التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ} (204)

وبعد أن بين - سبحانه - فريضة الحج وما اشتملت عليه من أحكام وآداب ، وبين أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم ، ومعادن نفوسهم ، بعد أن بين ذلك أعقبه بالحديث عن صنفين من الناس فقال :

{ وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي . . . }

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت صنفين من الناس .

أولهما : يمثل الأشرار .

والثاني : يمثل الأخيار .

أما الصنف الأول فقد وصفه الله - تعالى - بخمس صفات ، الصفة الأولى حكاها في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } .

يعجبك : من الإِعجاب بمعنى الاستحسان ، تقول . أعجبني هذا الشيء ، أي : استحسنته وعظم في نفسي . و " من " للتبعيض .

والمعنى : ومن الناس فريق يروقك منطقهم ، ويعجبك بيانهم ، ويحسن عندك مقالهم . فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر ، المر الباطن ، وأنت في هذه الدنيا لأنك تأخذ الناس بظواهرهم ، أما في الآخرة فلن يعجبك أمرهم لأنهم ستنكشف حقائقهم أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية ، وسيعاقبهم عقاباً أليماً لإظهارهم القول الجميل وإخفائهم الفعل القبيح .

وعلى هذا التفسير يكون قوله : { فِي الحياة الدنيا } متعلقاً بيعجبك .

وبعضهم يجعل قوله { فِي الحياة الدنيا } متعلقاً بالقثول فيكون المعنى عليه ومن الناس فريق يعجبك قولهم إذا ما تكلموا في شئون الدنيا ومتعها لأنها منتهى آمالهم ، ومبلغ علمهم ، وأصل حبهم ، ومن أحب شيئاً أجاد التعبير عنه ، أما الآخرة فهم لا يحسنون القول فيها ، لأنهم لا يهتمون بها ، بل هم غافلون عنها ، ومن شأن الغافل عن شيء ألا يحسن القول فيه .

ويبدو لنا أن تعلق الجار والمجرور بيعجبك أرجح ، لأنه يتفق مع السياق إذ سياق الحديث في شأن الذين يقولون بأفواههم لما ليس في قلوبهم ، ويخدعون الناس بمعسول بيانهم ع أن نفوسهم مريضة ، وليس في شأن الذين يحسنون الحديث عن شئونها المختلفة ، بل إن بعض الذين يحسنون الحديث في شئون الدنيا لم يضيعوا أخراهم وإنما عمروها بالعمل الصالح ، فهم جامعون بين حسنتي الدنيا والآخرة .

والصفة الثانية من صفات هذا النوع المنافق من الناس بينه القرآن بقوله : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ } أي : يقرن معسول قوله ، وظاهر تودده ، بإشهاد الله على أن ما في قلبه مطابق لما يجرى على لسانه .

وكأن هذا النوع المنافق قد رأى من الناس تشككاً في قوله ، لأن من عادة المنافقين أن يبدوا من فلتات لسانهم ما يدل على ما هو مخبوء في نفوسهم فأخذ يوثق قوله بالإيمان الباطلة بأن يقول لمن ارتاب فيه : الله يشهد أني صاطق فيما أقول . . إلى غير ذلك من الأٌوال التي يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه ، فالمراد بإشهاد الله : الحلف به أن ما في قلبه موافق لقوله .

وجملة { وَيُشْهِدُ الله } حالية أو مستأنفة أو معطوفة على قوله { يُعْجِبُكَ } .

وقوله - تعالى - { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } صفة ثالثة من صفات هذا النوع من الناس .

قال القرطبي : الألد : الشديد الصخومة والعداوة . . ولددته - بفتح الدال - الده - بضمها - إذا جادلته فغلبته .

والألد مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق ، أي : في أي جانب أخذ من الخصومة غلب . والخصام في الآية مصدر خاصم . وقيل جمع خصم كصعب وصعاب . والمعنى ، أشد المخاصمين خصومة ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " .

أي : إن هذا النوع من الناس يثير الإِعجاب بحسن بيانه ، ويضللهم بحلاوة لسانه ، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يقول إلا الصدق ، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة ، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا ، وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ} (204)

204

( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ، ويشهد الله على ما في قلبه ، وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد . وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد . . ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ، والله رؤوف بالعباد ) . .

هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس ، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدرا بشريا على الإطلاق . فاللمسات البشرية لا تستوعب - في لمسات سريعة كهذه - أعمق خصائص النماذج الإنسانية ، بهذا الوضوح ، وبهذا الشمول .

إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات . . وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا حيا ، مميز الشخصية . حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه ، وتفرزه من ملايين الأشخاص ، وتقول : هذا هو الذي أراد إليه القرآن ! . . إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء !

هذا المخلوق الذي يتحدث ، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير ، ومن الإخلاص ، ومن التجرد ، ومن الحب ، ومن الترفع ، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس . . هذا الذي يعجبك حديثه . تعجبك ذلاقة لسانه ، وتعجبك نبرة صوته ، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح . . ( ويشهد الله على ما في قلبه ) . . زيادة في التأثير والإيحاء ، وتوكيدا للتجرد والإخلاص ، وإظهارا للتقوى وخشية الله . . ( وهو ألد الخصام ) ! تزدحم نفسه باللدد والخصومة ، فلا ظل فيها للود والسماحة ، ولا موضع فيها للحب والخير ، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار .

هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه ، ويتنافر مظهره ومخبره . . هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان . .