وبعد أن حكى القرآن المعجزات الباهرة التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك بالإشارة إلى طبيعة رسالته فقال - تعالى { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } .
وقوله - تعالى - { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } عطف على المضمر الذى تعلق به قوله تعالى { بِآيَةٍ } أى قد جئتكم محتجا أو ملتبسا بآية من ربكم ، ومصدقا لما بين يدى . . وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه " قد جئتكم " . . أى جئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ، ومعنى تصديقه - عليه السلام - للتوراة والإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب ، وأن كتابه يدعو إلى الإيمان بها .
والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قال لبنى إسرائيل : إن الله - تعالى - قد أرسلني إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقى . وجئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة . أي مقررا لها ومؤمناً بها .
ومعنى ما بين يدى ما تقدم قبلى : لأن المتقدم السابق يمشي بين يدى الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان عيسى - عليه السلام - وبين نزول التوراة أزمنة طويلة لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه فكأنها لم تسبقه بزمن طويل ويستعمل بين يدى كذا فى معنى الحاضر المشاهد كما فى قوله - تعالى - { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } وقوله { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } معمول لمقدر بعد الواو ، أى : وجئتكم لأحل لكم بعض الأشياء التى كانت محرمة عليكم فى شريعة موسى - عليه السلام - فهو من عطف الجملة على الجملة .
أى أن شريعة عيسى جاءت متممة لشريعة موسى وناسخة لبعض أحكامها ، فلقد حرم الله - تعالى - على بنى إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء فى قوله - تعالى - { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فجاءت شريعة عيسى - عليه السلام - لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم .
قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى - عليه السلام - نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين : ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطؤوا فكشف لهم عن خطئهم كما قال فى الآية { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ } قالوا . ومن الأطعمة التي أحلها عيسى لبنى إسرائيل بعد أن كانت محرمة عليهم فى شريعة موسى : لحوم الإبل والشحوم وبعض الأسماك والطيور .
وقوله { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه .
قال الفخر الرازى " وإنما أعاد قوله - تعالى - { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر ، فأعاد ذكر المعجزات ليكون كلامه ناجعا فى قلوبهم ومؤثرا في طباعهم . ثم خوفهم فقال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم عن ربي " .
( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم . وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون . إن الله ربي وربكم فاعبدوه . هذا صراط مستقيم ) . .
وهذا الختام في دعوة عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين الله ، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعا - عليهم الصلاة والسلام - وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى - عليه السلام - بالذات ، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات ، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين الله التي لا تتبدل بين رسول ورسول .
فهو إذ يقول : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) . .
يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة . فالتوارة التي تنزلت على موسى - عليه السلام - وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان ، وملابسات حياة بني إسرائيل [ بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان ] - هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام ؛ وجاءت رسالته مصدقة لها ، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم ، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات ، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم . ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام ، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم .
ومن هذا يتبين أن طبيعة الدين - أي دين - أن يتضمن تنظيما لحياة الناس بالتشريع ؛ وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده ، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها ، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك . فهذا لا يكون دينا . فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر ؛ ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله .
ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية ، عن الشعائر التعبدية ، عن القيم الخلقية ، عن الشرائع التنظيمية ، في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي . وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة ؛ ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله .
وهذا ما حدث للمسيحية . فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية ؛ ولكونها جاءت موقوته لزمن - حتى يجيء الدين الأخير - ثم عاشت بعد زمنها من ناحية . . قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي . . فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه السلام وأنصاره ومن اتبع دينه فيما بعد ؛ فأنشأ هذا انفصالا بين التوراة المتضمنة للشريعة والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي والتهذيب الأخلاقي . . كما أن تلك الشريعة كانت شريعة موقوتة لزمن خاص ولجماعة من الناس خاصة . وكان في تقدير الله أن الشريعة الدائمة الشاملة للبشرية كلها ستجيء في موعدها المقدور .
وعلى أية حال فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نحلة بغير شريعة . وهنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها . فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصورا اعتقاديا يفسر الوجود كله ، ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود ؛ وتقتضي نظاما تعبديا وقيما أخلاقية . ثم تقتضي - حتما - تشريعات منظمة لحياة الجماعة ، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي ، ومن هذا النظام التعبدي ، ومن هذه القيم الأخلاقية . وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي ، له بواعثه المفهومة ، وله ضماناته المكينة . . فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاما شاملا للحياة البشرية ، واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها ، ومن بينهما النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة . وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة . فقامت معلقة في الهواء . أو قامت عرجاء !
ولم يكن هذا أمرا عاديا في الحياة البشرية ، ولا حادثا صغيرا في التاريخ البشري . . إنما كان كارثة : كارثة ضخمة ، تنبع منها الشقوة والحيرة والانحلال والشذوذ والبلاء الذي تتخبط فيه الحضارة المادية اليوم . سواء في البلاد التي لا تزال تعتنق المسيحية - وهي خالية من النظام الاجتماعي لخلوها من التشريع - أو التي نفضت عنها المسيحية وهي في الحقيقة لم تبعد كثيرا عن الذين يدعون أنهم مسيحيون . . فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح ، وكما هي طبيعة كل دين يستحق كلمة دين ، هي الشريعة المنظمة للحياة ، المنبثقة من التصور الاعتقادي في الله ، ومن القيم الأخلاقية المستندة إلى هذا التصور . . وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا تكون مسيحية . ولا يكون دين على الإطلاق ! وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا يقوم نظام اجتماعي للحياة البشرية يلبي حاجات النفس البشرية ، ويلبي واقع الحياة البشرية ، ويرفع النفس البشرية والحياة البشرية كلها إلى الله .
وهذه الحقيقة هي أحد المفاهيم التي يتضمنها قول المسيح عليه السلام :
( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) . . إلخ . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.