التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا} (108)

وقوله { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } بيان لأحوالهم القبيحة التى تجعلهم محل غضب الله وسخطه .

والاستخفاء معناه الاستتار . يقال استخفيت من فلان . أى : تواريت منه واستنرت .

أى : أن هؤلاء الذين من طبيعتهم الخيانة والوقوع فى الآثام يستترون من الناس عندنا يقعون فى النكرات حياء منهم وخوفا من ضررهم { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } أى : ولا يشعرون برقابه الله عليهم ، واطلاعه على جميع أحوالهم ، بل يرتكبون ما يرتكبون من آثام بدون حياء منه مع أنه - سبحانه - هو الأحق بأن يستحى منه ، ويخشى من عقابه .

وقوله { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } بيان لشمول علمه - سبحانه - بكل حركاتهم وسكناتهم .

أى : أن هؤلاء الخائنين يرتكبون السوء بدون حياء من الله ، مع أنه - سبحانه - معهم فى كل حركاتهم وسكناتهم بعلمه واطلاعه على أقالهم وأعمالهم ولا يخفى عليه شئ من أمرهم حين " يبيتون " أى يضمرون ويدبرون فى أذهانهم مالا يرضاه الله - من القول كأن يرتكبوا المنكرات ثم يسمحونها فى غيرهم حتى لا يفتضح أمرهم .

قال صاحب الكشاف : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم - إن كانوا مؤمنين - أنهم فى حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح .

وقوله { يُبَيِّتُونَ } أى : يدبرون ويزورون وأصله أن يكون ليلا { مَا لاَ يرضى مِنَ القول } وهو تدبير طعمة أن يرمى الدرع فى دار غيره .

فإن قلت : كيف سمى التدبير قولا وإنما هو معنى فى النفس ؟ قلت : لما حدث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز . ويجوز أن يكون المراد بالقول : الحلف الكاذب الذى حلف به طعمة بعد أن بيته وتوريكه الذنب على اليهودى .

وقوله { وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } تذييل قصد به التهديد والوعيد . أى وكان الله - تعالى - محيطا إحاطة تامة بما يعمله هؤلاء الخائنون وغيرهم ولا يغب عن علمه شئ من تصرفاتهم ، وسحاسبهم عليها يوم القيامة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا} (108)

105

ويعقب الوصف بالإثم والخيانة تصوير منفر لسلوك هؤلاء الخونة الآثمين :

( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله - وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول . . . )

وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية . زرية بما فيها من ضعف والتواء ، وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة ؛ ويستخفون بها عن الناس . والناس لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا . بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون ؛ مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون . وهم يزورون من القول مالا يرضاه ! فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف ؟

( وكان الله بما يعملون محيطًا . . . )

إجمالا وإطلاقا . . فأين يذهبون بما يبيتون . والله معهم إذ يبيتون . والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته ؟

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا} (108)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } يستخفى هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أوتوا من الخيانة ، وركبوا من العار والمعصية من الناس الذي لا يقدرون لهم على شيء إلا ذكرهم بقبيح ما أوتوا من فعلهم وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطلعوا عليه حياء منهم ، وحذرا من قبيح الأحدوثة . { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } الذي هو مطلع عليهم ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب ، وهو أحقّ أن يستحيا منه من غيره ، وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه { وهُوَ مَعَهُمْ } يعني : والله شاهدهم ، { إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ } يقول حين يسوّون ليلاً ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه ، ويكذبون فيه . وقد بينا معنى التبييت في غير هذا الموضع ، وأنه كلّ كلام أو أمر أصلح ليلاً . وقد حكي عن بعض الطائيين أن التبييت في لغتهم التبديل ، وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل :

وَبَيّتَ قَوْلِيَ عَبْدَ المَلِي ***كِ قاتَلَكَ اللّهُ عَبْدا كَنُودَا

بمعنى : بدلت قولي . ورُوي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله : «يبيتون » : يؤلفون .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين : { إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ } قال : يؤلفون ما لا يَرْضَى من القول .

حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، قال : حدثنا أبو يحيى الحماني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، بنحوه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، مثله .

قال أبو جعفر : وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه ، وذلك أن التأليف هو التسوية والتغيير عما هو به وتحويله عن معناه إلى غيره .

وقد قيل : عني بقوله¹{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } : الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن بني أبيرق والجدال عنه على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره . { وكانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطا } يعني جلّ ثناؤه : وكان الله بما يعمل هؤلاء المستخفون من الناس فيما أوتوا من جرمهم حياء منهم من تبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم محيطا محصيا ، لا يخفي عليه شيء منه ، حافظا لذلك عليهم ، حتى يجازيهم عليه جزاءهم .