استمع إلى سورة البقرة وهي تحدثك عن بعض أحكام الحج وآدابه فتقول :
{ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ . . . }
تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه ، وسنحاول - بعون الله - أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية ، وتوجيهات حكيمة ، بأسلوب هو إلى الإِيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإِطناب ، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام .
والحج في اللغة : القصد يقال حج فلان الشيء : إذا قصده مرة بعد أخرى .
وفي الشرع : القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة ، وبكيفية مخصوصة ، بينتها الشريعة الإِسلامية .
والعمرة في اللغة : الزيارة ، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان .
وفي الشرع : زيارة بيت الحرام للتقرب إليه ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أركانها وشروطها وكيفيتها .
وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإِسلام ، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يسيروا في أدائها على الطريقة التي سار عليها فقال : " خذوا عني مناسككم " .
قال ابن كثير : " وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان ، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر . وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته " .
وقد اختلف العلماء في المقصود من الإِتمام في قوله - تعالى - { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما : إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى : أقيموا الحج والعمرة لله : أي أدوهما وائتوا بهما . فالأمر في " أتموا " منصب على الإِنشاء والأداء . فهو كقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } وأصحاب هذا الرأي يرون أن العمرة واجبة كالحج ، لأن الله - تعالى - أمر بهما معاً ، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " تابعوا بين الحج والعمرة . . " .
وإلى هذا الرأي أتجه سعيد بن جبير ، وعطاء ، وسفيان الثوري ، والشافعية .
ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية - أن المراد بإتمامهما : الإِتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله - تعالى - وأن على المسلم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتي به كاملا ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عمرة القضاء .
فيكون المعنى : ائتوا بالحج والعمرة كاملي الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله - تعالى - .
فالأمر على هذا الرأي منصب على الإِتمام لا على أصل الأداء .
وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها ، وليس في الآية ما يفيد الوجوب ، بل فيها ما يفيد وجوب الإِتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما . وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله - تعالى - : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وأيضاً ، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه ، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " إلى غير ذلك من الأدلة التي ساقها كل فريق لتدعيم رأيه .
ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء ، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف ، انتصر كثير من العلماء فيه للرأي القائل بأنها ليست فرضاً للحج ، بل هي سنة .
وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات . ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك ، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ، وكان ذلك تمهيداً لجحه صلى الله عليه وسلم سنة عشر .
وقد أمر - سبحانه - بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر ، والتفاخر ، وقضاء الحوائج ، وحضور الأسواق ، دون أن يكون لله - تعالى - فيه حظ يقصد ، ولا قربة تعتقد ، فأمر - سبحانه - المسلمين أن ينزهوا عباداتهم - وخصوصاً الحج - عن الأٌوال السيئة ، والأفعال القبيحة ، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإِخلاص والطاعة له - سبحانه - .
وبعد أن أمر الله - تعالى - عباده بأن يتموا الحج والعمرة له ، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } والإِحصار والحصر في اللغة : بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك . قال - تعالى - في شأن قتال المشركين : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم } أي : ضيقوا عليهم المنافذ . ويقال للذي لا يبوح بسره : حصر ؛ لأنه حبس نفسه عن البوح بسره .
ويرى بعض علماء اللغة أن الإِحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة ، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص ، بل بسبب أمر خارجي كالعدو ونحوه .
{ الهدي } : - بتخفيف الياء وتشديدها - مصدر بمعنى المفعول ، أي : المهدي والمراد به ما يهدي إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقرة والشاة ليذبح تقرباً إلى الله - تعالى - .
و { استيسر } هنا بمعنى يسر وتيسر أي : ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب .
والمعنى : أتموا - أيها المؤمنون - الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك ، فإن { أُحْصِرْتُمْ } أي منعتم بعد الإِحرام من الوصول إلى البيت الحرام بسبب عدو أز مرض أو نحوهما ، فعليكم إذا أردتم التحلل من الإِحرام أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى .
وبعض العلماء - كالشافعية والمالكية - يرون أن المراد بالإِحصار في الآية ما كان بسبب عدو ، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية ، أما إذا كان الإِحصار بسبب مرض ، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعاً ، ويسعى بين الصفا والمروة ، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه ، ولا يتحلل بالذبح ، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإِحصار بسبب العدو . أما الأحناف فيرون أن الإِحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح ، إذ الآية عندهم تعم كل منع ، وعلى من أحصر أن يقضي الحج أو العمرة فيما بعد .
وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإِسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسسير ، والرفق لا التشديد قال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقال - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } .
حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإِحرام ، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة ، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك . والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير ، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم أغفر للمحلقين . قالوا : يا رسول الله وللمقصرين . قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : يا رسول الله وللمقصرين : قال : وللمقصرين " أما بالنسبة للنساء فيكفي التقصير .
والمحل : اسم لزمان الحلول أو مكانه . يقال : بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه ، كما يقال : بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به .
قال الآلوسي : وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية .
والمعنى : أتموا الحج والعمرة لله ، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى ، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه ، وهو الحرم .
وهذا رأي الأحناف ، فقد قرروا أن المراد بالمحل البيت الحرام ، فهو اسم مكان ، لأن الله - تعالى - قد قال في آية أخرى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } وعليه فلا يجوز للمحصر أن يحلق ويتحلل إلا بعد أن يصل الهدى الذي يرسله إلى البيت الحرام ويذبح .
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإِحصار ، ودليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحدبيبة وهي ليست من الحرم ، وذلك عندما منعه المشركون من دخول مكة .
وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول الآلوسي - كان في طريق الحديبية بأسفل مكة ، والحديبية متصلة بالحرم .
وعلى رأي جمهور الفقهاء يكون المعنى : ولا تتحللوا من إحرامكم بالحق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه ، فإذا تم الذبح فأحلقوا وتحللوا . والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور .
ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقاً مع السنة النبوية ، وفيه تسهيل على المحصرين ، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير ، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم ، وحمولا قوله - تعالى - : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر ، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه ، أما مكان الذبح عند الإِحصار فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين .
قال الإِمام الرازي : ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال قال الشافعي وغيره : المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان .
وبعد أن بين - سبحانه - أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمراً على إحرامه ، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال - تعالى - : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
أي : فمن كان منكم - أيها المحرمون - مريضاً بمرض يضطر معه إلى الحلق ، أو كان به أذى من رأسه كجراحة وحشرات مؤذية ، فعليه إن حلق فدية من صيام أو صدقة أو نسك .
وقوله : { فَفِدْيَةٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أي : فعليه فدية ، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير : فحلق فعليه فدية .
والفدية : هي العوض عن الشيء الجليل النفيس . ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها .
وعبر - سبحانه - هنا بالفدية دون الكفارة ، لأن الذي به مرض و أذى من رأسه لم يرتكب ذنباً أو إثماً حتى يكفر عنه .
قال القرطبي : والنسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله - تعالى - وتكون من الإِبل والبقر والغنم - ويجمع - أيضاً - على نسائك . والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله - تعالى - :
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : متعبداتنا . وقيل : أصل النسك في اللغة الغسل ؛ ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة . وقيل : النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام " .
وقوله - تعالى - : { مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } بيان لجنس الفدية .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار هذه الفدية ، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصاري قال : " حملت أن النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا . . . أما تجد شاة ؟ قلت : لا ! ! قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك " فنزلت في خصاة وهي لكم عامة .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الفدية في هذا الحديث ، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام ، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين .
قال ابن كثير : ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال : أما تجد شاه ؟ فكل حسن في مقامه " .
وبعد أن بين - سبحانه كيفية التحلل عند الإِحصار ، وكيفية التحلل الجزئي من بعض المحرمات عند المرض ، عقب ذلك للبيان كيفية التحلل في حالة الأمن فقال : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } .
وقوله : { فَإِذَآ أَمِنتُم } الأمن ضد الخوف . أي : فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله { أُحْصِرْتُمْ } وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو { أَمِنتُمْ } مرغوب فيه .
وقوله : { فَمَن تَمَتَّعَ } جواب إذا . والتمتع في اللغة - كما قال الإِمام الرازي - التلذذ . يقال : تمتع بالشيء إذا تلذذ به . والمتاع كل شيء يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع ، أي : طويل وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به .
والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر الحج ، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج .
وسمي هذا النوع من الإِحرام تمتعاً ، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد . لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية .
وهناك نوعان آخران من الإِحرام .
أحدهما : الإِفراد ومعناه : أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة ، وإنما يأتي بها في وقت آخر .
وثانيهما : القرآن ومعناه : أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد ، بأن يبقى على إحرامه ويأتي بمناسك الحج والعمرة بالإِحرام نفسه .
والمعنى : فإذا ثبت أمنكم - أيها المسلمون - عند أدائكم للحج والعمرة ، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج ، بأن أحرم بها في أشهر الحج ، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه ، وباشر أهله إن كانوا معه ، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرماً إلى وقت الإِحرام بالحج ، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكراً لله حيث وفقه - سبحانه - للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل ، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه .
وقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ . . . } معطوف على { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة . . . } لأن { فَمَن تَمَتَّعَ } مع جوابه وهو { فَمَا استيسر . . . } مقدر فيه معنى تمتع واجداً الهدى ، فعطف عليه فمن لم يجد أي الهدى .
وقد جعل - سبحانه - الصيام بدلا عن الهدى زيادة الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين :
إحداهما : - وهي الأقل - تكون في وقت الحج ، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه .
وثانيتهما : - وهي الأكثر - تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام .
وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج ، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه : " فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " .
والإِشارة في قوله - تعالى - { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } إلى الثلاثة والسبعة . ومميز العدد محذوف أي : أيام . والجملة مؤكدة لما أفاد قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو ، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد ، وبذلك يتقرر الحكم نصاً ، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها .
ووصف العشرة بأنها كاملة ، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج ، وأن الحاج إذا نسي بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله - تعالى - به .
وقوله : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } الإِشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله - تعالى - : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج . . . } إلخ .
أي : ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين ، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها ، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون ، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة .
وقد شرع - سبحانه - التمتع ليكون تيسيراً ورفقاً للمقيمين بعيداً عن مكة هذا رأي الأحناف .
ويرى الشافعية : أن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق ، وأن اسم الإِشارة في الجملة الكريمة يعود إلى النسك وما يقوم مقامه من الصوم لأنه أقرب مذكور .
وعلى رأيهم يكون المعنى : ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق ، لا على سكان مكة وما حولها ، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء .
والمراد بحاضري المسجد الحرام : أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الموقيت عند الحنفية . وقال المالكية : هم أهل مكة خاصة . وقال الشافعية : هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقثصر فيها الصلاة . ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
أي : واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه ، واعلموا أن الله شديد العقاب مع الترغيب بالثواب ، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب .
هذا ، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة ، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه ، وأيسر أنواع التكليف .
بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما . والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وإنها مواقيت للناس والحج ؛ والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام ؛ والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه :
( وأتموا الحج والعمرة لله . فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي . ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله . فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك . فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ، تلك عشرة كاملة ، ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام . واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب . . الحج أشهر معلومات ، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج . وما تفعلوا من خير يعلمه الله ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب . . ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم . . فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا . فمن الناس من يقول : ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة . وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب . . واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ، واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) . .
وليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلا رواية تذكر أن قوله تعالى ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة . كذلك ليس لدينا تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام . سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . . أو بآية ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) . . الواردة في سورة آل عمران . فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت . وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتاب : " زاد المعاد " إن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة ؛ ارتكانا منه إلى أن الرسول [ ص ] حج حجة الوداع في السنة العاشرة ؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة . . ولكن هذا لا يصلح سندا . فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول [ ص ] يؤخر حجه إلى السنة العاشرة . وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر - رضي الله عنه - أميرا على الحج في السنة التاسعة . وقد ورد أن رسول الله [ ص ] لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج ؛ ثم تذكر أن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم ، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم . . ثم نزلت براءة ، فأرسل [ ص ] علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - يبلغ مطلع براءة للناس ، وينهي بها عهود المشركين ، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى : " أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . ومن كان له عهد عند رسول الله [ ص ] فهو إلى مدته " . . . . ومن ثم لم يحج [ ص ] حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا . .
وهناك ما يستأنس به على أن فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا . وقد ورد أن الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة . ولكن هذا القول قد لا يجد سندا قويا . إلا أن آيات سورة الحج المكية - على الأرجح - ذكرت معظم شعائر الحج ، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها . وقد ورد فيها : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا ، وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا تفثهم ، وليوفوا نذورهم ، وليطوفوا بالبيت العتيق ) . . ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، ثم محلها إلى البيت العتيق ) . . ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف . فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها ، وأطعموا القانع والمعتر . كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ، وبشر المحسنين ) . .
وقد ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله . وهي شعائر الحج الأساسية . وكان الخطاب موجها إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم . مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر ، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون . فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين - وهم سدنة الكعبة إذ ذاك - جعلت أداء الفريضة متعذرا بعض الوقت ، فذلك اعتبار آخر . وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفرادا في وقت مبكر ؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة .
وعلى أية حال فحسبنا هذا عن تاريخ فرض الحج ، لنواجه الآيات الواردة هنا عن شعائره ، وعنالتوجيهات الكثيرة في ثناياها .
( وأتموا الحج والعمرة لله - فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي - ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله . فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك . فإذا أمنتم : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم - تلك عشرة كاملة . ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) . .
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع ، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه . ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي . . ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله . .
والفقرة الأولى في الآية تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقا متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهل بعمرة أو بحج أو بهما معا ؛ وتجريد التوجه بهما لله :
( وأتموا الحج والعمرة لله ) . .
وقد فهم بعض المفسرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج . وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدىء - وهذا هو الأظهر - فالعمرة ليست فريضة عند الجميع ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج . مما يدل على أن المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص . ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة - ولو أنها ابتداء ليست واجبة - إلا أنه متى أهل بها المعتمر فإن اتمامها يصبح واجبا . والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة . والأشهر أنها تؤدي على مدار العام . وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج .
ويستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار . من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر - وهذا متفق عليه - أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة - واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته - :
( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) . .
وفي هذه الحالة ينحر الحاج أو المعتمر ما تيسر له من الهدي ويحل من إحرامه في موضعه الذي بلغه . ولو كان لم يصل بعد إلى المسجد الحرام ولم يفعل من شعائر الحج والعمرة إلا الإحرام عند الميقات [ وهو المكان الذي يهل منه الحاج أو المعتمر بالحج أو العمرة أو بهما معا ، ويترك لبس المخيط من الثياب ، ويحرم عليه حلق شعره أو تقصيره أو قص أظافره كما يحرم عليه صيد البر وأكله . . . ]
وهذا ما حدث في الحديبية عندما حال المشركون بين النبي [ ص ] ومن معه من المسلمين دون الوصول إلى المسجد الحرام ، سنة ست من الهجرة ، ثم عقدوا معه صلح الحديبية ، على أن يعتمر في العام القادم . فقد ورد أن هذه الآية نزلت ؛ وأن رسول الله [ ص ] أمر المسلمين الذين معه أن ينحروا في الموضع الذي بلغوا إليه ويحلوا من إحرامهم فتلبثوا في تنفيذ الأمر ، وشق على نفوسهم أن يحلوا قبل أن يبلغ الهدي محله - أي مكانه الذي ينحر فيه عادة - حتى نحر النبي [ ص ] هديه أمامهم وأحل من إحرامه . . ففعلوا . .
وما استيسر من الهدي ، أي ما تيسر ، والهدي من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم والمعز ، ويجوز أن يشترك عدد من الحجاج في بدنة أي ناقة أو بقرة ، كما اشترك كل سبعة في بدنة في عمرة الحديبية ، فيكون هذا هو ما استيسر ؛ ويجوز أن يهدي الواحد واحدة من الضأن أو المعز فتجزيء .
والحكمة من هذا الاستدراك في حالة الإحصار بالعدو كما وقع في عام الحديبية ، أو الإحصار بالمرض ، هي التيسير ، فالغرض الأول من الشعائر هو استجاشة مشاعر التقوى والقرب من الله ، والقيام بالطاعات المفروضة . فإذا تم هذا ، ثم وقف العدو أو المرض أو ما يشبهه في الطريق فلا يحرم الحاج أو المعتمر أجر حجته أو عمرته . ويعتبر كأنه قد أتم . فينحر ما معه من الهدى ويحل . وهذا التيسير هو الذي يتفق مع روح الإسلام وغاية الشعائر وهدف العبادة .
وبعد هذا الاستدراك من الأمر الأول العام ، يعود السياق فينشىء حكما جديدا عاما من أحكام الحج والعمرة .
( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) . .
وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار . فلا يجوز حلق الرؤوس - وهو إشارة إلى الإحلال من الإحرام بالحج أو العمرة أو منهما معا - إلا بعد أن يبلغ الهدي محله . وهو مكان نحره . بعد الوقوف بعرفة ، والإفاضة منها . والنحر يكون في منى في اليوم العاشر من ذي الحجة ، وعندئذ يحل المحرم . أما قبل بلوغ الهدي محله فلا حلق ولا تقصير ولا إحلال .
واستدراكا من هذا الحكم العام يجيء هذا الاستثناء :
( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) . .
ففي حالة ما إذا كان هناك مرض يقتضي حلق الرأس ، أو كان به أذى من الهوام التي تتكون في الشعر حين يطول ولا يمشط ، فالإسلام دين اليسر والواقع يبيح للمحرم أن يحلق شعره ، - قبل أن يبلغ الهدي الذي ساقه عند الإحرام محله ، وقبل أن يكمل أفعال الحج - وذلك في مقابل فدية : صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة بإطعام ستة مساكين ، أو ذبح شاة والتصدق بها . وهذا التحديد لحديث النبي [ ص ] قال البخاري - بإسناده إلى كعب بن عجرة - قال : حملت إلى النبي [ ص ] والقمل يتناثر على وجهي . فقال : " ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا . أما تجد شاة ؟ قلت : لا . قال : صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، وأحلق رأسك " . .
ثم يعود إلى حكم جديد عام في الحج والعمرة :
( فإذا أمنتم ، فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) . .
أي فإذا لم تحصروا ، وتمكنتم من أداء الشعائر ، فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فلينحر ما استيسر من الهدي . . وتفصيل هذا الحكم : أن المسلم قد يخرج للعمرة فيهل محرما عند الميقات . حتى إذا فرغ من العمرة - وهي تتم بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة - أحرم للحج وانتظر أيامه . وهذا إذا كان في أشهر الحج ، وهي شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة . . هذه صورة من صور التمتع بالحج إلى العمرة . والصورة الثانية هي أن يحرم من الميقات بعمرة وحج معا . فإذا قضى مناسك العمرة انتظر حتى يأتي موعد الحج . وهذه هي الصورة الثانية للتمتع - وفي أي من الحالتين على المعتمر المتمتع أن ينحر ما استيسر من الهدي بعد العمرة ليحل منها ؛ ويتمتع بالإحلال ما بين قضائه للعمرة وقضائه للحج . وما استيسر يشملالمستطاع من الأنعام سواء الإبل والبقر أو الغنم والمعز .
فإذا لم يجد ما استيسر من الهدي فهناك فدية :
( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم . تلك عشرة كاملة ) . .
والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة الأولى قبل الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة . أما الأيام السبعة الباقية فيصومها بعد عودته من الحج إلى بلده . . ( تلك عشرة كاملة ) . . ينص عليها نصا للتوكيد وزيادة البيان . . ولعل حكمة الهدي أو الصوم هي استمرار صلة القلب بالله ، فيما بين العمرة والحج ، فلا يكون الإحلال بينهما مخرجا للشعور عن جو الحج ، وجو الرقابة ، وجو التحرج الذي يلازم القلوب في هذه الفريضة . .
ولما كان أهل الحرم عماره المقيمين فيه لا عمرة لهم . . إنما هو الحج وحده . . لم يكن لهم تمتع ، ولا إحلال بين العمرة والحج . ومن ثم فليس عليهم فدية ولا صوم بطبيعة الحال :
( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . .
وعند هذا المقطع من بيان أحكام الحج والعمرة يقف السياق ليعقب تعقيبا قرآنيا ، يشد به القلوب إلى الله وتقواه :
( واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) . .
وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى ، وهي مخافة الله ، وخشية عقابه . والإحرام بصاحبه تحرج . فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير ، تستجيش فيه هذا الترج ، وتقوم بالحراسة في انتباه !