ثم حكى القرآن بعد ذلك مسلكا آخر من المسالك الذميمة التى عرفت عن المنافقين وضعفاء النفوس فقال - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } .
والمراد بالأمر هنا : الخبر الذى يكون له أثر إذا أشيع وأذيع .
وقوله { أَذَاعُواْ بِهِ } أى نشروه وأشاعوه . يقال : أذاع الخبر وأذاع به أفشاه وأعلنه .
والمعنى : أن هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض إذا سمعوا شيئا من الآخبار التى تتعلق بأمن المسلمين أو خوفهم أذاعواها وأظهروها قبل أن يقفوا على حقيقتها .
قال الآلوسى : والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين ، أو لبيان جناية الضعفاء أثر بيان جناية المنافقين ، وذلك أنهم كانوا إذا غزت سرية من المسلمين قالوا عنها : أصاب المسلمون من عدوهم كذا . وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا من غير أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى يخبرهم به . وقيل : كان الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين .
ثم بين - سبحانه - ما كان يجب عليهم فعله فقال - : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
والمراد بأولى الأمر : كبار الصحابة البصراء بالأمور . وقيل المراد بهم : الولاة وأمراء السرايا .
ويستبطونه أى يستخرجونه . والاستنباط - كما يقول القرطبى - مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمى النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما فى الأرض .
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين وضعاف الإِيمان كان من شأنهم وحالهم أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن أو خوف يتعلق بالمؤمنين أشاعوه وأظهروه بدون تحقق أو تثبت ، بقصد بليلة الأفكار ، واضطراب حال المؤمنين ، ولو أن هؤلاء المنافقين ومن يستمعون إليهم ردوا ذلك الخبر الذى جاءهم والذى أشاعوا بدون تثبت ، لو أنهم ردوه الى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى كبار الصحابة البصراء فى الأمور : { لَعَلِمَهُ } أى لعلم حقيقة ذلك الخبر { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ } أى : الذين يستخرجونه ويستعملونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون للأخبار { مِنْهُمْ } أى : من الرسول وأولى الأمر .
أى : لو أن أولئك المنافقين وأشباههم الذين يستخرجون الأخبار ويذيعونها بغير تثبت سكتوا عن إذاعتها وردوا الأمر فى شأنها إلى الرسول وإلى كبار أصحابه ، لو أنهم فعلوا ذلك لعلموا من جهة الرسول وجهة كبار أصحابه حقيقة تلك الأخبار ، وما يجب عليهم نحوها من كتمان أو إذاعة .
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله { مِنْهُمْ } فى الموضعين يعود إلى الرسول وإلى أولى الأمر .
ويكون المراد بالذين يستنبطونه : المنافقون وضعاف الإِيمان الذين يذيعون الأخبار ويكون فى الكلام إظهار فى مقام الإِضمار ؛ حيث قال : سبحانه - { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يقل لعلموه منهم ، وذلك لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، وللمبالغة فى ذمهم على بجثهم وراء الأخبار الخفية الهامة واستنباطها وتطلبها ثم إذاعتها بقصد الإِضرار بمصلحة المسلمين .
وقد ذكر الفخر الرازى فى المراد بالذين يستنطبونه وجها آخر فقال :
وفى قوله { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قولان :
الأول : أنهم أولئك المنافقون المذيعون .
والتقدير : لو أن هؤلاء المنافقين المذيعين للأخبار ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولى الأمر ، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم ، لعلمه الذين يستنطبونه وهم هؤلاء المنافقون المذيعون { مِنْهُمْ } أى من جانب الرسول ومن جانب أولى الأمر .
والقول الثانى : أنهم طائفة من أولى الأمر . والتقدير : ولو أن المنافقين ردوا إلى الرسول وإلى أولى الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولى الأمر ، وذلك لأن أولى الأمر فريقان : بعضهم من يكون مستنبطا ، وبعضهم من لا يكون كذلك . فقوله { مِنْهُمْ } يعنى لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولى الأمر .
فإن قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الاخبار إلى الرسول وإلى المؤمنين هم المنافقون فكيف جعل أولى الأمر منهم فى قوله { وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ } ؟ قلنا : إنما جعل أولى الأمر منهم على حسب الظاهر . لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون . ونظيره قوله - تعالى - : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان فضله على عباده فقال { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم - أيها المؤمنون - بتوفيقه إياكم إلى الخير والطاعة ، لوقعتم فى إغواء الشيطان كما وقع هؤلاء المنافقون وأشباههم ، إلا عددا قليلا منكم وهم الذين أخلصوا دينهم لله واعتصموا به فصاروا لا سبيل للشيطان عليهم كما قال - تعالى - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } هذا . ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب عدم إذاعة الأخبار - خصوصها فى حالات الحرب - إلا بعد التأكد من صحتها ومن عدم إضرارها بمصلحة المسلمين .
وفى ذلك يقول الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة . وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " .
وفى الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال . أى : الذى يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين .
وفى الصحيح " من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " .
وفى سنن أبى داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مطية الرجل زعموا " .
وقد عدد الفخر الرازى المضار التى تعود على الأمة بسبب إذاعة الأخبار بدون تثبت فقال : وكان سبب الضرر من إذاعة هذه الأخبار من وجوه :
الأول : أن مثل هذه الإِرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .
الثاني : أنه إذا كان ذلك الخبر فى جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة . فإذا لم توجد فيه تلك الزيادات ، أورث ذلك شبهة للضعفاء فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا يروون هذه الإِرجافات عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإن كان ذلك فى جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده فى الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الإِرجافات سببا للتفنة من هذا الوجه .
الثالث : أن الإِرجاف سبب لتوفير الدواعى على البحث الشديد والاستقصاء التام . وذلك سبب لظهورا لأسرار . وذلك ما لا يوافق المصحلة .
الرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار . فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثانى . فإن قوع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم . أرجف المنافقون بذلك ، فوصل الخبر إلى الكفار فأخذوا فى التحصن من المسلمين . وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا فى ذلك وزادوا فيه . فظهر من ذلك أن ذلك الإِرجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه . ولما كان الأمر كذلك ذم الله - تعالى - تلك الإِذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه .
وقال الشيخ محمد المنير - الذى عاصر الحروب الصليبية - معلقا على هذه الآية : ( فى هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع وكفى به كذبا ؛ وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء العداوة ، والمقيمن فى نحر العدو . وما أعظم المفسدة فى لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم خيرا أو غيره . ولقد جربنا ذلك فى زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد - طهرها الله منه وصانها من رجسه ونجسه ، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر ) .
والخلاصة ، أن إذاعة الأخبار بدون تثبت - خصوصا فى أوقات الحروب تؤدى إلى أعظم المفاسد والشرور ، لأنها إن كانت تتعلق بالأمن فإنها قد تحدث لونا من التراخى وعدم أخذ الحذر ، وإن كانت تتعلق بالخوف فإنها قد تحدث بلبلة واضطرابا فى الصفوف .
والمجتمع الذى يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذى تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصلية ، وهو الذى يرجع أفراده فى معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين .
وهكذا نرى الآية الكريمة تغرس فى نفوس المؤمنين أسمى ألوان الإِخلاص لدينهم ودولتهم وقيادتهم ، فهى فى مطلعها تنكر عليهم إذاعة الاخبار بدون تحقق من صدقها ومن فائدتها ، وفى وسطها تأمرهم بأن يرجعوا إلى حقائق دينهم وإلى الحكام العادلين ، والعلماء المخصلين الذين يعرفون الأمور على وجهها ليسألوهم عما يريدون معرفته ، وفى آخرها تذكرهم بفضل الله عليهم ورحمته بهم حتى يداوموا على طاعته ، ويشكروه على نعمه .
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحوال المنافقين وضعفاء الإِيمان ، وعن تباطئهم عن الجهاد وإشاعتهم للأخبار بدو تثبت ، بعد كل ذلك أمر الله - تعالى - نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستمر فى قتاله للمشركين ، وأن يحرض أصحابه على ذلك ، كما أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى طائفة من مكارم الأخلاق التى تقوى رابطتهم فقال - تعالى - : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ . . . . مِنَ الله حَدِيثاً } .
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى . أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . .
والصورة التي يرسمها هذا النص ، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي ، لم تألف نفوسهم النظام ؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر ؛ وفي النتائج التي تترتب عليها ، وقد تكون قاصمة ؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ؛ ولم يدركوا جدية الموقف ؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان ، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته ، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال ؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال ! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر ؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك ، وإذاعتها ، حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . . فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة ! - فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة -لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر ! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية ! . . كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته ، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا ، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية !
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه ؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته . أو هما معا . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك ؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان ، ومختلفة المستويات في الإدراك ، ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح :
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول [ ص ] إن كان معهم ، أو إلى أمرائهم المؤمنين ، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة ؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة ، والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم ، الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحده - حين يبلغ إلى أذنيه خبر ، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه ؛ أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة ، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة ؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف ، فيحمله ويجري متنقلا ، مذيعا له ، من غير تثبت ، ومن غير تمحيص ، ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا ، ويذكرها بفضله ، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل ، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد ؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته :
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . .
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها ؛ وتتناول القضية من أطرافها ؛ وتتعمق السريرة والضمير ؛ وهي تضع التوجيه والتعليم ! ! ! ذلك أنه من عند الله . . ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . .