البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (50)

{ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة } عطف و : مصدقاً ، على قوله : بآية إذ الباء فيه للحال ، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى ، فالمعنى : وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم ، ومصدقاً لما بين يدي .

ومنعوا أن يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : رسولاً إلى بني إسرائيل ، ولا على : وجيهاً ، لما يلزم من كون الضمير في قوله : لما بين يدي ، غائباً .

فكان يكون : لما بين يديه ، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله : ورسولاً ، أن يكون منصوباً بإضمار فعل ، أي : وأرسلت رسولاً ، فعلى هذا التقدير يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : ورسولاً .

ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء .

قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس .

{ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } قال ابن جريج : أحل لهم لحوم الابل والشحوم .

وقال الربيع : وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير ، وكان ذلك في التوراة محرماً .

وقال بعض المفسرين : حرم عليكم ، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه ، فكأن عيسى ردّ أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله .

انتهى كلامه .

واختلفوا في إحلاله لهم السبت .

وقرأ عكرمة : ما حرم عليكم ، مبنياً للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على : ما ، من قوله : لما بين يدي ، أو يعود على : الله ، منزل التوراة ، أو على : موسى ، صاحب التوراة .

والظاهر الأول لأنه مذكور .

وقرأ : حرم ، بوزن : كرم ، إبراهيم النخعي ، والمراد ببعض مدلولها المتعارف ، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم : القتل ، والزنا ، والسرقه ، لأن ذلك محرم عليهم ، واستدلاله على أن : بعضاً ، تأتي بمعنى : كل ، بقول لبيد :

ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها *** أو ترتبط بعض النفوس حمامها

ليس بصحيح ، لأن بعضاً على مدلوله ، إذ يريد نفسه ، فهو تبعيض صحيح ، وكذلك استدلال من استدل بقوله :

إن الأمور إذا الأحداث دبرها *** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

لصحة التبعيض ، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل .

وقال بعضهم : لا يقوم : بعض ، مقام : كل إلا إذا دلت قرينة على ذلك ، نحو قوله :

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشر أهون من بعض

يريد : بعض الشر أهون من كله . انتهى .

وفي ذلك نظر .

واللام في : ولأحل لكم ، لام كي ، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ ، فقيل : هو معطوف على المعنى ، إذ المعنى في : ومصدقاً ، أي : لأصدق ما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم .

وهذا هو العطف على التوهم ، وليس هذا منه ، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه .

ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض ؟ وكذلك قوله :

تقي نقي لم يكثر غنيمة *** بنكهة ذي قربى ولا بحفلد

كيف اتحد معنى النفي في قوله : لم يكثر ، ولا في قوله : ولا بحفلد ؟ أي : ليس بمكثر ولا بحفلد .

وكذلك ما جاء من هذا النوع .

وقيل : اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى : أي وجئتكم لأحلّ لكم .

وقيل : تتعلق اللام بقوله : وأطيعون ، والمعنى : واتبعون لأحل لكم ، وهذا بعيد جداً .

وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : لأخفف عنكم ، أو نحو ذلك .

وقال الزمخشري : ولأحل ، ردّ على قوله : بآية من ربكم ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، لأن : بآية ، في موضع حال ، و : لأحل ، تعليل ، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو تعليل ، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف .

{ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ظاهر اللفظ أن يكون قوله : { وجئتكم بآية من ربكم } للتأسيس لا للتوكيد ، لقوله : قد جئتكم بآية من ربكم .

/خ51