ثم تركت السورة الكريمة الحديث عن المنافقين ، لتسوق وعد الله الذى لا يتخلف للمؤمنين الصادقين ، قال - تعالى - : { وَعَدَ الله . . . } .
قال الإمام ابن كثير : " هذا وعد من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أى : أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك . . . فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب ، ولهذا ثبت فى الصحيح عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها . . " .
وفى تصدير الآية الكريمة بقوله - تعالى - : { وَعَدَ الله . . } بشارة عظيمة للمؤمنين ، بتحقيق وعده - تعالى - ، إذ وعد الله لا يتخلف . كما قال - تعالى - : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، ومن بيانية ، والآية الكريمة مقررة لمضمون ما قبلها ، وهو قوله - تعالى - { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ . . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين صدقوا فى إيمانهم من عباده ، والذين جمعوا مع الإيمان الصادق ، العمل الصالح ، وعدهم ليستخلفهم فى الأرض ، أى : ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف أصحاب العزة والسلطان والغلبة ، بدلا من أعدائهم الكفار .
قال الآلوسى : واللام فى قوله " ليستخلفنهم " واقعة فى جواب القسم المحذوف . ومفعول وعد الثانى محذوف دل عليه الجواب . أى : وعد الله الذين آمنوا استخلافهم ، وأقسم ليستخلفنهم . . . و " ما " فى قوله " كما استخلف " مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف . وقع صفة لمصدر محذوف ، أى : ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه " الذين من قبلهم " من الأمم المؤمنة ، الذين أسكنهم الله - تعالى - فى الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين .
هذا هو الوعد الأول للمؤمنين : أن يجعلهم - سبحانه - خلفاءه فى الأرض . كما جعل عباده الصالحين من قبلهم خلفاءه ، وأورثهم أرض الكفار وديارهم .
وأما الوعد الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى - { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ } .
والتمكين : التثبيت والتوطيد والتمليك . يقال : تمكن فلان من الشىء ، إذا حازه وقدر عليه .
أى : وعد الله المؤمنين بأن يجعلهم خلفاءه فى أرضه ، وبأن يجعل دينهم وهو دين الإسلام الذى ارتضاه لهم . ثابتا فى القلوب ، راسخا فى النفوس . باسطا سلطانه على أعدائه ، له الكلمة العليا فى هذه الحياة ، ولمخالفيه الكلمة السفلى .
وأما الوعد الثالث فهو قوله - سبحانه - : " وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " .
أى : وعدهم الله - تعالى - بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم . وبأن يجعل لهم بدلا من الخوف الذى كانوا يعيشون فيه ، أمنا واطمئنانا ، وراحة فى البال ، وهدوءا فى الحال .
قال الربيع بن أنس عن أبى العالية فى هذه الآية : " كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين . يدعون إلى الله وحده . . . وهم خائفون ، فلما قدموا المدينة أمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح . فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله : " أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال صلى الله عليه وسلم لن تَغْبَرُوا - أى : لن تمكثوا - إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة " " .
وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح . . .
ولكن هذا الاستخلاف والتمكين والأمان متى يتحقق منه - سبحانه - لعباده ؟
لقد بين الله - تعالى - الطريق إلى تحققه فقال { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فهذه الجملة الكريمة يصح أن تكون مستأنفة ، أى : جوابا لسؤال تقديره متى يتحقق هذا الاستخلاف والتمكين والأمان بعد الخوف للمؤمنين ؟ فكان الجواب : يعبدوننى عبادة خالصة تامة مستكملة لكل شروطها وآدابها وأركانها ، دون أن يشركوا معى فى هذه العبادة أحدا كائنا من كان .
كما يصح أن تكون حالا من الذين آمنوا ، فيكون المعنى : وعد الله - تعالى - عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بالاستخلاف فى الأرض ، وبتمكين دينهم فيها . وبتبديل خوفهم أمنا ، فى حال عبادتهم له - سبحانه - عبادة لا يشوبها شرك أو رياء أو نقص .
وروى الإمام أحمد عن أبى بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين فى الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له فى الآخرة نصيب " . ذلك هو وعد الله - تعالى - لعباده الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، وأدوا ما أمرهم به ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، أما الذين انحرفوا عن طريق الحق . وجحدوا نعمه - سبحانه - عليهم ، فقد بين عاقبتهم فقال : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون } .
أى : ومن كفر بعد كل هذه النعم التى وعدت بها عبادى الصالحين ، واستعمل هذه النعم فى غير ما خلقت له ، فأولئك الكافرون الجاحدون هم الفاسقون عن أمرى ، الخارجون عن وعدى ، الناكبون عن صراطى .
وهكذا نرى الآية الكريمة قد جمعت أطراف الحكمة من كل جوانبها ، فقد رغبت المؤمنين فى إخلاص العبادة لله - تعالى - بأسمى ألوان الترغيب ، حيث بينت لهم أن هذه العبادة سيترتب عليها الاستخلاف والتمكين والأمان . ثم رهبت من الكفر والجحود ، وبينت أن عاقبتهما الفسوق والحرمان من نعم الله - تعالى - .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَعَدَ اللّهُ الّذِين آمَنُوا بالله ورسوله مِنْكُمْ أيها الناس ، وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وأطاعوا الله ورسوله فيما أمراه ونهياه لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ يقول : لَيُورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها . كمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول : كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل ، إذ أهلك الجبابرة بالشأم وجعلهم ملوكها وسكانها . وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يقول : وليوطئنّ لهم دينهم ، يعني ملتهم التي ارتضاها لهم فأمرهم بها . وقيل : وعد الله الذين آمنوا ، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله : لَيَسْتَخْلفنّهُمْ لأن الوعد قول يصلح فيه «أن » ، وجواب اليمين كقوله : وعدتك أن أكرمك ، ووعدتك لأكرمنك .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : كمَا اسْتَخْلَفَ فقرأته عامة القرّاء : كمَا اسْتَخْلَفَ بفتح التاء واللام ، بمعنى : كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم . وقرأ ذلك عاصم : «كمَا اسْتُخْلِفَ » بضم التاء وكسر اللام ، على مذهب ما لم يْسَمّ فاعله .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله : وَلَيُبَدّلَنّهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم : وَلَيُبْدّلنّهُمْ بتشديد الدال ، بمعنى : وليغّيرَنّ حالهم عما هي عليه من الخوف إلى الأمن ، والعرب تقول : قد بُدّل فلان : إذا غيرت حاله ولم يأت مكان غيره ، وكذلك كلّ مغير عن حاله فهو عندهم مبدّل بالتشديد . وربما قيل بالتخفيف ، وليس بالفصيح . فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره ، فذلك بالتخفيف : أَبْدلته فهو مُبْدَل . وذلك كقولهم : أُبدل هذا الثوب : أي جُعِل مكانه آخر غيره ، وقد يقال بالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت . وكان عاصم يقرؤه : «وَلَيُبْدِلَنّهُمْ » بتخفيف الدال .
والصواب من القراءة في ذلك : التشديد ، على المعنى الذي وصفت قبلُ ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه ، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن . وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف وجّه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف وجاء بحال الأمن ، فخفّف ذلك .
ومن الدليل على ما قلنا من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر ، قول أبي النجم :
*** عَزْلُ الأمِيرِ للأَمَيرِ المُبْدَلِ ***
وقوله : يَعْبُدُونَني يقول : يخضعون لي بالطاعة ويتذللون لأمري ونهيي . لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا يقول : لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها ، بل يخلصون لي العبادة فيفردونها إليّ دون كلّ ما عُبد من شيء غيري . وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدوّ في خوف شديد مما هُمْ فيه من الرّعب والخوف وما يَلْقَون بسبب ذلك من الأذى والمكروه . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحات . . . الآية ، قال : مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عَشْر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية ، قال : ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة . قال : فمكث بها هو وأصحابه خائفون ، يُصبحون في السلاح ويُمسون فيه ، فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاج فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَغْبُرُونَ إلاّ يَسِيرا حتى يَجْلِسَ الرّجُلُ مِنْكُمْ فِي المَلإ العَظيمِ مُحْتَبِيا فِيهِ لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ » . فأنزل الله هذه الآية : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ . . . إلى قوله : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ » قال : يقول : من كفر بهذه النعمة فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقُونَ وليس يعني الكفر بالله . قال : فأظهره الله على جزيرة العرب ، فآمنوا ، ثم تجَبّروا ، فغَيّر الله ما بهم . وكفروا بهذه النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم قال القاسم : قال أبو عليّ : بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه .
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ فقال أبو العالية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله . ورُوى عن حُذيفة في ذلك ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي الشعثاء ، قال : كنت جالسا مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود ، فقال حُذيفة : ذهب النفاق ، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان قال : فضحك عبد الله ، فقال : لم تقول ذلك ؟ قال : علمت ذلك ، قال : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ . . . حتى بلغ آخرها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي الشّعْثاء ، قال : قعدت إلى ابن مسعود وحُذيفة ، فقال حذيفة : ذهب النّفاق فلا نفاق ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان فقال عبد الله : تعلم ما تقول ؟ قال : فتلا هذه الآية : إنّمَا كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ . . . حتى بلغ : فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقُونَ قال : فضحك عبد الله . قال : فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أيّ شيء ضحك عبد الله ؟ قال : لا فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أيّ شيء ضحك عبد الله ؟ قال : لا أدري ، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يُعْجبه وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه ، فمن أيّ شيء ضحك ؟ لا أدري .
والذي قاله أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية ، وذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية أنه منعم به عليهم ثم قال عقيب ذلك : فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قول الله : يَعْبُدونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا قال : تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : أمنا يَعْبُدونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا قال : لا يخافون غيري .
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان { ليستخلفنهم في الأرض } ليجعلنهم خلفاء متصرفي في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم ، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو الوعد في تحقيقه منزل منزلة القسم . { كما استخلف الذين من قبلهم } يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام ببعد الجبابرة ، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسروا الألف { وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت . { وليبدلنهم من بعد خوفهم } من الأعداء ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف . { أمنا } منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب ، وفيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به وخلافه الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإجماع . وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة { يعبدونني } حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن . { لا يشركون بي شيئا } حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين . { من كفر } ومن ارتد أو كفر هذه النعمة . { بعد ذلك } بعد الوعد أو حصول الخلافة . { فأولئك هم الفاسقون } الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة العظيمة .
الأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق تردّدُهم في عاقبة أمر المسلمين ، وخشيتُهم أن لا يستقر بالمسلمين المُقام بالمدينة حتى يغزوَهم المشركون ، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبَيّ : { لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذَلّ } [ المنافقون : 8 ] ، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدّلوا دينهم ، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله : { وإن تطيعوه تهتدوا } [ النور : 54 ] ، فيكون المعنى : وإن تطيعوه تهتدوا وتُنصروا وتأمنوا . ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضُعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين عن غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سبباً لنزول هذه الآية .
قال أبو العالية : مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويُمسون في السلاح . فقال رجل : يا رسول الله أمَا يأتي علينَا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال رسول الله : « لا تَغْبُرون ( أي لا تمكثون ) إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في المَلإ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة » . ونزلت هذه الآية .
فكان اجتماع هذه المناسبات سبباً لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصراً على إبدال خوفهم أمناً كما اقتضاه أثر أبي العالية ، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عِداد الأسباب .
وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وَعْدهم بالأمن أن وَعَدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيهاً لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها . ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً إيماء إلى التهيُّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك ، وأنّ ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم { وإن تطيعوه تهتدوا } [ النور : 54 ] ، وإذا حلّ الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة ، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات .
والموصول عام لا يختص بمعيّن ، وعُمُومه عُرفي ، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة .
والخطاب في { منكم } لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد .
والتعريف في { الصالحات } للاستغراق ، أي عملوا جميع الصالحات ، وهي الأعْمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح ، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح .
فالصالحات جمع صالحة : وهي الخصلة والفَعلة ذات الصلاح ، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة . وقد تقدم في أول البقرة .
واستغراق { الصالحات } استغراق عرفي ، أي عَمِل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة ، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصَّة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه ، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم ، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يُسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها .
والاستقامة في الخُويصَّة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام ، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به .
وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } [ النحل : 90 ] وقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وقوله في سياق الذم : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] وقوله : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } [ محمّد : 22 ] . وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة ، وبين أصول المعاملات بين الناس .
فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل .
وهذه التكاليف التي جعلها الله قِواماً لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسباباً لها . وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع ، وجُعل الإيمان عمودها وشرطاً للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقاً لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته . فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح ، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع ، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها . وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجّل لهم الشر وتلوّم لهم في إنزال العقوبة . وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 105 107 ] يريد بذلك كله المسلمين . وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء وقوله : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } في سورة الحج ( 38 ) .
فلو أن قوماً غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صوراً تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسباباً وسنناً تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سنناً وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم ، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد . ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم . ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً } وقد تقدم في سورة الإسراء ( 4 ، 5 ) .
والاستخلاف : جعلهم خلفاء ، أي عن الله في تدبير شؤون عباده كما قال : { إني جاعل في الأرض خليفة } وقد تقدم في سورة البقرة ( 30 ) . والسين والتاء للتأكيد . وأصله : ليخلفنهم في الأرض .
وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطاً بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعاً بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع ، كما حكى تعالى قولَ موسى لبني إسرائيل : { وجعلكم ملوكاً } كما تقدم في سورة العقود ( 20 ) .
ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعُها ، وأن الظرفية المدلولة بحرف ( في ) ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامُها سكانه . والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى : { واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] .
وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله : { ليستخلفنهم } دون تقييد بقوله : { في الأرض } ل { ليستخلفنهم } للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم الأرض . وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام . ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم . l وهذا اسخلاف كامل ولذلك نظّر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الأشوريين والمصريين والفنيقيين واليهود زمن سليمان ، والفرس ، واليونان ، والرومان .
وعن مالك : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملاً في معنى المثنى .
وعن الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . ولعل هذا مراد مالك . وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل : يوسف ، وداود ، وسليمان ، وأنوشروان ، وأصحمة النجاشي ، ومُلكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي ، وذي القرنين ، وإسكندر المقدوني ، وبعض من ولي جمهورية اليونان .
وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافاً كاملاً كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة .
وجملة : { ليستخلفنهم } بيان لجملة : { وعد } لأنها عين الموعود به . ولما كانت جملةَ قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بياناً للأخرى .
وقرأ الجمهور : { كما استخلف } بالبناء للفاعل ، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم . وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون { الذين } نائب فاعل .
وتمكين الدين : انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه . استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبَّت المرسّخ ، وإذا كان متَّبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل . وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله : « وإن هم أبوا ( أي إلا القتال ) فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ( أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد ) ولينفذنَّ الله أمره » .
وقوله : { لهم } مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله : { دينهم } لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقاً من مفعول الفعل ، فقدم { لهم } عليه للإيماء إلى العناية بهم ، أي بكون التمكين لأجلهم ، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله : { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك } [ الشرح : 1 ، 2 ] .
وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه : { الذي ارتضى لهم } ، أي الذي اختاره ليكون دينهم ، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضاً ليكونوا أتباع هذا الدين . وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم .
وإنما قال : { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } ولم يقل : وليؤمننهم ، كما قال في سابقَيْه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذٍ إلا إلى الأمن ، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفاً ، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة . وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر .
وتنكير { أمناً } للتعظيم بقرينة كونه مبدّلاً من بعد خوفهم المعروف بالشدة . والمقصود : الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين .
وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة . وليس هذا الوعد بمقتض أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضالّ مالك الأشتر النخعي ، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرّة وغير ذلك من الحوادث وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم .
وقرأ الجمهور : { وليَبُدّلنهم } بفتح الموحدة وتشديد الدال . وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد .
وجملة : { يعبدونني } حال من ضمائر الغيبة المتقدمة ، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي . وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم ، أي وعدتُّهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك .
وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضاً بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون .
وجملة : { لا يشركون بي شيئاً } حال من ضمير الرفع في { يعبدونني } تقييداً للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره . وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفاً من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد .
وجملة : { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعاً للاتكال .
والإشارة في قوله : { بعد ذلك } إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } والمعبر عنه في أول الآيات بقوله : { وعد الله الذين آمنوا } ، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق .
وصيغة الحصر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل .
ووصف الفاسقين له رشيق الموقع ، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق .