ثم أضاف - سبحانه - إلى ذلك تسلية جديدة لهم ، فأخبرهم بأن ما أصابهم من جراح وآلام قد أصيب أعداؤهم بمثله فقال - تعالى - : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } .
فقال الفخر الرازى : واعلم أن هذا من تمام قوله - تعالى - { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } فبين - تعالى - أن الذين يصيبهم من القرح لا يصح أن يزيل جدهم واجتهادهم فى جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك فى الحرب ، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى .
والمراد بالمس هنا : الإصابة بالجراح ونحوها .
والقرح - بفتح القاف - الجرح الذى يصيب الإنسان ، والقرح - بضم القاف - الألم الذى يترتب على ذلك وقيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره .
والمعنى : إن تكونوا - أيها المؤمنون - قد أصابتكم الجراح من المشركين فى غزوة أحد ، فأنتم قد أنزلتم بهم من الجراح فى غزوة بدر مثل ما أنزلوا بكم فى أحد ، ومع ذلك فإنهم بعد بدر قد عادوا لقتالكم ، فأنتم أولى بسبب إيمانكم ويقينكم ألا تهنوا وألا تحزنوا لما أصابكم فى أحد وأن تعقدوا العزم على منازلتهم حتى يظهر أمر الله وهم كارهون .
وقيل : إن المعنى إن تصبكم الجراح فى أحد فقد أصيب القوم بجراح مثلها فى هذه المعركة ذاتها .
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين المعنيين فقال : والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ، ولم ثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قلت : كيف قيل " قرح مثله " وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين ؟ قلت : بلى كان مثله . ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار . ألا ترى إلى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ويبدو لنا أن الظاهر هو الرأى الأول ، وهو أن الكلام عن غزوتى بدر وأحد ، لأن الله - تعالى - قد ساق هذه الآية الكريمة لتسلية المؤمنين بأن ما أصابهم فى أحد من المشركين قد أصيب المشركون بمثله على أيدى المؤمنين فى غزوة بدر ، فلماذا يحزنون أو يضعفون ؟ ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } ، ويؤيد هذا المعنى - كما سنبينه لعد قليل - .
وجواب الشرط فى قوله { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } . . . إلخ . والتقدير إن يمسسكم قرح فاصبروا عليه واعقدوا عزمكم على قتال أعدائكم ، فقد مسهم قرح مثله قبل ذلك .
وعبر عما أصاب المسلمين فى أحد بصيغة المضارع { يَمْسَسْكُمْ } لقربه من زمن الحال ، وعما أصاب المشركون بصيغة الماضى لبعده ؛ لأن ما أصابهم كان فى غزوة بدر .
وقوله { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } بيان لسنة الله الجارية فى كونه ، وتسلية للمؤمنين عما أصابهم فى أحد .
وقوله { نُدَاوِلُهَا } من المداولة ، وهى نقل الشىء من واحد إلى آخر .
يقال : هذا الشىء تداولته الأيدى ، أى انتقل من واحد إلى آخر .
والمعنى : لا تجزعوا أيها المؤمنون لما أصابكم من الجراح فى أحد على أيدى المشركين فهم قد أصيبوا منكم بمثل ذلك فى غزوة بدر ، وإن أيام الدنيا هى دول بين الناس ، لا يدوم سرورها ولا غمها لأحد منهم ، فمن سره زمن ساءته أزمان ، ومن أمثال العرب . الحرب سجال : والأيام دول فهى تارة لهؤلاء وتارة لأولئك ، كما قال الشاعر :
فلا وأبى الناس لا يعلمون . . . فلا الخير خير ولا الشر شر
فيوم علينا ، ويوم لنا . . . ويوم نساء ويوم نسر
واسم الإشارة { تِلْكَ } مشاربه إلى ما بعده ، كما فى الضمائر المبهمة التى يفسرها ما بعدها ، ومثل هذا التركيب يفيد التفخيم والتعظيم .
والمراد بالأيام : الأوقات والأزمان المختلفة لا الأيام العرفية التى يتكون الواحد منها من مدة معينة .
وقد فسر صاحب الكشاف مداولة الأيام بتبادل النصر ، فقال : وقوله : { وَتِلْكَ الأيام } ، تلك مبتدأ ، والأيام صفته { نُدَاوِلُهَا } خبره .
ويجوز أن يكون { وَتِلْكَ الأيام } مبتدأ وخبرا ، كما تقول : هى الأيام تبلى كل جديد .
والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة . ونداولها : نصرفها بين الناس ، نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء " .
وقد تكلم الإمام الرازى عن الحكمة فى مداولة الأيام بين الناس فقال ما ملخصه : واعمل أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله - تعالى - ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف ، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه :
الأول : إنه - سبحانه - لو شدد المحنة على الكفار فى جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين فى جميع الأوقات . لحصل العلم الاضطرارى بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب ، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية ، والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله .
والثانى : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى ، فيكون تشديد المحنة عليه فى الدنيا أدباً ، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله عليه " .
ووجه آخر وهو شحذ عزائم المؤمنين فى اتخاذ وسائل النصر فلا يركنوا إلى إيمانهم ويتركوا العمل بالأسباب .
ثم كشفت السورة الكريمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث فى غزوة أحد ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس فقال - تعالى - { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } .
أى فعلنا ما فعلنا فى أحد ، واقتضت حكمتنا أن نداول الأيام بينكم وبين عدوكم ، ليظهر أمركم - أيها المؤمنون - ، وليتميز قوى الإيمانى من ضعيفه .
فمعنى علم الله هو تحقيق ما قدره فى الأزل فيعلمه الناس ، ويعلمه الله - تعالى - واقعا حاضرا ، وذلك لأن العلم الغيبيى لا يتربت عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحس .
قال صاحب الكشاف : وقوله { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا والمعنى : وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف فعلنا ذلك . وهو من باب التمثيل . بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، وإلا فالله - عز وجل - لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها .
والثاني : أنه تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه والمعنى : وفعلنا ذلك ليكون كيت وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم بأن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله فى ذلك من المصالح ما هو غافل عنه " .
وقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } بيان لحكمة أخرى لما أصاب المسلمين يوم أحد .
أى : وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم فى التضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمة الله ، والدفاع عن الحق . وهو - سبحانه - يحب الشهداء من عباده ، ويرفعهم إلى أعلا الدرجات ، وأسمى المنازل .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي يكرمكم بالشهادة ، أي ليقتل قوم منكم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم . وقيل : لهذا قيل شهيد .
وقيل : سمى شهيداً لأنه مشهود له بالجنة . وقيل : سمى شهيدا ، لأن أرواحهم احتضرت دار السلام لأنهم أحياء عند ربهم ، فالشهيد بمعنى الشاهد أى الحاضر للجنة . والشهادة فضلها عظيم ويكفيك فى فضلها قوله - تعالى - { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } الآية . وفى الحديث الشريف " أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون فى قبورهم إلا الشهيد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " " .
وقوله - تعالى - : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جملة معترضة لتقدير مضمون ما قبلها .
أى : والله - تعالى - لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وإنما يحب المؤمنين الثابتين على الحق ، المجاهدين بأنفسهم وأموالهم فى سبيل إعلاء دين الله ، ونصره شريعته .
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شهداء وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ }
اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } كلاهما بفتح القاف ، بمعنى : إن يمسسكم القتل والجراح يا معشر أصحاب محمد ، فقد مسّ القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتل وجراح مثله . وقرأ عامة قراء الكوفة : «إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ » .
وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } بفتح القاف في الحرفين لإجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح ، فذلك يدلّ على أن القراءة هي الفتح . وكان بعض أهل العربية يزعم أن القَرْح والقُرْح لغتان بمعنى واحد ، والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا . ذكر من قال : إن القرح الجراح والقتل :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } قال : جراح وقتل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } قال : إن يقتلوا منكم يوم أُحد ، فقد قتلتم منهم يوم بدر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } . والقرح : الجراحة ، وذاكم يوم أُحد ، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة ، فأخبرهم الله عزّ وجلّ أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم ، وأن الذي أصابكم عقوبة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } قال : ذلك يوم أُحد ، فشا في المسلمين الجراح ، وفشا فيهم القتل ، فذلك قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } يقول : إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله ، يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهم على القتال .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } والقرح : هي الجراحات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ } أي جراح ، { فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } : أي جراح مثلها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نام المسلمون وبهم الكلوم يعني يوم أُحد قال عكرمة : وفيهم أنزلت : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلكَ الأيّامُ نُداوِلِهَا بينَ الناسِ } وفيهم أنزلت : { إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنّهُمْ يأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لا يَرْجُونَ } .
وأما تأويل قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ } فإنه : إن يصبكم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إن يمْسَسْكُم } : إن يصبكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلكَ الأيّامُ نُدَاوِلهَا بَيْنَ النّاسِ } .
يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : { وتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النّاسِ } أيام بدر وأُحد ، ويعني بقوله : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } : نجعلها دولاً بين الناس مصرفة ، ويعني بالناس : المسلمين والمشركين . وذلك أن الله عزّ وجلّ أدال المسلمين من المشركين ببدر ، فقتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين ، وأدال المشركين من المسلمين بأُحد ، فقتلوا منهم سبعين سوى من جرحوا منهم ، يقال منه : أدال الله فلانا من فلان فهو يديله منه إدالة إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المدال منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } قال : جعل الله الأيام دولاً ، أدال الكفار يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } : إنه والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون ، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ويعلم الصادق من الكاذب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } فأظهر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر ، وأظهر عليهم عدوّهم يوم أُحد . وقد يدال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ويعلم الصادق من الكاذب ، وأما من ابتلي منهم من المسلمين يوم أُحد ، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } : يوما لكم ، ويوما عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } قال : أدال المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } فإنه كان يوم أُحد بيوم بدر ، قتل المؤمنون يوم أُحد ، اتخذ الله منهم شهداء ، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين ، فجعل له الدولة عليهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان قتال أُحد ، وأصاب المسلمين ما أصاب ، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان ، فقال : يا محمد ، يا محمد ، ألا تخرج ، ألا تخرج ؟ الحرب سجال ، يوم لنا ، ويوم لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «أَجِيبُوهُ ! » فقالوا : لا سواء لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . فقال أبو سفيان : لنا عزّى ، ولا عزّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قُولُوا : اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ » . فقال أبو سفيان : اعل هبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «قُولُوا : اللّهُ أعلَى وأجَلّ » . فقال أبو سفيان : موعدكم وموعدنا بدر الصغرى . قال عكرمة : وفيهم أنزلت : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك . عن ابن جريج . عن ابن عباس ، في قوله : { وَتِلْكَ الأيامُ نُداوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } : فإنه أدال على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَتِلَكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَ بَيَنَ النّاسِ } : أي نصرفها للناس بالبلاء والتمحيص .
حدثني إبراهيم بن عبد الله ، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن عون ، عن محمد في قول الله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } قال : يعني الأمراء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحبّ الظّالِمينَ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس . ولو لم يكن في الكلام واو لكان قوله : «ليعلم » متصلاً بما قبله ، وكان : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليعلم الله الذين آمنوا . ولكن لما دخلت الواو فيه آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها ، وأن بعدها خبرا مطلوبا للام التي في قوله : «وليعلم » ، متعلقة به .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } معرفة ، وأنت لا تستجيز في الكلام : قد سألت فعلمت عبد الله ، وأنت تريد : علمت شخصه ، إلا أن تريد : علمت صفته وما هو ؟ قيل : إن ذلك إنما جاز مع الذين ، لأن في «الذين » تأويل «مَنْ » و«أيّ » ، وكذلك جائز مثله في الألف واللام ، كما قال تعالى ذكره : { فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ } لأن في الألف واللام من تأويل «أيّ » ، و«من » مثل الذي في «الذي » . ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على «أيّ » جاز ، كما يقال : سألت لأعلم عبد الله من عمرو ، ويراد بذلك : لأعرف هذا من هذا .
فتأويل الكلام : وليعلم الله الذين آمنوا منكم أيها القوم من الذين نافقوا منكم ، نداول بين الناس ، فاستغنى بقوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا منكم } عن ذكر قوله : { مِنَ الّذِينَ نافَقُوا } لدلالة الكلام عليه ، إذ كان في قوله : { الّذِينَ آمَنُوا } تأويل «أيّ » على ما وصفنا . فكأنه قيل : وليعلم الله أيكم المؤمن ، كما قال جل ثناؤه : { لنَعْلَمَ أيّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى } غير أن الألف واللام والذي ومِن ، إذا وضعت مع العلم موضع أيّ نصبت بوقوع العلم عليه ، كما قيل : وليعلمنّ الكاذبين ، فأما «أيّ » فإنها ترفع .
وأما قوله : { وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } فإنه يعني : وليعلم الله الذين آمنوا ، وليتخذ منكم شهداء : أي ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها . والشهداء جمع شهيد¹ كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } أي ليميز بين المؤمنين والمنافقين ، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } قال : فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم : ربنا أرنا يوما كيوم بدر ، نقاتل فيه المشركين ، ونُبْليكَ فيه خيرا ، ونلتمس فيه الشهادة ! فلقوا المشركين يوم أُحد ، فاتخذ منهم شهداء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } فكرّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوّهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } قال : قال ابن عباس : كانوا يسألون الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أُحد ، فاتخذ منهم شهداء .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر ، يبلون فيه خيرا ، ويرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون الجنة والحياة والرزق . فلقي المسلمون يوم أُحد فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ ، فقال : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ } . . . الاَية .
وأما قوله : { وَاللّهُ لا يُحِبّ الظالِمِينَ } فإنه يعني به : الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ لا يُحِبّ الظّالِمِينَ } : أي المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة ، وقلوبهم مصرّة على المعصية .
أخبر تعالى على جهة التسلية أن { الأيام } على قديم الدهر وغابره أيضاً إنما جعلها دولاً بين البشر ، أي : فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار ، وقال تعالى : { نداولها } فهي مفاعلة من جهة واحدة ، وإنما ساغ ذلك لأن المداولة منه تعالى هي بين شيئين ، فلما كان ذلك الفريقان يتداولان حسن ذلك ، و «الدُّولة » بضم الدال المصدر ، و «الدَّولة » بفتح الدال الفعلة الواحدة من ذلك ، فلذلك يقال في دولة فلان لأنها مرة في الدهر ، وسمع بعض العرب الأَقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية ، فقال : إنما هو ، «وتلك الأيام نداولها بين العرب » ، فقيل له : إنما هو «بين الناس » فقال : إنّا لله ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة ، وقوله تعالى : { وليعلم الله الذين آمنوا } دخلت الواو لتؤذن أن اللام متعلقة بمقدر في آخر الكلام ، تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا ، فعل ذلك ، وقوله تعالى : { وليعلم } معناه : ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون وليساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأول ، وعلمه تعالى لا يطرأ عليه التغيير ونحو هذا : أن يضرب حاكم أحداً ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا التبيين لأضرب مستحقاً ، معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه ، وقوله تعالى : { ويتخذ منكم شهداء } ، معناه : أهل فوز في سبيله حسبما ورد في فضائل الشهيد .