قالت الجنّ لسليمان تزهّدهِ في بِلقيس : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجنّ فأمر سليمان بالصرح ، فعُمل ، فسجن فيه دواب البحر : الحِيتان ، والضفادع فلما بصرت بالصرح قالت : ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق فَحَسِبَتْهُ لُجّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قال : فإذا ( هي ) أحسن الناس ساقا وقدما . قال : فضنّ سليمان بساقها عن الموسى ، قال : فاتّخذت النّورة بذلك السبب .
وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب ، والذي قاله محمد بن كعب القرضيّ ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له فيها .
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى الصرح ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الصرْحَ قال : بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها . قال : وكانت بلقيس هلباء شعراء ، قدمها كحافر الحمار ، وكانت أمها جنية .
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كانَ أحَدُ أبَوَيْ صَاحِبَةِ سَبإٍ جِنّبّا » .
قال : ثنا صفوان بن صالح ، قال : ثني الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر النضر بن أنس .
وقوله : فَلَما رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجةً يقول : فلما رأت المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قِيل لَهَا ادْخُلِي الصرْحَ فَلَمّا رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : وكان من قوارير ، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : بحرا .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا ابن سوار ، قال : حدثنا روح بن القاسم ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، في قوله : وكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا ، الموسى له أثر ، فأمر بالنّورة فصنعت .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن عكرمة وأبي صالح قالا : لما تزوّج سليمان بلقيس قالت له : لم تمسني حديدة قطّ قال سليمان للشياطين : انظروا ما يُذهب الشعر ؟ قالوا : النّورة ، فكان أوّل من صنع النورة .
وقوله : إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ يقول جلّ ثناؤه : قال سليمان لها : إن هذا ليس ببحر ، إنه صرح ممّرد من قوارير ، يقول : إنما هو بناء مبنيّ مشيد من قوارير . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، مُمَرّدً قال : مشيد .
وقوله : قالَتْ رَبّ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ . . . الاَية ، يقول تعالى ذكره : قالت المرأة صاحبة سبأ : ربّ إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس ، وسجودي لما دونك وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ تقول : وانقدت مع سليمان مذعنة الله بالتوحيد ، مفردة له بالألوهة والربوبية دون كلّ من سواه . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في حَسِبَتْهُ لُجّةً قال : إنّهُ صَرْحٌ مُمَرّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ فعرفت أنها قد غلبت قالَتْ رَبّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ .