وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين ، وأن يجتنبوا الربا والمرابين ، وبين لهم أن أموالهم تزكو وتنمو بالإِنفاق في وجوه الخير ، وتمحق وتذهب بتعاطي الربا ، بعد أن وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة ، متى اتبعوا توجيهاتها استطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق ، وأشرف وسيلة ، وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين أو القرض الحسن المنزه عن الربا . استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول :
{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم . . . }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )
قال ابن كثير : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } هذا إرشاد منه - تعالى - لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم } . الآية . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " .
ومعنى { تَدَايَنتُم } : تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا . وحقيقة الدين - كما يقول القرطبي - " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا " .
والأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإِنسان هو الوقت المحدد لانقضاء عمره . وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه في المستقبل . وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين ، لأن في هذه الكتابة حفظاً له ، وضبطاً لمقداره ، ومنعاً للتنازع من أن يقع بينكم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : إذا تدانيتم إلى أجل مسمى ، وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت : ذكر - لفظ الدين - ليرجع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال . فإن قلت : ما فائدة قوله : { مُّسَمًّى } قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . ولو قال : إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " .
وجمهور العلماء على أن الأمر في قوله " فاكتبوه " للندب ، ولأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابه ديونهم ، ولا المدنيني بأن يكتبوها .
وقال الظاهرية : إن الأمر هنا للوجوب ، ومن لم يفعل ذلك كان آتماً ، لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب . .
وقوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإِجمال .
أي : عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين ، وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها ، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها ، وما يكون من الشروط موافقاً لشريعة الإِسلام وما يكون منها غير موافق ، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصاً تتوفر فيه إجادة الكتابة ، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها ، كما تتوفر فيه الاستقامة وتحري الحق . ومفعول ( يكتب ) محذوف ثقة بانفهامه أي وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل . والتقييد بالظرف بينكم للإِيذان بأنه ينبغي للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين ، لأن في هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها .
والجار والمجرور وهو ( بالعدل ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي : وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين . أو متعلق بالفعل يكتب . أي : وليكتب بالحق .
ثم نهى الله - تعالى - من كان قادراً على الكتابة عن الامتناع متى دعى إليها فقال :
{ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } .
أي : ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله إياها أن يتحرى بالعدل والحق في كتابته ، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإِسلامية .
فالكاف في قوله - تعالى - : { كَمَا عَلَّمَهُ الله } نعت لمصدر محذوف والتقدير : فليكتب كتابة مثل ما علمه الله - تعالى - بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها .
ويجوز أن تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى : لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها ، فعليه أن ينفع غيره بها ، فهو كقوله - تعالى - : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } وفي الحديث الشريف " إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق " وفي حديث آخر : " من كتم علماً يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .
وقوله : ( فليكتب ) تفريع على قوله " ولا يأب كاتب " أي : فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } . ويجوز أن يكون توكيداً للأمر الصريح في قوله : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } .
قال القرطبي : واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد . فقال الطبريك : واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب . وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع ، فإن كان كذلك فهو فريضة ، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره " .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين ، وبينت كيفية الكتابة ، وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ، ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى إليها . ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإِملاء فقال - تعالى - : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } .
والإِملالل معناه الإِملاء . فهما لغتان معناهما واحد . وقد جاء القرآن باللغتين قال - تعالى - : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين ، وذلك ليكون إملاؤه إقراراً به وبالحقوق التي عليه الوفاء بها . وعليه كذلك أن يراقب الله - تعالى - في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئاً ، لأن هذا الإِنقاص ظلم حرمه الله - تعالى - .
وقد أمر الله - تعالى - بأن يكون الذي يملي على الكاتب هو المدين لأنه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ، ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ، ولأنه لو أفلس الدائن فربما يزيد في الدين ، أو يملي شيئاً ليس محل اتفاق بينه وبين المدين ، ولأن المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله - تعالى - حق الإِملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد مكن المدين من الإِملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره ، ولكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين : تقوى الله وعدم الانقاص من الدين الذي عليه ، وإن ذلك لتشريع عادل حكيم لا ظلم فيه لا للدائن ولا للمدين .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإِملاء فقال - تعالى - : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } وهو المدين { سَفِيهاً } أي جاهلا بالإِملاء أو ناقص العقل ، أو متلافاً مبذراً لا يحسن تدبير أمره " .
{ أَوْ ضَعِيفاً } بأن يكون صبياً أو شيخاً تقدمتبه الشيخوخة .
{ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } بأن يكون عيياً أو أخرس أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات .
{ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } أي فعلى ولي أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإِملاء الحق والعدل فيما يكلف به .
وبعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون ، انتقل القرآن إلى الحديث عن الإِشهاد فقال - تعالى - : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي : اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجري بينكم من معاملات مؤجلة ، لأن هذا الإِشهاد يعطي الديون والكتابة توثيقاً وتثبيتاً ، والسين التاء في قوله : " واستشهدوا " للطلب .
قال الآلوسي : " وفي اختيار صيغة المبالغة في { شَهِيدَيْنِ } للإِيماء إلى من تكررت منه الشهادة ، فهو علام بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزاً إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك . والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف على ذلك .
وقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } متعلق بقوله : { واستشهدوا } ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض ، أي من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام في معاملتهم .
ثم بين - سبحانه - الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } .
وقوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجل وامرأتان . أي فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم .
وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد في اعتباره ، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيراً .
وقوله : { مِنَ الشهدآء } متلعق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدر في { تَرْضَوْنَ } العائد إلى الموصول : أي فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم ، وثقتكم بهم .
وقوله - تعالى - : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } أدق في الدالالة على صدق الشهادة من العدالة ، لأن الإِنسان العدل قد يكون مرضياً في دينه وخلقه ولكنه قد يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها ، أو قد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي ، فجاء - سبحانه - بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس . اختاروا الشهداء من الذين يرتضي قولهم ، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأي نوع من أنواع المؤثرات .
هذا ، وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص . وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة .
ثم بين - سبحانه - العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل في الشهادة فقال : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } .
وقال القرطبي : معنى تضل تنسي ، والضلال عن الشهادة فإنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضلالا " .
والمعنى : جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة ، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى : إذ المرأة لقوة عاطفتها ، وشدة انفعالها بالحوادث ، قد تتوهم ما لم تر ، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة بحيث يتذكران الحق فيما بينهما .
والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سبباص في التذكير ، نزل منزلة العلة .
وذلك كأن تقول : أعددت السلاح خشية أن يجيء العدو فأدفعه ، فإن العلة هي الدفاع عن النفس ، ولكن لما كان مجئ العدو سبباً فيه نزل منزلته .
وكما أمر الله - سبحانه - الكتاب في أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضاً بعدم الامتناع عن الشهادة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } أي : ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها ، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدي إلى ضياع الحقوق . والله - تعالى - قد شرع الشهادة لإِحقاق الحق ، ونشر العدل بين الناس ، فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله - تعالى- .
ثم أمر - سبحانه - بكتابه الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } .
السأم : الضجر والملل . يقال : سئمت الشيء أسأمه وسآمة أي مللته وضجرته .
والمعنى : وعليكم أيها المؤمنون أن لا تملوا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيراً أم صغيراً ، لأن الكتابة في الحالتين أدعى إلى حفظ الحقوق وصيانتها ، وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم ، ولأن الدين قد يكون صغيراً في نظر الغني المليء ، إلا أنه كبير في نظر الفقير المعسر ، ولأن التهاون في شأن الدين الصغير قد يؤدي إلى التهاون في شأن الدين الكبير ، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم من ديون .
والضمير في قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } يعود إلى الدين أو إلى الحق ، وقولهك { صَغِيراً أَو كَبِيراً } حالان من الضمير . أي لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيراً ، وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى .
ثم بين - سبحانه - ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله - تعالى - به ، فقال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله } .
واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى كل ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإِشهاد ومن عدم الامتناع عنهما ، ومن تحرى الحق والعدل .
و { أَقْسَطُ } بمعنى أعدل : يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط .
قال - تعالى - : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ويقال : هو قاسط إذا جار وظلم . قال - تعالى - : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي : ذلكم الذي شرعناه لكم في أمر الديون من لكتابة والإِشهاد وغيرهما أعدل في علم الله - تعالى - ، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم في ذاته ، لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له ، وتلك هي الفائدة الأولى .
أما الفائدة الثانية فهي قوله - سبحانه - : { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ومعنى { وَأَقْومُ } أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج .
أي : أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها .
وأما الفائدة الثالثة فهي قوله : { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } أي : أقرب إلى زوال الشك والريبة أي أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله - تعالى - وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله ، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس ، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم ، ويحل محلها النزاع والشقاق .
ثم أباح - سبحانه - في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } .
والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار : هي التي تجري فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا . وسميت حاضرة ، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر .
والمعنى : أن الله - تعالى - يأمركم بكتابة الديون وبالإِشهاد عليها إلا أنه - سبحانه - رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها ، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم ، وهو - سبحانه - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها ، لا يتوقع فيها التنازع أن أو النسيان .
والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب ، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل : إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجري فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها .
وقيل : الاستثناء متصل والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس ، لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير : آمركم بالكتابة والإِشهاد فثي كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة . { تِجَارَةً } قرأها الجمهور بالرفع على أنها اسم تكون ، والخبر جملة { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } . أو على أنها فاعل تكون إذا اعتبرناها تامة .
وقرأها عاصم بالنصب على أنها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة .
أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة .
وقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر منه - سبحانه - بالإِشهاد عند البيع ، وهذا الأمر للإِرشاد والتعليم عند جمهور العلماء . ويرى الظاهرية أنه للوجوب .
قال صاحب الكشاف : هذا أمر بالإِشهاد على التتابع مطلقا ناجزاً أو كالئا - أي مؤجلا - لأنه أحوط وأبعد مما عسى يعق من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع . يعني التجارة الحاضرة على أن الإِشهاد كاف فيه دون الكتابة ، وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل .
ثم نهى - سبحانه - عن المضارة فقال : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
والمضارة : إدخال الضرر . والفعل ( يضار ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، وأن أصله " لا يضارر - بكسر الراء - ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول . وأن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى .
والمعنى على الأولى : نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضرراص بأحد المتعاقدين ، بأن يبخس الكاتب أحدهما ، أو يشهد بغير الحق .
والمعنى على الثاني : وهو الظاهر - نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضرراً بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق ، فإنهما أمينان ، والإِضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة . ولذا قال - تعالى - بعد ذلك { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
أي : وإن تفعلوا ما نهيتم عنه أو تخالفوا ما أمرتم به ، فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله ، وتلبستم بمعصيته ، وصرت مأهلا لعقوبته ، فعليكم أن تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة في دينكم ودنياكم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته . وبتذكيرهم بنعمه فقال : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أي : واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فهو - سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له ، وهو - سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
وبعد : فهذه هي آية الدين التي هي أطول آية في القرآن ، تقرؤها فتراها قد اشتملت على أدق التشريعات ، وأحكم التوجيهات ، وأنجع الإِرشادات التي تهدي إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل .
تقرؤها فترى الدقة العجيبة في الصياغة بأن وضع كل لفظ في مكانه المناسب ، وترى الطلاوة في التعبير ، والعذوبة في الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصياغة على جمال العرض .
وترى الوفاء الكامل ، لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام من كل المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة التعاقد ، والإِرشاد الجامع إلى كل ما يضمن وصول الحق والعدل إلى جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن .
وترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس في النفوس الخوف من الله - تعالى - والمراقبة له ، والاستجابة لأوامره ، لا كطريقة البشر في قوانينهم التي صاغوها في قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير في النفس ، ولا باهتزاز في القلب .
ولو لم يكن في شريعة الله سوى هذا التأثير الذي تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى أنها من صنع الله - تعالى - ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها في سائر شئونهم لظفروا بالسعادتين : الدينية والدنيوية .
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَآءِ أَن تَضِلّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاُخْرَىَ وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوَاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىَ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشّهَادَةِ وَأَدْنَىَ أَلاّ تَرْتَابُوَاْ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوَاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله { إذَا تَدَايَنْتُمْ } يعني إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به ، أو تعاطيتم ، أو أخذتم به { إلى أَجَلٍ مُسَمّى } يقول : إلى وقت معلوم وقتموه بينكم . وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز . السلم شرى أجّل بيعه يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه ، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمّى إذا كانت آجالها معلومة بحدّ موقوف عليه . وكان ابن عباس يقول : نزلت هذه الآية في السلم خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى الرملي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال ابن عباس في : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلً مُسَمّى } قال : السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثني محمد بن عبد الله المخرمي ، قال : حدثنا يحيى بن الصامت ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن ابن عباس : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ } قال : نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن أبي حيان ، عن رجل ، عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ } في السلم في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حيان التيمي ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } في السلف في الحنطة في كيل معلوم إلى أجل معلوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي حيان ، عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله عزّ وجلّ قد أحله ، وأذن فيه . ويتلو هذه الآية : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } .
فإن قال قائل : وما وجه قوله : { بِدَيْنٍ } وقد دلّ بقوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ } عليه ؟ وهل تكون مداينة بغير دين ، فاحتيج إلى أن يقال بدين ؟ قيل : إن العرب لما كان مقولاً عندها تداينا بمعنى تجازينا وبمعنى تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين ، أبان الله بقوله «بدين » المعنى الذي قصد تعريفه من قوله «تداينتم » حكمه ، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة .
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله : { فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ } . ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاكتُبُوهُ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { فاكْتُبُوهُ } فاكتبوا الدّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى من بيع كان ذلك أو قرض .
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه ، هل هو واجب أو هو ندب ؟ فقال بعضهم : هو حقّ واجب ، وفرض لازم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مسَمّى فاكْتُبُوهُ } قال : من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مَسَمّى فاكْتُبُوهُ } قال : فمن ادّان دينا فليكتب ، ومن باع فليشهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ } فكان هذا واجبا .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله ، وزاد فيه : قال : ثم قامت الرخصة والسعة . قال : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلاً صحب كعبا فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ قالوا : وكيف يكون ذلك ؟ قال : رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يُشهد ، فلما حلّ ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه ، فلم يستجب له ، لأنه قد عصى ربه .
وقال آخرون : كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا ، فنسخه قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن شبرمة ، عن الشعبي ، قال : لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ، ولا تُشهد¹ لقوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } . قال ابن عيينة : قال ابن شبرمة عن الشعبي : إلى هذا انتهى .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ } حتى بلغ هذا المكان : { فإنْ أمِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : فكانوا يرون أن هذه الآية : { فإنْ أمِنَ بَعضُكُمْ بَعْضا } نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود رخصة ورحمة من الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال غير عطاء : نسخت الكتاب والشهادة : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : نسخ ذلك قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيؤدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } قال : فلولا هذا الحرف لم يبح لأحد أن يدّان بدين إلا بكتاب وشهداء ، أو برهن ، فلما جاءت هذه نسخت هذا كله ، صار إلى الأمانة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي ، قال : سألت الحسن قلت : كل من باع بيعا ينبغي له أن يُشهد ؟ قال : ألم تر أن الله عزّ وجلّ يقول : { فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤتُمِنَ أمانَتَهُ } .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الآية : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ } حتى بلغ هذا المكان : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } قال : رخص في ذلك ، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } قال : إن أشهدت فحزم ، وإن لم تشهد ففي حلّ وسعة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : قلت للشعبي : أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء ، أحتم عليه أن يشهد ؟ قال : فقرأ إلى قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } قد نسخ ما كان قبله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن مروان العقيلي ، قال : حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه قرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } قال : فقرأ إلى : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } قال : هذه نسخت ما قبلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : { ولْيَكْتُبْ } كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين { كاتِبٌ بالعَدْلِ } يعني بالحقّ والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما ، بما لا يحيف ذا الحقّ حقه ، ولا يبخسه ، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل ، ولا يلزمه ما ليس عليه . كما :
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ } قال : اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعنّ منه حقا ، ولا يزيدنّ فيه باطلاً .
وأما قوله : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ } فإنه يعني : ولا يأبينّ كاتب استكتب ذلك أن يكتب بينهم كتاب الدين ، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك ، وحرمه كثيرا من خلقه .
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ } قال : واجب على الكاتب أن يكتب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ } أواجب أن لا يأبى أن يكتب ؟ قال : نعم . قال ابن جريج وقال مجاهد : واجب على الكاتب أن يكتب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ } بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وعطاء قوله : { وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ } قالا : إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت فلا تأب أن تكتب لهم .
ذكر من قال هي منسوخة . قد ذكرنا جماعة ممن قال : كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها ، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَلاَ يَأْبَ كاتِبٌ } قال : كانت عزيمة فنسختها : { وَلا يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ } فكان هذا واجبا على الكتّاب .
وقال آخرون : هو على الوجوب ، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ } يقول : لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عزّ وجلّ أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم ، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل ، وأمر الله فرض لازم ، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب . ولا دلالة تدلّ على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك ، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد ، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه ، ومن ضيعه منهم كانَ حَرِجا بتضييعه .
ولا وجه لاعتلال من اعتلّ بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به ، حيث لا سبيل إلى الكتاب ، أو إلى الكاتب فأما والكتاب والكاتب موجودان ، فالفرض إذا كان الدّين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله : { فاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ } . وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة على السبيل التي قد بيناها ، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الاَخر ، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء .
ولو وجب أن يكون قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } ناسخا قوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّمَهُ اللّهُ } ، لوجب أن يكون قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءًا فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا } ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه ، وفي السفر الذي فرضه الله عزّ وجلّ بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ } وأن يكون قوله في كفارة الظهار : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } ناسخا قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا } . فيسأل القائل إن قول الله عزّ وجلّ : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } ناسخ قوله : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْظنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ } ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم وما ذكرنا قوله ، فزعم أن كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه في حال الضرورة حكمه في كل أحواله ، نظير قوله في أن الأمر باكتتاب كتْب الديون والحقوق منسوخ بقوله : { وَإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُؤَدّ الّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ } ؟
فإن قال : الفرق بيني وبينه أن قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } كلام منقطع عن قوله : { وَإنْ كُنْتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } وقد انتهى الحكم في السفر إذا عدم فيه الكاتب بقوله : { فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ } . وإنما عنى بقوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا } إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ، فأمن بعضكم بعضا ، فليؤد الذي اؤتمن أمانته . قيل له : وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس وقد انقضى الحكم في الدين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيل بقوله : { وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؟ وأما الذين زعموا أن قوله : { فَاكْتُبُوهُ } وقوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } على وجه الندب والإرشاد ، فإنهم يسألون البرهان على دعواهم في ذلك ، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجلّ الذي أمر في كتابه ، ويسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره ، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا بالاَخر مثله .
ذكر من قال العدل في قوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ } الحقّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا } .
يعني بذلك : فليكتب الكاتب ، وليملل الذي عليه الحقّ ، وهو الغريم المدين . يقول : ليتولّ المدين إملال كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب ، وليتّق الله ربه المملي الذي عليه الحقّ ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحقّ من حقه شيئا ، أن ينقصه منه ظلما ، أو يذهب به منه تعديّا ، فيؤخذ به حيث لا يقدر على قضائه إلا من حسناته ، أو أن يتحمل من سيئاته . كما :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ } فكان هذا واجبا ، { وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا } يقول : لا يظلم منه شيئا .
حدثني ونس ، قل : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيئا } قال : لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئا إذا أملى .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإن كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } . يعني بقوله جل ثناؤه : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا } فإن كان المدين الذي عليه المال سفيها ، يعني جاهلاً بالصواب في الذي عليه أن يمله على الكاتب . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها } أما السفيه : فالجاهل بالإملاء والأمور .
وقال آخرون : بل السفيه في هذا الموضع الذي عناه الله : الطفل الصغير . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها } أما السفيه : فهو الصغير .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعْيفا } قال : هو الصبيّ الصغير ، { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } .
وأولى التأويلين بالآية ، تأويل من قال : السفيه في هذا الموضع : الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه ، لما قد بينا قبل من أن معنى السفه في كلام العرب : الجهل .
وقد يدخل في قوله : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها } كل جاهل بصواب ما يملّ من خطئه من صغير وكبير ، وذكر وأنثى . غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بموضع خطأ ما يمل وصوابه من بالغي الرجال الذين لا يولى عليهم ، والنساء¹ لأنه أجل ذكره ابتدأ الآية بقوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَيّنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمّى } والصبيّ ومن يولى عليه لا يجوز مداينته ، وأن الله عزّ وجلّ قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله ، ففي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين بين الله صفاتهم غير الصنفين الاَخرين . وإذا كان ذلك كذلك ، كان معلوما أن الموصوف بالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوّة على الإملال ، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه ، وأن الموصوف بالضعف منهم هو العاجر عن إملاله وإن كان شديدا رشيدا إما لعيّ لسانه أو خرس به ، وأن الموصوف بأنه لا يستطيع أن يمل هو الممنوع من إملاله ، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيمل عليه ، وإما لغيبته عن موضع الإملال فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب . فوضع الله عنهم فرض إملال ذلك للعلل التي وصفنا إذا كانت بهم ، وعذرهم بترك الإملال من أجلها ، وأمر عند سقوط فرض ذلك عليهم ولي الحقّ بإملاله فقال : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } يعني وليّ الحقّ .
ولا وجه لقول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الصغير ، وأن الضعيف هو الكبير الأحمق¹ لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله : { أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ } هو العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال ، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل ، وإما لغيبته عن موضع الكتاب . وإذا كان ذلك كذلك معناه ، بطل معنى قوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } لأن العاقل الرشيد لا يولّى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا ، ولا يجوز حكم أحد في ماله إلا بأمره . وفي صحة معنى ذلك ما يقضي على فساد قول من زعم أن السفيه في هذا الموضع هو الطفل الصغير أو الكبير الأحمق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } يقول : وليّ الحق .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أو لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } قال : يقول : إن كان عجز عن ذلك أملّ صاحب الدين بالعدل .
ذكر الرواية عمن قال : عنى بالضعيف في هذا الموضع : الأحمق . وبقوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } وليّ السفيه والضعيف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلّ هُوَ } قال : أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الضعيف ، فهو الأحمق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أما الضعيف فالأحمق .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { فإنْ كانَ الّذِي عَلَيْهِ الحَقّ سَفِيها أوْ ضَعِيفا } لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك ، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه .
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك . وأما قوله : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بالعَدْلِ } فإنه يعني بالحقّ .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : ( واستشهدوا على حقوقكم شاهدين ، يقال : فلان شهيدي على هذا المال وشاهدي عليه . وأما قوله : { مِنْ رِجالِكُمْ } فإنه يعني من أحراركم المسلمين دون عبيدكم ، ودون أحراركم الكفار . ) كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاسْتَشْهَدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ } قال : الأحرار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا علي بن سعيد ، عن هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : فإن لم يكونا رجلين ، فليكن رجل وامرأتان على الشهادة . ورفع الرجل والمرأتان بالرد على الكون ، وإن شئت قلت : فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك ، وإن شئت فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه¹ وإن قلت : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كان صوابا كل ذلك جائز ، ولو كان فرجل وامرأتان نصبا كان جائزا على تأويل : فإن لم يكونا رجلين ، فاستشهدوا رجلاً وامرأتين . وقوله : { مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ } يعني من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم . ) كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ } يقول في الدين ، { فَإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ } وذلك في الدين ممن ترضون من الشهداء . يقول : عدول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } أمر الله عز وجل أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم ، { فإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى } بفتح الألف من «أن » ونصب «تضل » و«تذكّر » ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان تضل ، لأن المعنى ما وصفنا في قولهم . وقالوا : إنما نصبنا «تذكر » ، لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه مردودا عليه ، كما تقول في الكلام : إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطَى ، بمعنى أنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل أو إذا سأل ، فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة . ولكن قوله «أن يسأل » لما تقدم اتصل بما قبله ، وهو قوله : «ليعجبني » فتح «أن » ونصب بها ، ثم أتبع ذلك قوله : «يُعْطَى » ، فنصبه بنصب قوله : «ليعجبني أن يسأل » ، نسقا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء .
وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين الذال من «تُذْكِرَ » وتخفيف كافها . وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك . وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه : فتصير إحداهما الأخرى ذكرا باجتماعهما ، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها جازت ، كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ منزلة شهادة واحد من الذكور . فكأن كل واحدة منهما في قول متأولي ذلك بهذا المعنى صيرت صاحبتها معها ذكرا وذهب إلى قول العرب : لقد أذكرت بفلان أمّه ، أي ولدته ذكرا ، فهي تُذْكِرُ به ، وهي امرأة مذكرة إذا كانت تلد الذكور من الأولاد . وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله .
حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حُدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس تأويل قوله : { فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى } من الذّكْرِ بعد النسيان إنما هو من الذّكَر ، بمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر .
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى الذكر بعد النسيان .
وقرأ ذلك آخرون : «إنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتذَكّرُ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى » بكسر «إن » من قوله : «إنْ تَضِلّ » ورفع «تُذَكّرُ » وتشديده . كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان ، إن نسيت إحداهما شهادتهما تذكرها الأخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك ، وانقطاع ذلك عما قبله .
ومعنى الكلام عند قارىء ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية . وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه . وإنما نصب الأعمش «تضلّ » لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو «إنْ » . وتأويل الكلام على قراءته : إن تَضْلِلْ ، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى حركها إلى أخفّ الحركات ورفع تذكر بالفاء ، لأنه جواب الجزاء .
والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح «أن » من قوله : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا } وبتشديد الكاف من قوله : { فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى } ونصب الراء منه ، بمعنى : فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى . وأما نصب «فتذكر » فبالعطف على «تضلّ » ، وفتحت «أن » بحلولها محل «كي » ، وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده اكتفاءً بفتحها ، أعني بفتح «أن » من «كي » ونسق الثاني ، أعني «فتذكر » على «تضلّ » ، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله ، أي عن «كي » . وإنما اخترنا ذلك في القراءة لإجماع الحجة من قدماء القراء والمتأخرين على ذلك ، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم ، ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم إلى غيرها . وأما اختيارنا «فتذكّر » بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بإنهاء ذلك لتذكر ، فالتشديد به أولى من التخفيف .
وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويل خطأ لا معنى له لوجوه شتى : أحدها : أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل . والثاني : أنه معلوم بأن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها إنما هو خطوها عنها بنسيانها إياها كضلال الرجل في دينه إذا تحير فيه ، فعدل عن الحقّ ، وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرا معها مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ فالضالة منهما في شهادتها حينئذ لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، فقوّتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوّتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، كما يقال للشيء القويّ في عمله : ذكر ، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه : سيف ذكر ، ورجل ذكر ، يراد به ماض في عمله ، قويّ البطش ، صحيح العزم . فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك ؟ إلا أنه إذا تأوّل ذلك كذلك ، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأوّلناه فيه ، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى القراءة التي اخترناها بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : فتذكر ، ولا نعلم أحدا تأوّل ذلك كذلك ، ويستحبّ قراءته كذلك بذلك المعنى . فالصواب في قوله إذ كان الأمر عاما على ما وصفنا ما اخترنا . )
ذكر من تأوّل قوله : { أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُما الأُخْرَى } نحو تأويلنا الذي قلنا فيه :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشّهَدَاءِ أنْ تَضِلّ إحداهما فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } علم الله أن ستكون حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربكم ، وأدرك لأموالكم . ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا ، وإن كان فاجرا فبالحَري أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } يقول : أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا } يقول : تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُما } يقول : إن تنس إحداهما ، تذكرها الأخرى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى } قال : كلاهما لغة وهما سواء ، ونحن نقرأ : { فَتُذَكّرَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا } .
اختلف أهل التأويل في الحال التي نهى الله الشهداء عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : معناه : لا يأب الشهداء أن يجيبوا إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم ، فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم . قال : وكان قتادة يتأوّل هذه الآية : { ولا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذا ما دعُوا } ليشهدوا لرجل على رجل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا ، فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة .
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء ، إلا أنهم قالوا : يجب فرض ذلك على من دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره ، فأما إذا وجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخير إن شاء أجاب وإن شاء لم يجب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، قال : { لاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : إن شاء شهد ، وإن شاء لم يشهد ، فإذا لم يوجد غيره شهد .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للشهادة على من أراد الداعي إشهاده عليه ، والقيام بما عنده من الشهادة من الإجابة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن الحسن : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : قال الحسن : الإقامة والشهادة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : كان الحسن يقول : جمعت أمرين لا تأب إذا كانت عندك : شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } يعني من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده ، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دعي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : لإقامتها ، ولا يبذأ بها إذا دعاه ليشهده ، وإذا دعاه ليقيمها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي من إجابته إلى القيام بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا شهد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } يقول : إذا كانوا قد أشهدوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كانت عندك شهادة فدعيت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دَعُوا } قال : إذا كانت شهادة فأقمها ، فإذا دعيت لتشهد ، فإن شئت فاذهب ، وإن شئت فلا تذهب .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح ، عن عمران بن حدير ، قال : قلت لأبي مجلز : ناس يدعونني لأشهد بينهم ، وأنا أكره أن أشهد بينهم ؟ قال : دع ما تكره ، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، قال : الشاهد بالخيار ما لم يشهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : لإقامة الشهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي عامر ، عن عطاء قال : في إقامة الشهادة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا أبو عامر المزني ، قال : سمعت عطاء يقول : ذلك في إقامة الشهادة ، يعني قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو حرّة ، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال : أدعى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها ؟ قال : فلا تجب إن شئت .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، قال : سألت إبراهيم قلت : أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى ؟ قال : فلا تشهد إن شئت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عامر ، عن عطاء ، قال : للإقامة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كانوا قد شهدوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : هو الذي عنده الشهادة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } يقول : لا يأب الشاهد أن يتقدم فيشهد إذا كان فارغا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : { وَلاَ يأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } ؟ قال : هم الذين قد شهدوا . قال : ولا يضرّ إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء . قلت لعطاء : ما شأنه ؟ إذا دعي أن يكتب وجب عليه أن لا يأبى ، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء ؟ قال : كذلك يجب على الكاتب أن يكتب ، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء¹ الشهداء كثير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتي يؤدي شهادة ويقيمها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ } قال : كان الحسن يتأوّلها إذا كانت عنده شهادة دعي ليقيمها .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : إذا كتب الرجل شهادته ، أو أشهد لرجل فشهد ، والكاتب الذي يكتب الكتاب¹ دُعوا إلى مقطع الحقّ ، فعليهم أن يجيبوا ، وأن يشهدوا بما أشهدوا عليه .
وقال آخرون : هو أمر من الله عزّ وجلّ والمرأة بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق ابتداء لا إقامة الشهادة ، ولكنه أمر ندب لا فرض . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قال : أمرت أن تشهد ، فإن شئت فاشهد ، وإن شئت فلا تشهد .
حدثني أبو العالية ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، عن محمد بن ثابت العصري ، عن عطاء ، بمثله .
( وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي عليه ما عليه للذي هو له .
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره ، لأن الله عزّ وجلّ قال : { وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم الشهداء ، وغير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء إلا وقد استشهدوا قبل ذلك ، فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء ، فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء ، لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحقّ أن يقال له شاهد ، بمعنى أنه سيشهد ، أو أنه يصلح لأن يشهد وإن كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره ، أو من قد قام بشهادته ، فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلوما أن المعنيّ بقوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } من وصفنا صفته ممن قد استرعى شهادة أو شهد ، فدعي إلى القيام بها ، لأن الذي لم يستشهد ولم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستحقّ اسم شهيد ولا شاهد ، لما قد وصفنا قبل . مع أن في دخول الألف واللام في «الشهداء » دلالة واضحة على أن المسمى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة أشخاص معلومون قد عرفوا بالشهادة ، وأنهم الذين أمر الله عزّ وجل أهل الحقوق باستشهادهم بقوله : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأْتَانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءُ } . وإذا كان ذلك كذلك ، كان معلوما أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا ولو كان ذلك أمرا لمن أعرض من الناس فدعي إلى الشهادة يشهد عليها لقيل : ولا يأب شاهد إذا ما دعي . غير أن الأمر وءن كان كذلك ، فإن الذي نقول به في الذي يدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلح للشهادة ، فإن الفرض عليه إجابة داعيه إليها كما فرض على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه ، ففرض عليه أن يكتب ، كما فرض على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام ، فحضره جاهل بالإيمان وبفرائض الله فسأله تعليمه ، وبيان ذلك له أن يعلمه ويبينه له . ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء ليشهد على ما أشهد عليه بهذه الآية ، ولكن بأدلة سواها ، وهي ما ذكرنا . وقد فرضنا على الرجل إحياء ما قدر على إحيائه من حقّ أخيه المسلم . والشهداء : جمع شهيد . )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تسأموا أيها الذين تداينون الناس إلى أجل أن تكتبوا صغير الحقّ ، يعني قليله أو كبيره يعني أو كثيره { إلى أَجَلِهِ } ، إلى أجل الحقّ ، فإن الكتاب أحصى للأجل والمال . )
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك عن ليث ، عن مجاهد : { وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكُتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ } قال : هو الدين .
ومعنى قوله : { وَلا تَسأمُوا } لا تملوا ، يقال منه : سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمةً ، ومنه قول لبيد :
ولقد سَئِمْتُ من الحياة وطُولِهَا وسؤالِ هذا الناس : كيف لَبيدُ
سَئِمْتُ تَكاليفَ الحياةِ ومن يَعِشْ *** ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأمِ
وقال بعض نحويي البصريين : تأويل قوله : { إلى أجَلِهِ } إلى أجل الشاهد ، ومعناه : إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه . وقد بينا القول فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ } .
( يعني جلّ ثناؤه بقوله : ذلكم اكتتاب كتاب الدّين إلى أجله ، ويعني بقوله أقسط : أعدل عند الله ، يقال منه : أقسط الحاكم فهو يقسط إقساطا وهو مقسط ، إذا عدل في حكمه ، وأصاب الحقّ فيه ، فإذا جار قيل : قسط فهو يَقْسِط قُسُوطا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { وأمّا القاسِطُونَ فكانُوا لجَهَنّمَ حَطَبا } يعني الجائرون . )
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ } يقول : أعدل عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأقْوَمُ للشّهادَةِ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وأصوب للشهادة . وأصله من قول القائل : أقمته من عَوَجه ، إذا سويته فاستوى . وإنما كان الكتاب أعدل عند الله وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه ، لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدين والمستدين على نفسه ، فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب ، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك ، كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام ، مع غير ذلك من الأسباب ، وهو أعدل عند الله ، لأنه قد أمر به ، واتباع أمر الله لا شك أنه عند الله أقسط وأعدل من تركه والانحراف عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأدْنَى أنْ لا تَرْتَابُوا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وأدْنَى } وأقرب ، من الدنوّ : وهو القرب . ويعني بقوله : { أنْ لا تَرْتَابُوا } من أن لا تشكوا في الشهادة . ) كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَرتَابُوا } يقول : أن لا تشكوا في الشهادة .
وهو تفتعل من الرّيبة . ومعنى الكلام : ( ولا تملوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل صغيرا كان ذلك الحقّ ، قليلاً أو كثيرا ، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله وأصوب لشهادة شهودكم عليه ، وأقرب لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحقّ والأجل إذا كان مكتوبا . )
( القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ لا تَكْتُبُوها } .
ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوب التي لهم عليهم ، ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد ، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك¹ لأن كل واحد منهم ، أعني من الباعة والمشترين ، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قِبَل مبايعيه قبل المفارقة ، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الاَخر كتابا بما وجب لهم قِبَلهم وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم ، فلذلك قال تعالى ذكره : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرونَها بَيْنَكُمْ } لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء ، { فَليسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبوهَا } يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها ، يعني التجارة الحاضرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تَدِيرُونَها بَيْنَكُمْ } يقول : معكم بالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَلا تَسَأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِيرا إلى أجَلِهِ } إلى قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوهَا } قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه صغيرا كان أو كبيرا ورخص لهم أن لا يكتبوه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق وعامة القرّاء : «إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حاضِرَةٌ » بالرفع ، وانفرد بعض قرّاء الكوفيين فقرأه بالنصب . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع «كان » ، وتضمر معها في «كان » مجهولاً ، فتقول : إن كان طعاما طيبا فأتنا به ، وترفعها فتقول : إن كان طعام طيب فأتنا به ، فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها . فإن الذي أختار من القراءة ، ثم لا أستجيز القراءة بغيره ، الرفع في «التجارة الحاضرة » ، لإجماع القرّاء على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم ، ولا يعترض بالشاذ على الحجة . ومما جاء نصبا قول الشاعر :
أعَيْنَيّ هَلْ تَبْكِيانِ عِفاقَا إذَا كَانَ طَعْنا بينَهُمْ وَعِناقَا
ولِلّهِ قَوْمِي أيّ قَوْمٍ لِحُرّةٍ إذَا كَانَ يوما ذا كَواكبَ أشْنَعا
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها ، وكان من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما تذكروا إتباع النكرة خبرها ، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة «كان » لمنصوب ومرفوع ، ووجدوا النكرة يتبعها خبرها ، وأضمروا في كان مجهولاً لاحتمالها الضمير . وقد ظنّ بعض الناس أن من قرأ ذلك : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حاضِرَةً } إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارىء ذلك أن يقرأ «يكون » بالياء ، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه . وذلك أن العرب إذا جعلوا مع كان نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها ، أنثوا «كان » مرّة وذكّروها أخرى ، فقالوا : إن كانت جارية صغيرة فاشتروها ، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها ، تذكر «كان » وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت أحيانا وتؤنث أحيانا .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : «إلاّ أن تَكُونَ تِجَارَةٌ حاضِرَةٌ » مرفوعة فيه التجارة الحاضرة لأن يكون بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن توجد أو تقع أو تحدث ، فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك إذا لم يكن يجد لكان منصوبا ، ووجد التجارة الحاضرة مرفوعة ، وأغفل جواز قوله : { تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ } أن يكون خبرا لكان ، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم . والذي قال من حكينا قوله من البصريين غير خطأ في العربية ، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه ، وفي المعنى أصحّ ، وهو أن يكون في قوله : { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب على أنه حلّ محل خبر «كان » ، والتجارة الحاضرة اسمها . والاَخر : أنه في موضع رفع على إتباع التجارة الحاضرة ، لأن خبر النكرة يتبعها ، فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأشْهِدُوا إذَا تَبايَعْتُمْ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : ( وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم ، عاجل ذلك وآجله ، ونقده ونَسائه ، فإن إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدا بيدٍ ونقدا ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على من بعتموه شيئا أو ابتعتم منه ، لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوف المضرّة على كل من الفريقين . أما على المشتري فأن يجحد البائع المبيع ، وله بينة على ملكه ما قد باع ، ولا بينة للمشتري منه على الشراء منه فيكون القول حينئذٍ قول البائع مع يمينه ويقضي له به ، فيذهب مال المشتري باطلاً . وأما على البائع فأن يجحد المشتري الشراء ، وقد زال ملك البائع عما باع ، ووجب له قبل المبتاع ثمن ما باع ، فيحلف على ذلك فيبطل حقّ البائع قِبَل المشتري من ثمن ما باعه . فأمر الله عزّ وجلّ الفريقين بالإشهاد ، لئلا يضيع حقّ أحد الفريقين قِبَل الفريق الاَخر . )
ثم اختلفوا في معنى قوله : { وأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } أهو أمر من الله واجب بالإشهاد عند المبايعة ، أم هو ندب ؟ فقال بعضهم : هو ندب إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن وشقيق ، عن رجل ، عن الشعبي في قوله : { وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } قال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألم تسمع إلى قوله : { فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْيُوءَدّ الّذِي اوءْتُمِنَ أمانَتَهُ } ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا الربيع بن صبيح ، قال : قلت للحسن : أرأيت قول الله عز وجل : { وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ؟ قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد عليه فلا بأس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الربيع بن صبيح ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد قول الله عز وجل : { وأشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أبيع الرجلَ وأنا أعلم أنه لا ينقد في شهرين ولا ثلاثة ، أترى بأسا ألاّ أشهد عليه ؟ قال : إن أشهدت فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد فلا بأس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن داود ، عن الشعبي : { وأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } قال : إن شاءوا أشهدوا ، وإن شاءوا لم يشهدوا .
وقال آخرون : الإشهاد على ذلك واجب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إِلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةٍ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُم جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوهَا } ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم أمَرَ الله ما كان يدا بيد ، أن يشهدوا عليه صغيرا كان أو كبيرا .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : ما كان من بيع حاضر ، فإن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد . وما كان من بيع إلى أجل ، فأمر الله أن يكتب ويشهد عليه ، وذلك في المقام .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن الإشهاد على كل مبيع ومشترى حق واجب وفرض لازم ، لما قد بينا من أن كل أمر لله ففرض ، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد .
وقد دللنا على وَهْي قول من قال ذلك منسوخ بقوله : { فَلْيُوءَدّ الّذِي أوءْتُمِنَ أمانَتَهُ } فيما مضى فأغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : ذلك نهي من الله لكاتب الكتاب بين أهل الحقوق والشهيد أن يضار أهله ، فيكتب هذا ما لم يملله المملي ، ويشهد هذا بما لم يستشهده الشهيد . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } ولا يضار كاتب فيكتب ما لم يمل عليه ، ولا شهيد فيشهد بما لم يُستشهد .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، قال : كان الحسن يقول : لا يضار كاتب فيريد شيئا أو يحرّف ، ولا شهيد ، قال : لا يكتم الشهادة . ولا يشهد إلا بحق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن قتادة ، قال : اتَقى الله شاهد في شهادته لا ينقص منها حقا ولا يزيد فيها باطلاً . اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعنّ منه حقا ولا يزيدنّ فيه باطلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : لا يضار كاتب فيكتب ما لم يملل ، ولا شهيد فيشهد بما لم يستشهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } . قال : لا يضار كاتب فيكتب غير الذي أملي عليه ، قال : والكتاب يومئذٍ قليل ، ولا يدرون أي شيء يكتب ، فيضار ، فيكتب غير الذي أملي عليه ، فيبطل حقهم . قال : والشهيد : يضار فيحول شهادته ، فيبطل حقهم .
فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء : ولا يضارِر كاتب ولا شهيد ، ثم أدغمت الراء في الراء لأنهما من جنس وحركت إلى الفتح وموضعها جزم ، لأن الفتح أخفّ الحركات .
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل : معنى ذلك : ولا يضارّ كاتب ولا شهيد بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : أن يؤدّيا ما قِبَلهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : { وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : «لا يضارّ » أن يؤدّيا ما عندهما من العلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : { لاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : أن يدعوهما فيقولان : إنّ لنا حاجة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قالا : واجب على الكاتب أن يكتب ، { ولا شَهِيدٌ } ، قالا : إذا كان قد شهدا قِبَله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا يضارّ المستكتب والمستشهد الكاتب والشهيد . وتأويل الكلمة على مذهبهم : ولا يضارَر على وجه ما لم يسمّ فاعله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كان عمر يقرأ : «ولا يضارَرْ كاتب ولا شهيد » .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، قال : كان ابن مسعود يقرأ : «ولا يُضارَرْ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد ، أنه كان يقرأ : «ولا يضارر كاتب ولا شهيد » ، وأنه كان يقول في تأويلها : ينطلق الذي له الحقّ فيدعو كاتبه وشاهده إلى أن يشهد ، ولعله أن يكون في شغل أو حاجة ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذٍ لشغله وحاجته . وقال مجاهد : لا يقم عن شغله وحاجته ، فيجد في نفسه أو يحرج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } والضرار : أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنيّ : إن الله قد أمرك أن لا تأتي إذا دعيت ، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره . فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك ، وقال : { وإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بدّ ، فيقول : خلوا سبيله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قال : يكون به العلة ، أو يكون مشغولاً . يقول : فلا يضارّه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } يقول : لا يأت الرجل فيقول : انطلق فاكتب لي واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمس غيري ، فيقول : اتق الله فإنك قد أمرت أن تكتب لي . فهذه المضارة¹ ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهد بتلك المنزلة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد ، فيقول الكاتب أو الشاهد : إن لنا حاجة ! فيقول الذي يدعوهما : إن الله عزّ وجلّ أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ! يقول الله عزّ وجلّ لا يضارّهما .
حدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما على حاجة مهمة ، فيقولان : إنا على حاجة مهمة ، فاطلب غيرنا ! فيقول : الله أمركما أن تجيبا ، فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارّهما ، يعني لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما .
حدثني موسى قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلاَ يُضارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : ليس ينبغي أن تعترض رجلاً له حاجة فتضارّه فتقول له : اكتب لي ! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته . ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول ، فتقول : اذهب فاشهد لي تحبسه عن حاجته ، وأنت تجد غيره .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ } كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول : اكتب لي ! فيقول : إني مشغول أو لي حاجة ، فانطلق إلى غيري ! فيلزمه ويقول : إنك قد أمرت أن تكتب لي . فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره . ويأتي الرجل فيقول : انطلق معي ! فيقول : اذهب إلى غيري فإني مشغول أو لي حاجة ، فيلزمه ويقول : قد أمرت أن تتبعني . فيضارّه بذلك ، وهو يجد غيره ، فأنزل الله عزّ وجلّ { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقول : إن لي حاجة فدعني ! فيقول : اكتب لي . «ولا شَهِيدٌ » كذلك .
( وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا يضارّ كاتب ولا شهيد ، بمعنى : ولا يضارّهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه ، ويأبى على هذا إلا أن يجيب إلى الشهادة وهو غير فارغ ، على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل .
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره ، لأن الخطاب من الله عزّ وجلّ في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه افعلوا أو لا تفعلوا ، إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون . فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم ، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب كقوله : { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ } وكقوله : { وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وما أشبه ذلك ، فالواجب إذا كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد ، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل : وإن يفعلا فإنه فسوق بهما ، لأنهما اثنان ، وإنما غير مخاطبيين بقوله : { وَلاَ يُضَارّ } بل النهي بقوله : { وَلاَ يُضَارّ } نهي للغائب غير المخاطب . فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما فِي سياق الآية ، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلاً عنه . )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
( يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهد وما نهيتم عنه من ذلك ، فإنه فسوق بكم ، يعني إثم بكم ومعصية . )
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يقول : إن تفعلوا غير الذي آمركم به ، فإنه فسوق بكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وِإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق : المعصية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق : العصيان .
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يضار كاتب فيكتب غير الذي أملى المملي ، ويضارّ شهيد فيحوّل شهادته ويغيرها ، فإنه فسوق بكم ، يعني فإنه كذب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } الفسوق : الكذب . قال : هذا فسوق لأنه كذب الكاتب فحوّل كتابه فكذب ، وكذب الشاهد فحوّل شهادته ، فأخبرهم الله أنه كذب .
وقد دللنا فيما مضى على أن المعنيّ بقوله : { وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } إنما معناه : لا يضارّهما المستكتب والمستشهد ، بما فيه الكفاية . فقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا } إنما هو إخبار من يضارّهما بحكمه فيهما ، وأن من يضارّهما فقد عصى ربه وأثم به ، وركب ما لا يحلّ له ، وخرج عن طاعة ربه في ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَاتّقُوا اللّهَ } وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود أن تضاروهم ، وفي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه . ويعني بقوله : { وَيُعَلّمُكُمْ اللّهُ } ويبين لكم الواجب لكم وعليكم ، فاعملوا به . { وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعني من أعمالكم وغيرها ، يحصيها عليكم ليجازيكم بها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ } قال : هذا تعليم علمكموه فخذوا به .
لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف ، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر ، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد ، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد ، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان . وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين ، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل .
والجملة استئناف ابتدائي ، والمناسبة في الانتقال ظاهرة عقب الكلام على غرمَاء أهل الربا .
والتداين من أعظم أسباب رواج المعاملات لأنّ المقتدر على تنمية المال قد يعوزه المال فيضطرّ إلى التداين ليظهر مواهبه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ، ولأنّ المترفّه قد ينضب المال من بين يديه وله قِبل به بعد حين ، فإذا لم يتداين اختلّ نظام ماله ، فشرّع الله تعالى للناس بَقاء التداين المتعارف بينهم كيلا يظنّوا أنّ تحريم الربا والرجوع بالمتعاملين إلى رؤوس أموالهم إبطال للتداين كلّه . وأفاد ذلك التشريعَ بوضعه في تشريع آخر مكمّل له وهو التوثّق له بالكتابة والإشهاد .
والخطاب موجّه للمؤمنين أي لمجموعهم ، والمقصود منه خصوص المتداينين ، والأخصّ بالخطاب هو المدين لأنّ من حق عليه أن يجعل دائنه مطمئن البال على ماله . فعلى المستقرِض أن يطلب الكتابة وإن لم يسألها الدائن ، ويؤخذ هذا مما حكاه الله في سورة القَصص عن موسى وشعيب ، إذ استأجرَ شعيبٌ موسى . فلما تراوضا على الإجارة وتعيين أجلها قال موسى : « واللَّهُ على ما نَقول وكيل » ، فذلك إشهاد على نفسه لمؤاجره دون أن يسألَه شعيب ذلك .
والتداين تفاعل ، وأطلق هنا مع أنّ الفعل صادر من جهة واحدة وهي جهة المُسَلِّف لأنّك تقول ادّان منه فَدانَه ، فالمفاعلة منظور فيها إلى المخاطبين هم مجموع الأمة ؛ لأنّ في المجموع دائناً ومديناً ، فصار المجموع مشتملاً على جانبين . ولك أن تجعل المفاعلة على غير بابها كما تقول تَداينت من زيد .
وزيادة قيد { بدين } إما لِمجرد الإطناب ، كما يقولون رأيتُه بعيني ولمَسته بيدي ، وإما ليكون معاداً للضمير في قوله فاكتبوه ، ولولا ذكره لقال فاكتبوا الدّين فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنّه أبين لتنويع الدين إلى مؤجّل وحالّ ، قاله في « الكشاف » .
وقال الطيبي عن صاحب الفرائد : يمكن أن يظنّ استعمال التداين مجازاً في الوعد كقول رؤبة :
داينتُ أرْوَى والديونُ تُقضَى *** فمطَلَتْ بعضاً وأدّت بعضاً
فذكر قوله « بدين » دفعاً لتوهم المجاز . والدين في كلام العرب العوض المؤخّر قال شاعرهم :
وعدَتْنَا بدرهمَيْنَا طِلاء *** وشِواءً معجّلا غيرَ دَيْن
وقوله : { إلى أجل مسمى } طلب تعيين الآجال للديون لئلاّ يقعوا في الخصومات والتداعي في المرادات ، فأدمج تشريع التأجيل في أثناء تشريع التسجيل .
والأجل مدة من الزمان محدودة النهاية مجعولة ظرفاً لعمل غير مطلوب فيه المبادرة ، لرغبة تمام ذلك العمل عند انتهاء تلك المدة أو في أثنائها .
والأجل اسم وليس بمصدر ، والمصدر التأجيل ، وهو إعطاء الأجل . ولما فيه من معنى التوسعة في العمل أطلق الأجل على التأخير ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } [ البقرة : 234 ] وقوله : { حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] .
والمُسمّى حقيقته المميّز باسم يميّزه عمّا يشابهه في جنسه أو نوعه ، فمنه أسماء الأعلام وأسماء الأجناس ، والمسمّى هنا مستعار للمعيّن المحدود ، وإنّما يقصد تحديده بنهاية من الأزمان المعلومة عند الناس ، فشبه ذلك بالتحديد بوضع الاسم بجامع التعيين ؛ إذ لا يمكن تمييزه عن أمثاله إلاّ بذلك ، فأطق عليه لفظ التسمية ، ومنه قول الفقهاء المَهر المسمى . فالمعنى أجل معيّن بنهايته . والدين لا يكون إلاّ إلى أجل ، فالمقصود من وصف الدين بهذا الوصف ، هو وصف أجلٍ بمسمّى إدماجاً للأمر بتعيين الأجل .
وقوله : { بدين إلى أجل مسمى } يعمّ كل دين : من قرض أو من بيع أو غير ذلك . وعن ابن عباس أنّها نزلت في السلَم يعني بيعَ الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجلٍ وكان السلَم من معاملات أهل المدينة . ومعنى كلامه أنّ بيع السلم سبب نزول الآية ، ومن المقرر في الأصول أنّ السبب الخاص لا يخصّص العموم .
والأمر في « فاكتبوه » قيل للاستحباب ، وهو قول الجمهور ومالكٍ وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وعليه فيكون قوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] تكميلاً لمعنى الاستحباب . وقيل الأمر للوجوب ، قاله ابن جريج والشعبي وعطاء والنخعي ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وهو قول داوود ، واختاره الطبَري . ولعلّ القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } قائلون بوجوب الكتابة ، وعليه فقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأنّ الأمر للتكرار ، لا سيما مع التعليق بالشرط ، وسمّاه الأقدمون في عباراتهم نسخاً .
والقصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات ، وتنظيم معاملات الأمة ، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة . والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر ، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات ، وأنّ قوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة ، لئلاّ يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة ، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يَعُد المدينُ ذلك من سوء الظنّ به ، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين .
وقال ابن عطية : « الصحيح عدم الوجوب لأنّ للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع ، فكيف يجب عليه أن يكتبه ، وإنّما هو ندب للاحتياط » .
وهذا كلام قد يروج في بادىء الرأي ولكنّه مردود بأنّ مقام التوثّق غير مقام التبرّع .
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً ، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام .
وقوله : { فاكتبوه } يشمل حالتين :
الأولى حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما ويسلّمه للآخر إذا كانا يحسنانِ الكتابة معاً ، لأنّ جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر .
والثانية حالة كتابة ثالث يتوسّط بينهما . فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما ، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية . فكانت الأميّة بينهم فاشية ، وإنّما كانت الكتابة في الأنبار والحِيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلّمها قليلاً من مكة والمدينة .
وقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } أمر للمتداينِين بأن يوسّطوا كاتباً يكتب بينهم لأنّ غالب حالهم جهل الكتابة .
فعل الأمر به إلى الكاتب مبالغة في أمر المتعاقدين بالاستكتاب . والعرب تعمد إلى المقصود فتنزّله منزلة الوسيلة مبالغة في حصوله كقولهم في الأمر ليكن ولدُك مهذّباً ، وفي النهي لا تنس ما أوصيتُك ، ولا أعرِفَنَّك تفعلُ كذا .
فمتعلِّق فعل الطلب هو ظرف بينكم وليس هذا أمراً للكاتب ، وأما أمر الكاتب فهو قوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب } .
وقوله : { بالعدل } أي بالحق ، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد فيقال رجل عدل لأنّ وجود الباء يصرف عن ذلك ، ونظيره قوله الآتي : { فليملل وليه بالعدل } .
ولذلك قصر المفسرون قوله : { فاكتبوه } على أن يكتبه كاتب غير المتداينين لأنّه الغالب ، ولتعقيبه بقوله : وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، فإنّه كالبيان لكيفية فاكتبوه ، على أنّ كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه .
ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط ، فإنّ استكتاب الكاتب إنّما ينفع بقراءة خطه .
وقوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب } نهي لمن تطْلب منه الكتابة بين المتداينين عن الامتناع منها إذا دُعي إليها ، فهذا حكم آخر وليس تأكيداً لقوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } لما علمت آنفاً من كون ذلك حكماً موجّهاً للمتداينين . وهذا النهي قد اختلف في مقتضاه فقيل نهي تحريم ، فالذي يدعي لأن يكتب بين المتداينين يحرم عليه الامتناع . وعليه فالإجابة للكتابة فرض عين ، وهو قول الربيع ومجاهد وعطاء والطبري ، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه . وقيل : إنّما تجب الإجابة وجوباً عينياً إذا لم يكن في الموضع إلاّ كاتب واحد ، فإن كان غيره فهو واجب على الكفاية وهو قول الحسن ، ومعناه أنّه موكول إلى ديانتهم لأنّهم إذا تمالؤوا على الامتناع أثموا جميعاً ، ولو قيل : إنّه واجب على الكفاية على من يعرف الكتابة من أهل مكان المتداينين ، وإنّه يتعيّن بتعيين طالب التوثق أحدَهم لكان وجيهاً ، والأحق بطلب التوثّق هو المستقرض كما تقدم آنفاً .
وقيل : إنّما يجب على الكاتب في حال فراغه ، قاله السُّدي . وقيل : هو منسوخ بقوله : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } وهو قول الضحاك ، وروي عن عطاء ، وفي هذا نظر لأنّ الحضور للكتابة بين المتداينين ليس من الإضرار إلاّ في أحوال نادرة كبُعد مكان المتداينين من مكان الكاتب . وعن الشعبي وابن جريج وابن زيد أنّه منسوخ بقوله تعالى بعد هذا { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته } [ البقرة : 283 ] وسيأتي لنا إبطال ذلك .
وعلى هذا الخلاف يختلف في جواز الأجر على الكتابة بين المتداينين ، لأنّها إن كانت واجبة فلا أجر عليها ، وإلاّ فالأجر جائز .
ويلحق بالتداين جميع المعاملات التي يطلب فيها التوثّق بالكتابة والإشهاد ، وسيأتي الكلام على حكم أداء الشهادة عند قوله تعالى : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } .
وقوله : { كما علمه الله } أي كتابة تشابه الذي علّمه الله أن يكتبها ، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة ، فهي مثل قوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } [ البقرة : 137 ] ، فالكاف في موضع المفعول المطلق لأنّها صفة لمصدر محذوف . و ( ما ) موصولة .
ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب ، لأنّ الله ما علم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان ، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى ، وهذا يشير إليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم " واستفتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس " .
ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه والعوضِ بمعوضه ، أي أن يكتب كتابة تكافىء تعليم الله إياه الكتابة ، بأن ينفع الناس بها شكراً على تيسير الله له أسباب علمها ، وإنّما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق ولا يقصر ولا يدلّس ، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل كما في قوله تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] وقوله : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .
والكاف على هذا إما نائبة عن المفعول المطلق أو صفة لمفعول به محذوف على تأويل مصدر فِعل أنْ يَكْتُب بالمكتوب ، و ( ما ) على هذا الوجه مصدرية ، وعلى كلا الوجهين فهو متعلق بقوله : { أن يكتب } ، وجوّز صاحب « الكشاف » تعليقه بقوله فليكتب فهو وجه في تفسير الآية .
وقوله : { فليكتب } تفريع على قوله : { ولا يأب كاتب } ، وهو تصريح بمقتضى النهي وتكرير للأمر في قوله : { فاكتبوه } ، فهو يفيد تأكيدَ الأمر وتأكيدَ النهي أيضاً ، وإنّما أعيد ليُرتَّب عليه قولُه : { وليملل الذي عليه الحق } لبعد الأمر الأول بما وَلِيَه ، ومثله قوله تعالى :
{ اتخذوه } [ الأعراف : 148 ] بعد قوله : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلاً جسداً } [ الأعراف : 148 ] الآية .
وقوله : { وليُملل الذي عليه الحق } أمَلّ وأمْلَى لغتان : فالأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لغة تميم ، وقد جاء القرآن بهما قال تعالى : { وليملل الذي عليه الحق } وقال : { فهي تملي عليه بكرة وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] ، قالوا والأصل هو أمللّ ثم أبدلت اللاّم ياء لأنّها أخف ؛ أي عكسَ ما فعلوا في قولهم تقضّي البازي إذْ أصله تَقَضض .
ومعنى اللفظين أن يلقي كلاماً على سامعه ليكتبه عنه ، هكذا فسره في « اللِّسَان » و« القاموس » . وهو مقصور في التفسير أحسب أنّه نشأ عن حصر نظرهم في هذه الآية الواردة في غرض الكتابة ، وإلاّ فإن قوله تعالى في سورة الفرقان ( 5 ) : { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } تشهد بأنّ الإملاء والإملال يكونان لغرض الكتابة ولغرض الرواية والنقل كما في آية الفرقان ، ولغرض الحفظ كما يقال مَلّ المؤدب على الصبي للحفظ ، وهي طريقة تحفيظ العميان . فتحرير العبارة أن يفسر هذان اللفظان بإلقاء كلاممٍ ليُكتب عنه أو ليُروى أو ليُحفظ ، والحق هنا ما حقَّ أي ثبت للدائن .
وفي هذا الأمر عبرة للشهود فإنّ منهم من يكتبون في شروط الحُبُس ونحوه ما لم يملله عليهم المشهود عليه إلاّ إذا كان قد فوّض إلى الشاهد الإحاطة بما فيه توثقه لحقّه أو أوقفه عليه قبل عقده على السدارة .
والضميران في قوله : { وليتق } ، وقوله : { ولا يبخس منه } يحتمل أن يعودا إلى الذي عليه الحق لأنّه أقرب مذكور من الضميرين ، أي لا يُنقصْ ربّ الدين شيئاً حينَ الإملاء ، قاله سعيد بن جبير ، وهو على هذا أمر للمدين بأن يقرّ بجميع الدين ولا يغبن الدائن . وعندي أنّ هذا بعيد إذ لا فائدة بهذه الوصاية ؛ فلو أخفى المدين شيئاً أو غبن لأنكر عليه ربُّ الديْن لأنّ الكتابة يحضرها كلاهما لقوله تعالى : { وليكتب بينكم } . ويحتمل أن يعود الضميران إلى { كاتب } بقرينة أنّ هذا النهي أشدّ تعلّقاً بالكاتب ؛ فإنّه الذي قد يغفل عن بعض ما وقع إملاؤه عليه .
والضمير في قوله : { منه } عائد إلى الحق وهو حق لكِلاَ المتداينين ، فإذا بخس منه شيئاً أضرّ بأحدهما لا محالة ، وهذا إيجاز بديع .
والبخْس فسره أهل اللغة بالنقص ويظهر أنّه أخصّ من النقص ، فهو نقص بإخفاء . وأقربُ الألفاظ إلى معناه الغبن ، قال ابن العربي في الأحكام في سورة الأعراف : « البخس في لسان العرب هو النقص بالتعْييب والتزهِيدِ ، أو المخادعة عن القيمة ، أو الاحتيال في التزيّد في الكيل أو النقصان منه » أي عن غفلة من صاحب الحق ، وهذا هو المناسب في معنى الآية لأنّ المراد النهي عن النقص من الحق عن غفلة من صاحبه ، ولذلك نُهي الشاهد أو المدين أو الدائن ، وسيجيء في سورة الأعراف عند قوله تعالى : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } [ الأعراف : 85 ] .
وقوله : { فإن كان عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } السفيه هو مختلّ العقل ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس } [ البقرة : 142 ] .
والضعيف الصغير ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وله ذرية ضعفاء } [ البقرة : 266 ] .
والذي لا يستطيع أن يملّ هو العاجز كمن به بَكَم وعمًى وصمَمٌ جميعاً .
ووجه تأكيد الضمير المسْتتر في فعل يُملّ بالضمير البارز هو التمهيد لقوله : { فليملل } لئلا يتوهّم الناس أنّ عجزه يسقط عنه واجب الإشهاد عليه بما يستدينه ، وكان الأولياء قبل الإسلام وفي صدره كبراء القرابة . والولي من له ولاية على السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يملّ كالأب والوصيّ وعرفاء القبيلة ، وفي حديث وفد هوازن : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « لِيَرْفَعْ إلَيّ عُرفَاؤُكم أمْرُكم » وكان ذلك في صدر الإسلام وفي الحقوق القَبَلِيَّةِ .
ومعنى { بالعدل } أي بالحق . وهذا دليل على أنّ إقرار الوصي والمقدّم في حق المولّى عليه ماضضٍ إذا ظهر سببه ، وإنّما لم يعمل به المتأخّرون من الفقهاء سدّاً للذريعة خشية التواطؤ على إضاعة أموال الضعفاء .
{ واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى } .
عطف على { فاكتبوه } ، وهو غيره وليس بياناً له إذ لو كان بياناً لما اقترن بالواو . فالمأمور به المتداينون شيآن : الكتابة ، والإشهاد عليها . والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه وتذكر ذلك خشية النسيان . ومن أجل ذلك سمّاها الفقهاء ذُكْر الحق ، وتسمّى عَقداً قال الحارث بن حلزة :
حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء
قال تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } [ البقرة : 283 ] ، فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة لأنّ قوله : { ولم تجدوا كاتباً } [ البقرة : 283 ] صار في معنى ولم تجدوا شهادة ، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين . وإنّما جعَل القرآن كاتباً وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة .
{ واستشهدوا } بمعنى أشهدوا ، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد ، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين ، فيكون تكليفاً بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلّق بصاحب الحق . ويكون قوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } تكليفاً لمن يَطلب منه صاحبُ الحق أن يَشهد عليهما ألاّ يمتنع .
والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة ، والمراد بها هنا حضور خاص وهو حضور لأجل الاطّلاع على التداين ، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضورٍ لمشاهدة تعاقدٍ بين متعاقدَيْن أو لسماععِ عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحُبس . وتطلق الشهادة أيضاً على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه ، والاحتجاج به على من ينكره ، وهذا هو الوارد في قوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } [ النور : 4 ] .
وجَعَل المأمورَ به طلب الإشهاد لأنّه الذي في قدرة المكلّف وقد فهم السامع أنّ الغرض من طلب الإشهاد حصوله .
ولهذا أمَرَ المستشهَدَ بفتح الهاء بعد ذلك بالامتثال فقال : { ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا } .
والأمر في قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } قيل للوجوب ، وهو قول جمهور السلف ، وقيل للندب ، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين : مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } .
وقوله : { من رجالكم } أي من رجال المسلمين ، فحصل به شرطان : أنّهم رجال ، وأنّهم ممّن يشملهم الضمير .
وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يأيها الذين آمنوا .
وأما الصبيّ فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم .
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث ، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان ، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام . فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا ، وأما الكافر فلأنّ اختلاف الدِّين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين ، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة ، ولأنّه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه ، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي . فإنّ الأديان السالفة لم تتعرّض لاحترام حقوق المخالفين ، فتوَهَم أَتْباعهم دحضها . وقد حكى الله عنهم أنّهم قالوا : « ليس علينا في الأمّيين سبيل » . وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصّها ببني إسرائيل ، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب ، ولم نر في دين من الأديان التصريحَ بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام ، فكيف نعتدّ بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم ، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه ، فماذا يرجَى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم والنصْرانية تابعة لأحكام التوراة . على أنّ تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبليّ فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالاً فيما يأمرهم به في شأنهم .
وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة « ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل » . وفي « البخاري » ، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز . وما روي عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري : أنّ نفراً من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرّقوا بها ، فوجدوا أحدهم قتيلاً ، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل أنتم قتلتم صاحبنا ، قالوا ما قتلنا ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكَوْا إليه ، فقال لهم : " تأتون بالبيّنة على من قتله " قالوا : « ما لنا بيّنة » ، قال : " فتحلف لكم يهودُ خمسين يميناً " قالوا : « ما يُبالُون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون » ، فكرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبطل دمَه ووَدَاه من مال الصدقة .
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الأنصار في اليهود : إنّهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون .
فإن قلت : كيف اعتدتّ الشريعة بيمين المدّعى عليه من الكفار ، قلت : اعتدّت بها لأنّها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى ، فرأتْها الشريعة خيراً من إهمال الدعوى من أصلها .
ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر ، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر ، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر ، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكُوفة ، وهو قول أحمدَ وسفيانَ الثوري وجماعة من العلماء ، وقال الجمهور : لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي ، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظراً في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين ، وخالَفه الجمهور ، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفاً .
وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البَتِّي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وعن مجاهد : المراد الأحرار ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ، والذي يظهر لي أنّ تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس ، أما العرف فلأنّ غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألاّ يرد مُطلقاً إلاّ مراداً به الأحرار ، يقولون : رجال القبيلة ورجال الحي ، قال محكان التميمي :
يا رَبَّةَ البيتِ قُومي غيرَ صاغِرة *** ضُمي إليكِ رِجَالَ الحَيِّ والغُرَبا
وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المُجتمع لأنّ حالة الرقّ تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالباً ؛ ولأنّهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة ، فترك اعتبار شهادة العبد معلُول للمظنّة وفي النفس عدم انثلاج لِهذا التعليل .
واشتُرط العددُ في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأنّ الشهادة لما تعلّقت بحق معيّن لمعيّن اتّهم الشاهد باحتمال أن يتوسّل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة ، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعاً ، والعدالة لأنّها تزع من حيث الدين والمروءة ، وزِيد انضمام ثانٍ إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور . فثبت بهذه الآية أنّ التعدّد شرط في الشهادة من حيث هي ، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحقّ معيّن ، ولهذا لو روَى راوٍ حديثاً هو حجة في قضية للراوي فيها حق لَمَا قُبلت روايتُه ، وقد كلف عُمَرُ أبا موسى الأشعريّ أن يأتي بشاهد معه على أنّ رسول الله قال : « إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع » إذ كان ذلك في ادّعاء أبي موسى أنّه لما لم يأذنْ له عُمَر في الثالثة رجَع ، فشهد له أبو سعيد الخدْري في ملإ من الأنصار .
والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا .
وقوله : { فإن لم يكونا رجلين } أي لم يكن الشاهدَانِ رجلين ، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر رجل واحد ، فرجل وامرأتان يشهدان . فقوله : { فرجل وامرأتان } جواب الشرط ، وهو جزء جملة حُذف خبرها لأنّ المقدر أنسب بالخبرية ودليل المحذوف قوله : { واستشهدوا } وقد فهم المحذوف فكيفما قدّرْتَه ساغ لك .
وجيء في الآية بكان الناقصة مع التمكّن من أن يقال فإن لم يكنْ رجلان لئلاّ يتوهم منه أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلاّ عند تعذّر الرجلين كما توهّمه قوم ، وهو خلاف قول الجمهور لأنّ مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين . وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشؤون ، فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلّل ذلك بقوله : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ، وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسياننِ لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب ، والضلال هنا بمعنى النسيان .
وقوله : { أن تضل } قرأه الجمهور بفتح همزة أنْ على أنّه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع أنْ ، والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يُعلّل لقصد إقناع المكلّفين ، إذ لا نجد في هذه الجملة حكماً قد لا تطمئنّ إليه النفوس إلاّ جعْلَ عوضِ الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصُرح بتعليله . واللام المقدرة قبل أنْ متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط إذ التقدير فرجل وامرأتان يشهدان أو فليشهد رجل وامرأتان ، وقرأوه بنصب { فتذكّر } عطفاً على { أن تضلّ } ، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار إنْ شرطية وتضلّ فعل الشرط ، وبرفع تذكرُ على أنّه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء لأنّ الفاء تؤذن بأنّ ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكّرها الأخرى على نحو قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] .
ولما كان « أن تضلّ » في معنى لضلال إحداهما صارت العلّة في الظاهر هي الضلال ، وليس كذلك بل العلّة هي ما يترتّب على الضلال من إضاعة المشهود به ، فتفرّع عليه قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } لأنّ فتذكّر معطوف على تضلّ بفاء التعقيب فهو من تكملته ، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى : { أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } [ البقرة : 266 ] ، ونظيره كما في « الكشاف » أن تقول : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعِّمَه ، وأعددت السلاح أن يجيءَ عدوّ فأدْفَعَه . وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال : أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها . ووجَّهه صاحب « الكشاف » بأنّ فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلّل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله .
وادّعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة : أنّ من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة وكان للعلة علة قَدّموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالتان معاً بعبارة واحدة . ومثَّله بالمثال الذي مثَّل به « الكشاف » ، وظاهر كلامه أنّ ذلك مُلتزم ولم أره لِغيره .
والذي أراه أنّ سبب العدول في مثله أنّ العلة تارة تكون بسيطة كقولك : فعلت كذا إكراماً لك ، وتارة تكون مركّبة من دفع ضُر وجلب نَفْع بدفعِه . فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازاً في الكلام كما في الآية والمثالين . لأنّ المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة ، فلذا أخِذ بقولها حَقُّ المشهود عليه وقُصد تذكير المرأة الثانية إياها ، وهذا أحسن مما ذكره صاحب « الكشاف » .
وفي قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول فتذكّرها الأخرى ، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعيّن شخص المقصود بهما ، فكيفما وضعتَهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحداً ، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحاً سواء كان قوله أحداهما المظهر فاعلاً أو مفعولاً به ، فلا يظنّ أن كَون لفظ إحداهما المظهر في الآية فاعلاً ينافي كونه إظهاراً في مقام الإضمار لأنّه لو أضمر لكان الضمير مفعولاً ، والمفعول غير الفاعل كما قد ظنّه التفتازاني لأنّ المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتّحاد المعنى . وهو موجود في الآية كما لا يخفى .
ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيّرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرّض لها المتقدمون ، قال التفتازاني في « شرح الكشاف » : « ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرير لفظ إحداهما ، ولا خفاء في أنّه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكِّرة هي الناسية إلاّ أن يجعل إحداهما الثانية في موقع المفعول ، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس ، ويصح أن يقال : فتذكرها الأخرى ، فلا بد للعدول من نكتة » . وقال العصام في « حاشية البيضاوي » « نكتة التكرير أنّه كان فصل التركيب أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت ، فلما قدّم إن ضلّت وأبرز في معرض العلّة لم يصح الإضمار ( أي لعدم تقدم إمعاد ) ولم يصح أن تضلّ الأخرى لأنّه لا يحسن قبل ذكر إحداهما ( أي لأنّ الأخرى لا يكون وصفاً إلاّ في مقابلة وصف مقابل مذكور ) فأبدل بإحداهما ( أي أبدل موقع لفظ لأخرى بلفظ إحداهما ) ولم يغيّر ما هو أصل العلّة عن هيأته لأنّه كأن لم يقدم عليه ، { أن تضلّ إحداهما } يعني فهذا وجه الإظهار .
وقال الخفاجي في « حاشية التفسير » « قالوا : إنّ النكتة الإبهام لأنّ كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير ، فدخل الكلام في معنى العموم » يعني أنّه أظهر لئلاّ يتوهم أنّ إحدى المرأتين لا تكون إلاّ مذكِّرة الأخرى ، فلا تكون شاهدة بالأصالة .
وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجّهه إليه الخفاجي ، وهذا السؤال :
يا رأس أهل العلوم السادةِ البـرره *** ومَن نداه على كل الورى نَشَـره
ما سِرُّ تَكْرَار إحدَى دون تُذْكِرُهـا *** في آية لذوي الأشهاد في البقـره
وظاهر الحال إيجاز الضمير علـى *** تكرار إحداهما لو أنّه ذكـــره
وحَمل الإحدى على نفس الشهادة في *** أولاهما ليس مرضياً لدى المهره
فغُص بفكرك لاستخراج جوهــره *** من بحر علمك ثم ابعث لنا درره
يا من فوائده بالعلم منتشره *** ومَن فضائله في الكون مشتهره
تَضلَّ إحداهما فالقولُ محتمل *** كِلَيهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا *** تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ فهو كما *** أشرتُم ليس مرضيا لمن سبَره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به *** واللَّهُ أعلم في الفحوى بما ذكره
وقد أشار السؤال والجواب إلى ردّ على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره ؛ إذ جعل إحداهما الأولَ مراداً به إحدى الشهادتين ، وجعل تضلّ بمعنى تتلف بالنسيان ، وجعل إحداهما الثاني مراداً به إحدى المرأتين . ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار ، وهو تكلّف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه ، فينزّه تخريج كلام الله عليه ، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله : « ومن رَدَدْتُم عليه الحَلّ إلخ » .
والذي أراه أنّ هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه مَعاد الضمير لَو أضمر ، وذلك يرشّح الجملة لأن تَجري مَجرى المثل . وكأنّ المراد هنا الإيماء إلى أنّ كلتا الجملتين علّة لمشروعية تعدّد المرأة في الشهادة ، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه ، والتعدد مظنّة لاختلاف مواد النقص والخلل ، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى . فقوله أن تضلّ تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة ، وقوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها .
{ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } .
عُطف { ولا يأب } على { واستشهدوا شهيدين } لأنّه لما أمر المتعاقدين باستشهاد شاهدين نَهى من يُطلب إشهاده عن أن يأبَى ، ليتم المطلوب وهو الإشهاد .
وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي اهتماماً بما فيه التفريط . فإنّ المتعَاقدين يظنّ بهما إهمال الإشهاد فأمرا به ، والشهود يظنّ بهم الامتناع فنهوا عنه ، وكل يستلزم ضدّه .
وتسمية المدعوِّينَ شهداء باعتبار الأوّل القريببِ ، وهو المشارفة ، وكأنَّ في ذلك نكتة عظيمة : وهي الإيماء إلى أنّهم بمجرّد دعوتهم إلى الإشهاد ، قد تعيّنت عليهم الإجابة ، فصاروا شهداء .
وحذف معمول دُعوا إمّا لظهوره من قوله قبله { واستشهدوا شهيدين } أي إذا ما دعوا إلى الشهادة أي التحمّل ، وهذا قول قتادة ، والربيع بن سليمان ، ونقل عن ابن عباس ، فالنهي عن الإباية عند الدعاء إلى الشهادة حاصل بالأوْلى ، ويجوز أن يكون حذف المعمول لقصد العموم ، أي إذا ما دعوا للتحمّل والأداء معاً ؛ قاله الحسن ، وابن عباس ، وقال مجاهد : إذا ما دعوا إلى الأداء خاصة ، ولعلّ الذي حمله على ذلك هو قوله : { الشهداء } لأنّهم لا يكونون شهداء حقيقة إلاّ بعد التحمّل ، ويبعده أنّ الله تعالى قال بعد هذا
{ ولا تكتموا الشهادة } [ البقرة : 283 ] وذلك نهي عن الإباية عند الدعوة للأداء .
والذي يظهر أنّ حذف المتعلِّق بفعل { دعوا } لإفادة شمول ما يُدعَون لأجله في التعاقد : من تحمّل ، عند قصد الإشهاد ، ومن أداء ، عند الاحتياج إلى البيّنة . قال ابن الحاجب : « والتحمّل حيث يفتقر إليه فرض كفاية والأداء من نحو البريدين إن كانا اثنين فرضُ عين ، ولا تحِلُّ إحالته على اليمين » .
والقول في مقتضى النهي هنا كالقول في قوله : { ولا يأب كاتب } ويظهر أنّ التحمّل يتعيّن بالتعيين من الإمام ، أو بما يعينه ، وكان الشأن أن يكون فرض عين إلاّ لِضرورة فينتقل المتعاقدان لآخر ، وأما الأداء ففرض عين إن كان لا مضرة فيه على الشاهد في بدنه ، أو ماله ، وعند أبي حنيفة الأداء فرض كفاية إلاّ إذا تعيَّن عليه : بأن لا يوجد بَدَلُه ، وإنّما يجب بشرط عدالة القاضي ، وقرب المكان : بأن يرجع الشاهد إلى منزله في يومه ، وعِلْمِه بأنّه تقبل شهادته ، وطلب المدّعي . وفي هذه التعليقات ردّ بالشهادة إلى مختلف اجتهادات الشهود ، وذلك باب من التأويلات لا ينبغي فتحه .
قال القرطبي : « يؤخذ من هذه الآية أنّه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً ، ويجعل لهم كفايتهم من بيت المال ، فلا يكون لهم شغل إلاّ تحمل حقوق الناس حفظاً لها » . قلت : وقد أحسن . قضاة تونس المتقدّمون ، وأمراؤها ، في تعيين شهود مُنتصبين للشهادة بين الناس ، يؤخذون ممّن يقبلهم القضاة ويعرفونهم بالعدالة ، وكذلك كان الأمر في الأندلس ، وذلك من حسن النظر للأمة ، ولم يكن ذلك متّبعاً في بلاد المشرق ، بل كانوا يكتفون بشهرة عدالة بعض الفقهاء وضبطهم للشروط وكَتب الوثائق فيعتمدهم القضاة ، ويكلون إليهم ما يجري في النوازِل من كتابة الدعوى والأحكام ، وكان ممّا يعدّ في ترجمة بعض العلماء أن يقال : كان مقبولاً عند القاضي فلان .
{ وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ } .
تعميم في أكوان أو أحوال الديون المأمور بكتابتها ، فالصغير والكبير هنا مَجازان في الحقير والجليل . والمعاملات الصغيرة أكثر من الكبيرة ، فلذلك نُهوا عن السآمة هنا . والسآمة : الملل من تكرير فعلٍ مَّا .
والخطاب للمتداينين أصالة ، ويستتبع ذلك خطاب الكاتب : لأنّ المتداينين إذا دعواه للكتابة وجب عليه أن يكتب .
والنهي عنها نهي عن أثرها ، وهو ترك الكتابة ، لأنّ السآمة تحصل للنفس من غير اختيار ، فلا ينهى عنها في ذاتها ، وقيل السآمة هنا كناية عن الكسل والتهاون .
وانتصب صغيراً أو كبيراً على الحال من الضمير المنصوب بتكتبوه ، أو على حذف كانَ مع اسمها . وتقديم الصغير على الكبير هنا ، مع أنّ مقتضى الظاهر العكس ، كتقديم السِنة على النوم في قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] لأنّه قصد هنا إلى التنصيص على العموم لدفع ما يطرأ من التوهّمات في قلة الاعتناء بالصغير ، وهو أكثر ، أو اعتقاد عدم وجوب كتابة الكبير ، لو اقتصر في اللفظ على الصغير .
وجملة { إلى أجله } حال من الضمير المنصوب بتكتبوه ، أي مُغيَّى الدّينُ إلى أجله الذي تعاقدا عليه ، والمراد التغيية في الكتابة .
{ ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا } .
تصريح بالعلة لتشريع الأمر بالكتابة : بأنّ الكتابة فيها زيادة التوثّق ، وهو أقسط أي أشدّ قسطاً ، أي عدلاً ، لأنّه أحفظ للحق ، وأقوم للشهادة ، أي أعون على إقامتها ، وأقرب إلى نفي الريبة والشك ، فهذه ثلاث علل ، ويستخرج منها أنّ المقصد الشرعي أن تكون الشهادة في الحقوق بيّنة ، واضحة ، بعيدة عن الاحتمالات ، والتوهّمات . واسم الإشارة عائد إلى جميع ما تقدم باعتبار أنّه مذكور ، فلذلك أشير إليه باسم إشارة الواحد .
وفي الآية حجّة لجواز تعليل الحكم الشرعي بعلل متعدّدة وهذا لا ينبغي الاختلاف فيه .
واشتقاق { أقْسَطُ } من أقْسَطَ بمعنى عدل ، وهو رباعي ، وليس من قَسَط لأنّه بمعنى جَار ، وكذا اشتقاق { أقْوَمُ } من أقام الشهادةَ إذا أظهرها جارٍ على قول سيبويه بجواز صوغ التفضيل والتعجّب من الرباعي المهموز ، سواء كانت الهمزة للتعدية نحو أعطى أم لغير التعدية نحو أفْرط . وجوّز صاحب « الكشّاف » أن يكون أقسط مشتقاً من قاسط بمعنى ذي قسط أي صيغةِ نسب وهو مشكل ، إذ ليس لهذه الزنة فعل . واستشكل أيضاً بأنّ صوغه من الجامد أشدّ من صوغه من الرباعي . والجواب عندي أنّ النسبَ هنا لما كان إلى المصدر شابَه المشتق : إذ المصدر أصل الاشتقاق ، وأن يكون أقوم مشتقاً من قام الذي هو محوّل إلى وزن فَعُلَ بضم العين الدال على السجيّة ، الذي يجيء منه قويم صفة مشبّهة .
{ إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } .
استثناء من عموم الأحوال أو الأكوان في قوله : { صغيراً أو كبيراً } . وهو استثناء ؛ قيل منقطع ، لأنّ التجارة الحاضرة ليست من الدين في شيء ، والتقدير : إلاّ كونَ تجارةٍ حاضرة .
والحاضرة الناجزة ، التي لا تأخير فيها ، إذ الحاضر ، والعاجل ، والناجز : مترادفة . والدين ، والأجل ، والنّسيئة : مترادفة .
وقوله : { تديرونها بينكم } بيان لجملةِ { أن تكون تجارة حاضرة } بل البيان في مثل هذا ، أقرب منه في قول الشاعر ممّا أنشده ابن الأعرابي في نوادره ، وقال العيني : ينسب إلى الفرزدق :
إلى الله أشكُو بالمدينةِ حاجة *** وبالشَّام أخرى كيفَ يلتقيان
إذ جعل صاحب « الكشاف » كيفَ يلتقيان بياناً لحاجةٍ وأخرى ، أو تجعل { تديرونها } صفة ثانية لتجارة في معنى البيان ، ولعلّ فائدة ذكره الإيماءُ إلى تعليل الرخصة في ترك الكتابة ، لأنّ إدارتها أغنت عن الكتابة . وقيل : الاستثناء متّصل ، والمراد بالتجارة الحاضرة المؤجّلة إلى أجل قريب ، فهي من جملة الديون ، رخص فيها ترك الكتابة بها ، وهذا بعيد .
وقوله : { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } تصريح بمفهوم الاستثناء ، مع ما في زيادة قوله : { جُناح } من الإشارة إلى أنّ هذا الحكم رخصة ، لأنّ رفع الجناح مؤذن بأنّ الكتابة أولى وأحسن .
وقرأ الجمهور تجارةٌ بالرفع : على أنّ تكونَ تامة ، وقرأه عاصم بالنصب : على أنّ تكونَ ناقصة ، وأنّ في فعل تكون ضميراً مستتراً عائداً على ما يفيده خبر كان ، أي إلاّ أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرة ، كما في قول عَمّرو بن شاس -أنشده سيبويه :
بنِي أسد هل تعلمون بلاءَنَا *** إذَا كان يوماً ذَا كَوَاكِبَ أشْنَعا
تقديره إذا كان اليومُ يوماً ذا كواكب ، وقوله : { ألا } أصله أن لا فرسم مدغماً .
{ وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } .
تشريع للإشهاد عند البيع ولو بغير دين إذا كان البيع غيرَ تجارة حاضرة ، وهذا إكمال لصور المعاملة : فإنّها إمّا تداين ، أو آيل إليه كالبيع بدين ، وإمّا تناجز في تجارة ، وإمّا تناجز في غير تجارة كبيع العقار والعروض في غير التجر . وقيل : المراد بتبايعتم التجارة ، فتكون الرخصة في ترك الكتابة مع بقاء الإشهاد بدون كتابة ، وهذا بعيد جداً ، لأنّ الكتابة ما شُرعت إلاّ لأجل الإشهاد والتوثّق .
وقوله تعالى : { وأشهدوا } أمر : قيل هو للوجوب ، وهذا قول أبي موسى الأشعري ، وابن عمر ، وأبي سعيد الخُدْري ، وسعيد بن المسيّب ، ومجاهد ، والضحّاك ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، وداوود الظاهري ، والطبري . وقد أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيع عبد باعه للعَدّاء بن خالد بن هوذة ، وكتَب في ذلك « باسم الله الرحمان الرحيم ، هذا ما اشترى العَدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبداً لا داءَ ولا غائلة ولا خِبثة بيعَ المُسلم للمُسلم » وقيل : هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن ، والشعبي ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وتمسّكوا بالسنّة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يُشهد ، قاله ابن العربي ، وجوابه : أنّ ذلك في مواضع الائتمان ، وسيجيء قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً } [ البقرة : 283 ] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب ورَدُّنا له عند قوله تعالى : { فاكتبوه } .
{ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } .
نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدراً للإضرار ، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدراً للإضرار : لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول ، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود ، لاحتمالها حكمين ، ليكون الكلام موجّهاً فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما ، وهذا من وجه الإعجاز .
والمضارّة : إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحَرج والخسارة ، أو ما يجر إلى العقوبة ، وأن يوقع الشاهدان أحدَ المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة . وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاماً كثيرة تتفرّع عن الإضرار : منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة ، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان ، ومنها استفساره استفساراً يوقعه في الاضطراب ، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقالِ من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم ، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة .
وقوله تعالى : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم ، لأنّه الإضرارُ المستفاد من لا يضارّ مثلُ « اعدلوا هو أقرب » والفسوق : الإثم العظيم ، قال تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] .
{ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير ، وبها يكون ترك الفسوق . وقوله : { ويعلمكم الله } تذكير بنعمة الإسلام ، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة ، ونظام العالم ، وهو أكبر العلوم وأنفعها ، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع ، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل : إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم . وجعله بعضهم من معاني الواو ، وليس بصحيح .
وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث : لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها ، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها ، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي :
اللُّؤْمُ أكْرَمُ من وَبْرٍ ووالدِهِ *** واللؤمُ أكرَمُ من وَبْرٍ ومَا وَلَدا
واللؤم داءٌ لوَبْرٍ يُقْتَلُونَ به *** لا يُقْتَلُونَ بدَاءٍ غيرِه أبـــدا
فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومَنْ وَلَدَها ، ومَا ولدته ، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها . هذا ، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل . وللتكرير مواقع يحسن فيها ، ومواقع لا يحسن فيها ، قال الشيخ في « دلائل الإعجاز » ، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها ، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل : « ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره ، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها :
أتَحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتوقّد *** على ما مضى أم حسْرة تتجدّد
وقال لي : تأمّلها ، فتأمَّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقِّط عليه وهو قوله :
بجَهْلٍ كجهل السيفِ والسيفُ منتضًى *** وحِلْمٍ كحلم السيف والسيفُ مُغْمَدُ
فقلت : لِمَ تركَ الأستاذُ هذا البيت ؟ فقال : لعلّ القلم تجاوزه ، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّاً من تركه ؛ فقال : إنّما تركته لأنّه أعادَ السيف أربع مرات ، قال الصاحب : لو لم يعده لفسد البيت ، قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب ثم قال قاله أبو يعقوب : إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى : { وبالحق أنزلته وبالحق نزل } [ الإسراء : 105 ] وقوله : { قل هو الله أحد ، الله الصمد } [ الصمد : 1 ، 2 ] عَمَل لولاه لم يكن .
وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :
* فما للنَّوى جُذّ النَّوى قُطِع النَّوَى *
حتى قيل : لو سلّط بعير على هذا البيت لرَعى ما فيه من النَّوى ، ثم قال : إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم ، أو التحقير ، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى ، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير ، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد ، وعبدُ القاهر موافقٌ للصاحب بن عباد ، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد :
لَمَّا رَأيتُ الشيبَ لاح بياضُه *** بمَفرِقِ رأسي قُلتُ للشيب مرحبا
« كان الواجب أن يقول : قلت له مرحباً ، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماءَ الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم » .
واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر ، كما تقدّم في بيتي الحماسة : « اللؤم أكرم من وبر » إلخ .
وقد وقع التكرير متعاقباً في قوله تعالى في سورة آل عمران ( 78 ) : { وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . }