ثم أعقب ذلك ببيان حسن عاقبة المؤمنين فقال : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا . . . } .
والمراد بالمثل هنا : الصفة العجيبة ، أى : صفة الجنة التي وعد الله إياها من اتقاه وصان نفسه عن كل مالا يرضيه ، أنها تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار ، وأنها أكلها دائم ، أى : ما يؤكل فيها لا انقطاع لأنواعه " وظلها " كذلك دائم .
قال بعضهم : وجملة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } خبر عن " مثل " باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه ، فهى من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين ، كما يقال : صفة زيد أسمر . وجملة " أكلها دائم " خبر ثان .
واسم الإِشارة في قوله : { تِلْكَ عقبى الذين اتقوا } يعود على الجنة التي أعدها الله - تعالى - للمتقين .
أى : تلك الجنة المنعوتة بما ذكر هي مآل المتقين الذين استقاموا على الطريق الحق ، وهى منتهى أمرهم .
أما مآل الكافرين ومنتهى أمرهم فهى النار ، وبئس القرار .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث في صفة الجنة فقال : وفى الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه : " قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا من مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت - أى توقفت وأحجمت ؟ فقال : " إنى رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " " .
وروى الطبرانى عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " .
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت من التوجيهات ما فيه التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، وما فيه أوضح الدلائل والبراهين وأبلغها عن وحدانية الله - تعالى - ووجوب إفراده بالعبادة ، وما فيه البشارة للمؤمنين ، والتهديد للكافرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا تِلْكَ عُقْبَىَ الّذِينَ اتّقَواْ وّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النّارُ } .
اختلف أهل العلم بكلام العرب في رافع «المثل » ، فقال بعض نحويّى الكُوفيين الرافع للمثل قوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتها الأنْهارُ في المعنى ، وقال : هو كما تقول حِلْية فلان أسْمَرُ كذا وكذا ، فليس الأسمر بمرفوع بالحلية ، إنما هو ابتداء أي هو أسمر هو كذا . قال : ولو دخل أنّ في مثل هذا كان صوابا . قال : ومثله في الكلام مثَلك أنك كذا وأنك كذا . وقوله : فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ أنّا مَنْ وجّهَ : مَثَلُ الجَنّةِ الّتِي وُعِدَ المُتّقُونَ فِيهَا ومن قال : أَنّا صَبَبْنا المَاءَ أظهر الاسم ، لأنه مردود على الطعام بالخفض ، ومستأنف ، أي : طعامه أنا صببنا ثم فعلنا . وقال : معنى قوله : مَثَلُ الجَنّةِ : صفات الجنة . وقال بعض نحويّي البصريين : معنى ذلك : صفة الجنة ، قال : ومنه قول الله تعالى : وَلَهُ المَثَلُ الأعْلَى معناه : ولله الصفة العُليا . قال : فمعنى الكلام في قوله : مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ أو فيها أنهار ، كأنه قال : وَصْف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار ، أو صفة فيها أنهار والله أعلم .
قال : ووجه آخر كأنه إذا قيل : مثل الجنة قيل : الجنة التي وعد المتقون . قال : وكذلك قوله : وَإنّهُ بسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كأنه قال : بالله الرحمن الرحيم ، والله أعلم . قال : وقوله : عَلى ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ في ذات الله ، كأنه عندنا قيل : في الله . قال : وكذلك قوله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إنما المعنى : ليس كشيء ، وليس مثله شيء ، لأنه لا مثل له . قال : وليس هذا كقولك للرجل : ليس كمثلك أحد ، لأنه يجوز أن يكون له مِثْل ، والله لا يجوز ذلك عليه . قال : ومثله قول لبيد :
*** إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُما ***
قال : وفسّر لنا أنه أراد : السلام عليكما قال أوس بن حَجَر :
وَقْتِلي كِرَامٍ كمِثْلِ الجُذُوعِ *** تَغَشّاهُمْ سَبَلٌ مُنْهَمِرْ
قال : والمعنى عندنا : كالجذوع ، لأنه لم يزد أن يجعل للجذوع مثلاً ثم يُشبه القتلى به . قال : ومثله قول أُميّة :
زُحَلٌ وثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ *** والنّسْرُ للأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
قال : فقال تحت رجل يمينه ، كأنه قال : تحت رجله أو تحت رجله اليمنى قال : وقول لبيد :
أضَلّ صِوَارَهُ وتَضَيّفَتْهُ *** نَطوفٌ أمْرُها بِيَده الشّمالِ
كأنه قال : أمرها بالشّمال وإلى الشّمال وقول لبيد أيضا :
*** حتى إذا ألْقَتْ يَدا في كافِر ***ٍ
فكأنه قال : حتى وقعت في كافر . وقال آخر منهم : هو المكفوف عن خبره ، قال : والعرب تفعل ذلك . قال : وله معنى آخر : للذينَ استجابُوا لِربّهِمُ الحُسنَى مَثَلُ الجنة موصول صفة لها على الكلام الأوّل .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال ذكر المثل ، فقال مَثَل الجنة ، والمراد الجنة ، ثم وصفت الجنة بصفتها ، وذلك أن مثلها إنما هو صفتها وليست صفتها شيئا غيرها . وإذا كان ذلك كذلك ، ثم ذكر المثل ، فقيل : مثل الجنة ، ومثلها صفتها وصفة الجنة ، فكان وصفها كوصف المثل ، وكان كأن الكلام جرى بذكر الجنة ، فقيل : الجنة تجري من تحتها الأنهار ، كما قال الشاعر :
أرَى مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كمَا أخَذَ السّرارُ مِنَ الهِلالِ
فذكر المرّ ، ورجع في الخبر إلى السنين .
وقوله : أُكُلُها دائمٌ وظِلّها يعني : ما يؤكل فيها . يقول : هو دائم لأهلها ، لا ينقطع عنهم ، ولا يزول ولا يبيد ، ولكنه ثابت إلى غير نهاية . وظلها : يقول : وظلها أيضا دائم ، لأنه لا شمس فيها . تِلكَ عُقْبَى الّذِينَ اتّقَوْا يقول : هذه الجنة التي وصف جلّ ثناؤه عاقبة الذين اتقوا الله ، فاجتنبوا معاصيه وأدّوا فرائضه .
وقوله : وَعُقْبَى الكافِرِينَ النّارُ يقول : وعاقبة الكافرين بالله النار .
{ مثل الجنة التي وُعد المتقون } صفتها التي هي مثل في الغرابة ، وهو مبتدأ خبر محذوف عند سيبويه أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقيل خبره . { تجري من تحتها الأنهار } على طريقة قولك صفة زيد أسمر ، أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، أو على زيادة المثل وهو على قول سيبويه حال من العائد أو المحذوف أو من الصلة . { أُكلها دائم } لا ينقطع ثمرها . { وظلّها } أي وظلها وكذلك لا ينسخ في الدنيا بالشمس { تلك } أي الجنة الموصوفة . { عقبى الذين اتقوا } مآلهم ومنتهى أمرهم . { وعقبى الكافرين النار } لا غير ، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين .
وقوله تعالى : { مثل الجنة } الآية ، قال قوم : { مثل } معناه ، صفة ، وهذا من قولك : مثلت الشيء ، إذا وصفته لأحد وقربت عليه فهم أمره ، وليس بضرب مثل لها ، وهو كقوله : { وله المثل الأعلى }{[6976]} [ الروم : 27 ] أي الوصف الأعلى . ويظهر أن المعنى الذي يتحصل في النفس مثالاً للجنة هو جري الأنهار وأن أكلها دائم .
وراجعه عند سيبويه فقدر قبل ، تقديره : فيما يتلى عليكم أو ينص عليكم مثل الجنة{[6977]} . وراجعه عند الفراء قوله : { تجري } أي صفة الجنة أنها { تجري من تحتها الأنهار } ونحو هذا موجود في كلام العرب ، وتأول عليه قوم : أن { مثل } مقحم وأن التقدير : { الجنة التي وعد المتقون تجري } .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا قلق{[6978]} .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود «أمثال الجنة » .
وقد تقدم غيره مرة معنى قوله : { تجري من تحتها الأنهار } وقوله : { أكلها } معناه : ما يؤكل فيها{[6979]} . و «العقبى » والعاقبة والعاقب : حال تتلو أخرى قبلها . وباقي الآية بين .
وقيل : التقدير في صدر الآية ، مثل الجنة جنة تجري - قاله الزجاج - فتكون الآية على هذا ضرب مثل لجنة النعيم في الآخرة{[6980]} .