وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } للمفسرين فى تأويل هذه الآية وجوه :
أولها : أن المراد بهم قوم تكرر منهم الارتداد ، وأصروا على الكفر ، وازدادوا تماديا فى البغى والضلال .
وقد صدر الفخر الرازى تفسيره لهذه الآية بهذا المعنى فقال : المراد بهم الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإِيمان مرات وكرات ، فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإِيمان فى قلوبهم ، إذ لو كان للإِيمان وقع فى قلوبهم لما تركوه لأدنى سبب ومن لا يكون للإِيمان وقع فى قلبه فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيمانا صحيحا معتبرا . فهذا هو المراد بقوله : { لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } . وليس المراد أنه أتى بالإِيمان الصحيح لم يكن معتبرا ، بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذى ذكرناه .
وقال الإِمام ابن كثير : يخبر - تعالى - عمن دخل فى الإِيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله ، وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له " ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى ، ولهذا قال : { لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } . وقد قال ابن عباس فى قوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } : تمادوا فى كفرهم حتى ماتوا " .
وثانيها : أن المراد بهم أهل الكتاب . وقد رجح هذا الإِتجاه ابن جرير فقال : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة ، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإِنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه ، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان ، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره .
وثالثها : أن المراد بهم طائفة من اليهود كانوا يظهرون الإِسلام تارة ثم يرجعون عنه إلى يهوديتهم لتشكيك المسلمين فى دينهم وذلك معنى قوله : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ورابعها : أن المراد بهم المنافقون . فالإِيمان الأول وإظهارهم الإِسلام . وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم . والإِيمان الثانى هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسملين قالوا : إنا مؤمنون . والكفر الثانى هو أنهم إذا خلوا إلى إخوانهم فى النفاق قالوا لهم إنا معكم . وازديادهم فى الكفر هو جدهم واجتهادهم فى استخراج أنواع المكر والكيد فى حق المسلمين .
والذى نراه أولى من بين هذه الأقوال القول الأول ، لأن ألفاظ الآية عامة ولم تخصص قوما دون قوم ، فكل من تكرر منهم الارتداد واستمرار فى ضلالهم حتى ماتوا ينطبق عليهم الوعيد الذى بينته الآية الكريمة ، سواءً كان أولئك الذين حدث منهم هذا الارتداد المتكرر من المنافقين أم من غيرهم .
والمعنى : إن الذين آمنوا بدين الإِسلام ثم رجعوا عنه إلى ما كانوا عليه من ضلال ، ثم آمنوا ثم كفروا مرة أخرى ، ثم ازدادوا كفرا على كفرهم بأن استمروا فيه حتى ماتوا . . . هؤلاء الذين فعلوا ذلك لم يكن الله ليغفر لهم ، لتماديهم فى الكفر وإصرارهم عليه حتى ماتوا ، ولم يكن - سبحانه - ليهديهم سبيلا مستقيما ، لأنهم هم الذين استحبوا العمى على الهدى ، وهم الذين كانوا { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } قال الآلوسى : والقول المشهور الذى عليه الجمهور أن المراد من نفى المغفرة والهداية ، نفى ما يقتضيهما وهو الإِيمان الخالص الثابت . ومعنى نفيه : استبعاد وقوعه ، فإن من كرر منهم الارتداد وازدياد الكفر والإِصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر ، وصار الإِيمان عندهم أدون شئ وأهونه ، فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة ، لا أنهم لو أخلصوا الإِيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم . ثم قالوا : وخبر فى أمثالهم هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام أى : ما كان الله مريداً للغفران لهم . ونفى إرادة الفعل أبلغ من نفيه .
وبعد هذين النداءين للذين آمنوا يأخذ السياق في الحملة على النفاق والمنافقين . ويبدأ بوصف حالة من حالاتهم الواقعة حينذاك ، تمثل موقف بعضهم ، وهو أقرب المواقف إلى الحديث عن الكفر والكفار :
( إن الذين آمنوا ثم كفروا . ثم آمنوا ثم كفروا . ثم ازدادوا كفرا . لم يكن الله ليغفر لهم ، ولا ليهديهم سبيلًا ) . .
إن الكفر الذي يسبق الإيمان يغفره الإيمان ويمحوه . فالذي لم يشهد النور معذور إذا هو أدلج في الظلام . . فأما الكفر بعد الإيمان . مرة ومرة . . فهو الكبيرة التي لا مغفرة لها ولا معذرة . . إن الكفر حجاب فمتى سقط فقد اتصلت الفطرة بالخالق . واتصل الشارد بالركب . واتصلت النبتة بالنبع . وذاقت الروح تلك الحلاوة التي لا تنسى . . حلاوة الإيمان . . فالذين يرتدون بعد الإيمان مرة ومرة ، إنما يفترون على الفطرة ، عن معرفة . ويلجون في الغواية عن عمد . ويذهبون مختارين إلى التيه الشارد والضلال البعيد . .
فعدل ألا يغفر الله لهم ؛ وعدل ألا يهديهم سبيلا ؛ لأنهم هم الذين أضاعوا السبيل بعد ما عرفوه وسلكوه . وهم الذين اختاروا السيئة والعمى ، بعد ما هدوا إلى المثابة والنور . .
وإذا لم تتجرد النفس لله ، لم تتحرر أبدا من ضغط القيم والأوضاع ، والضرورات والمصالح ، والحرص والشح . ولم ترتفع أبدا على المصالح والمغانم ، والمطامع والمطامح . ولم تستشعر أبدا تلك الطلاقة والكرامة والاستعلاء التي يحسها القلب المملوء بالله ، أمام القيم والأوضاع ، وأمام الأشخاص والأحداث ، وأمام القوى الأرضية والسلطان وأصحاب السلطان . .
ومن هنا تبذر بذرة النفاق . . وما النفاق في حقيقته إلا الضعف عن الإصرار على الحق في مواجهة الباطل . وهذا الضعف هو ثمرة الخوف والطمع ، وتعليقهما بغير الله ؛ وثمرة التقيد بملابسات الأرض ومواضعات الناس ، في عزلة عن منهج الله للحياة .
فهناك مناسبة في السياق بين الحديث عن الإيمان بالله ، والتجرد في القيام بالشهادة له ، وبين الحديث عن النفاق - إلى جانب المناسبة العامة ، التي يكونها موضوع السورة الأصيل ، وهو تربية الجماعة المسلمة بمنهج الإسلام ؛ ومعالجة الرواسب الباقية من الجاهلية ؛ وتعبئة النفوس كذلك ضد الضعف البشري الفطري . . ثم خوض المعركة - بهذه الجماعة - مع المشركين من حواليها ، ومع المنافقين فيها . والسياق متصل في هذا الهدف العام - من مبدأ السورة إلى منتهاها .
وهكذا يستغرق الحديث عن النفاق والمنافقين بقية هذا الدرس ، وهو ختام هذا الجزء . . بعد تلك الصورة التي رسمتها الآية السابقة لطائفة من المنافقين آمنوا ثم كفروا . ثم آمنوا ثم كفروا . ثم ازدادوا كفرا . .
ومن هنا تبدأ الحملة التي سبقت الإشارة إليها على النفاق والمنافقين بشتى أساليبها الجديرة بالدراسة والتأمل ، لمعرفة طبيعة المنهج وهو يزاول العمل على الطبيعة ؛ وفي واقع الحياة والقلوب !
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة ؟ فإن العزة لله جميعا . وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . إنكم إذا مثلهم . إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا . الذين يتربصون بكم . فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة . ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . إن المنافقين يخادعون الله - وهو خادعهم - وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ، ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك . لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.