التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (50)

وبعد أن حكى القرآن المعجزات الباهرة التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - عقب ذلك بالإشارة إلى طبيعة رسالته فقال - تعالى { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } .

وقوله - تعالى - { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } عطف على المضمر الذى تعلق به قوله تعالى { بِآيَةٍ } أى قد جئتكم محتجا أو ملتبسا بآية من ربكم ، ومصدقا لما بين يدى . . وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه " قد جئتكم " . . أى جئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ، ومعنى تصديقه - عليه السلام - للتوراة والإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب ، وأن كتابه يدعو إلى الإيمان بها .

والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قال لبنى إسرائيل : إن الله - تعالى - قد أرسلني إليكم لهدايتكم وقد جئتكم بالمعجزات التي تثبت صدقى . وجئتكم مصدقا لما بين يدى من التوراة . أي مقررا لها ومؤمناً بها .

ومعنى ما بين يدى ما تقدم قبلى : لأن المتقدم السابق يمشي بين يدى الجائي فهو هنا تمثيل لحالة السبق ، وإن كان عيسى - عليه السلام - وبين نزول التوراة أزمنة طويلة لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه فكأنها لم تسبقه بزمن طويل ويستعمل بين يدى كذا فى معنى الحاضر المشاهد كما فى قوله - تعالى - { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } وقوله { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } معمول لمقدر بعد الواو ، أى : وجئتكم لأحل لكم بعض الأشياء التى كانت محرمة عليكم فى شريعة موسى - عليه السلام - فهو من عطف الجملة على الجملة .

أى أن شريعة عيسى جاءت متممة لشريعة موسى وناسخة لبعض أحكامها ، فلقد حرم الله - تعالى - على بنى إسرائيل بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم كما جاء فى قوله - تعالى - { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فجاءت شريعة عيسى - عليه السلام - لتحل لهم بعض ما حرمه الله عليهم بسبب ظلمهم وفجورهم .

قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى - عليه السلام - نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين : ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطؤوا فكشف لهم عن خطئهم كما قال فى الآية { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ } قالوا . ومن الأطعمة التي أحلها عيسى لبنى إسرائيل بعد أن كانت محرمة عليهم فى شريعة موسى : لحوم الإبل والشحوم وبعض الأسماك والطيور .

وقوله { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } تحريض لهم على الاستجابة لما يدعوهم إليه .

قال الفخر الرازى " وإنما أعاد قوله - تعالى - { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر ، فأعاد ذكر المعجزات ليكون كلامه ناجعا فى قلوبهم ومؤثرا في طباعهم . ثم خوفهم فقال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم عن ربي " .