ثم ذكرهم ، سبحانه ، بما يعرفونه من حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث نصره الله . تعالى ، على أعدائه بدون عون منهم ، وأيده بجنود لم يروها فقال ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } .
قال ابن جرير . هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه ، وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .
والمعنى : إنكم ، أيها المؤمنون ، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده ، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه . فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة ، كما نصره ، وأنتم تعلمون ذلك ، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة { ثَانِيَ اثنين } أى : أحد اثنين . والثانى : أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه .
يقال . فلان ثالث ثلاثة ، أو رابع أربعة . . أى : هو من الثلاثة أو من الأربعة .
فإن قيل : فلان رابع ثلاث أو خامس أربعة ، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته اليهم ، أو صير الأربعة خمسة .
وأسند سبحانه الإِخراج إلى المشركين مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بنفسه بإذن من الله ، تعالى ، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك ، بعد أن تآمروا على قتله .
قيل : وجواب الشرط في قوله ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } محذوف وقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } تعليل لهذا لمحذوف .
والتقدير : إلا تنصروه ينصره الله في كل حال . { فَقَدْ نَصَرَهُ } سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بدله ولم يكن معه سوى رجل واحد .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت . كيف يكون قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط ؟ .
قلت " فيه وجهان " أحدهما : إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد . ولا أقل من الواحد ، فدل بقوله . { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت .
والثانى . أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده .
وقوله : { ثَانِيَ اثنين } حال من الهاء في قوله { أَخْرَجَهُ } أى اخرجه الذين كفروا حال كونه منفرداً عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق - رضى الله عنه .
وقوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } بدل من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .
والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . والمراد به هنا : غار جبل ثور . وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام .
وقوله : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بدل ثان من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .
أى : لا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار ، ووقت أن كان - صلى الله عليه وسلم - يقول لصاحبه الصديق :
" لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته " .
وذلك أن أبا بكر وهو مع النبى - صلى الله عليه وسلم - في الغار ، أحسن بحركة المشركين من فوق الغار ، فخاف خوفا شديداً لا على حياته هو ، وإنما على حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك ، أخذ في تسكين روعة وجزعه وجعل يقول له : لا تحزن إن الله معنا .
أخرج الشيخان " عن أبى بكر قال . نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت . يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قديمه ، فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا " " .
وقوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } بيان لما أحاط الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحفظ والرعاية .
والسكينة : من السكون ، وهو ثبوت الشئ ؛ بعد التحرك . أو من السكن - بالتحريك - وهو كل ما سكنت إليه نفسك ، واطمأنت به من أهل وغيرهم .
والمراد بها هنا : الطمأنينة التي استقرت في قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار ، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه .
والمراد بالجنود المؤيدين له . الملائكة الذين أرسلهم - سبحانه - لهذا الغرض : والضمير في قوله : { عَلَيْهِ } يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم .
أى . فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم ، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه .
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله { عَلَيْهِ } يعود إلى ابى بكر الصديق ، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة . وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر ، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف .
وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } الضمير فيه لا يصح إلا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله { عَلَيْهِ } عائداً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يحصل تفكك في الكلام .
أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف ، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان ، وللدلالة على علو شأنه - صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير قوله { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أى . تأييده ونصره عليه أى .
على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أشهر القولين . وقيل . على أبى بكر .
قالوا : لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تزل معه سكينة . وهذا لا ينافى تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ، ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } أى : الملائكة .
وقوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة .
والمراد بكلمة الذين كفروا . كملة الشرك ، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهى اتفاقهم على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
والمراد بكلمة الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإِسلام ، وما يترتب على اتباع هذا لدين من نصر وحسن عاقبة ، أى : كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة ، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى ، أى . المقهورة الذليلة . وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإِسلام هي العليا أى : هي الثابتة الغالبة النافذة .
وقراءة الجمهور برفع . { كَلِمَةَ } على الابتداء . وقوله { هِيَ } مبتدأ ثان : وقوله : { العليا } خبرها ، والجملة خبر المبتدأ الأول .
ويجوز أن يكون الضمير { هِيَ } ضمير فصل ، وقوله { العليا } هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب { وَكَلِمَةُ الله } بالنصر عطفاً على مفعول جعل وهو { كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ } .
أى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وجعل كلمة الله هي العليا .
قالوا : وقراءة الرفع أبلغ وأوجه ، لأن الجملة الأسمية تدل . على الدوام والثبوت ، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهى قوله : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } لأنها في ذاتها عالية ثابتة ، بدون جعلها كذلك في حالة معينة . بخلاف علو غيرها فهو ذاتى ، وإنما هو علو مؤقت في حال معينة ، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أى : والله - تعالى - { عَزِيزٌ } لا يغلبه غالب ، ولا يقهر قاهر ، ولا ينصر من عاقبه ناصر ، { وَحَكِيمٌ } في تصريفه شأن خلقه ، لا قصور في تدبيره ، ولا نقص في أفعاله .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : الدلالة على فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - وعلى علو منزلته ، وقوة إيمانه ، وشدة إخلاصه لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ومما يشهد لذلك ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أذن الله له بالهجرة ، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة .
ولقد أظهر الصديق - رضى الله عنه - خلال مصاحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثير من ألوان الوفاء والإِخلاص وصدق العقيدة .
قال الآلوسى ما ملخصه : واستدل بالآية على فضل أبى بكر . . فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا كبر . . فعن الحسن قال : عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } الآية .
ولأن فيها النص على صحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة : لأنه هو المراد بالصاحب في قوله { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } وهذا مما وقع عليه الإِجماع .
ومن هنا قالوا : من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر ، لإِنكار كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .
وقد ساق الإِمام الرازى ، والشيخ رشيد رضا ، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجهاً في فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، فارجع إليهما إن شئت .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
وهذا إعلام من الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة ، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلّة ؟ يقول لهم جلّ ثناؤه : إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه ، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا بالله من قريش من وطنه وداره ثانِيَ اثْنَيْنِ يقول : أخرجوه وهو أحد الاثنين : أي واحد من الاثنين ، وكذلك تقول العرب : «هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ » يعني أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، ورابع أربعة ، يعني : أحد ثلاثة ، وأحد الأربعة ، وذلك خلاف قولهم : هو أخو ستة وغلام سبعة ، لأن الأخ والغلام غير الستة والسبعة ، وثالث الثلاثة : أحد الثلاثة . وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله : ثانِيَ اثْنَيْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، رضي الله عنه ، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش ، إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار . وقوله : إذْ هُما فِي الغارِ يقول إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يقول : إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر : لا تَحْزَنْ وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما ، فجزع من ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاَ تَحْزَنْ لأنّ اللّهَ مَعَنا ، واللّهُ ناصِرُنا ، فَلَنِ يَعْلَمَ المُشْرِكُونَ بِنا ، وَلَنْ يَصِلُوا إلَيْنَا يقول جلّ ثناؤه : فقد نصره الله على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد ، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله أنصاره وعدد جنوده ؟ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ تَنْصُرُوهُ ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعثه يقول الله : فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ قال : ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعث ، فالله فاعل به كذلك ناصره كما نصره إذا ذاك ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغارِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ . . . الآية ، قال : فكان صاحبه أبو بكر . وأما الغار : فجبل بمكة يقال له ثور .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله ، فأرسل أبو بكر عامر بن فُهيرة في الغنم إلى ثور ، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في قور ، وهو الغار الذي سماه الله في القرآن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي ، قال : حدثنا عفان وحبان ، قالا : حدثنا همام ، عن ثابت عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه حدثهم ، قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، وأقدام المشركين فوق رُءُوسِنَا ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا فقال : «يا أبا بَكْرٍ ما ظَنّكَ باثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثَهُما » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : إذْ هُما فِي الغارِ قال : في الجبل الذي يسمى ثورا ، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال : أيكم يقرأ سورة التوبة ؟ قال رجل : أنا ، قال : اقرأ فلما بلغ : إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ بكى أبو بكر وقال : أنا والله صاحبه .
القول في تأويل قوله تعالى : فأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَة الّذِينَ كَفَروُا السّفْلَى وكلمةٌ اللّهِ هِيَ العُلْيا واللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل : على أبي بكر وأيّدهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا يقول : وقوّاه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم . وَجَعَلَ كِلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا وهي كلمة الشرك السّفْلَى لأنها قُهرت وأذّلت وأبطلها الله تعالى ومحق أهلها ، وكلّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى . وكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العْلْيَا يقول : ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله ، وهي كلمته العليا على الشرك وأهله ، الغاليةُ . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وهي : الشرك بالله . وكَلِمَةُ اللّهُ هِيَ العُلْيا وهي لا إله إلا الله .
وقوله : وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العُليا خبر مبتدأ غير مردود على قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى لأن ذلك لو كان معطوفا على الكلمة الأولى لكان نصبا .
وأما قوله : واللّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ فإنه يعني : والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر به ، لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ولا ينصره من عاقبه ناصر ، حكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته .
{ إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره . { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج . وقرئ { ثاني اثنين } بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال . { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا . { إذ يقول } بدل ثان أو ظرف لثاني . { لصاحبه } وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه { لا تحزن إن الله معنا } بالعصمة والمعونة . روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ) . وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه . { فأنزل الله سكينته } أمنته التي تسكن عندها القلوب . { عليه } على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا . { وأيّده بجنود لم تروها } يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله { نصره الله } . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك أو دعوة الكفر . { وكلمة الله هي العليا } يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر . وقرأ يعقوب { وكلمة الله } بالنصب عطفا على كلمة { الذين } ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن { كلمة الله } عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل . { والله عزيز حكيم } في أمره وتدبيره .
هذا أيضاً شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله { فقد } وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله { إذ أخرجه الذين كفروا } يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد ، لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة » ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهو إلى الغار ، فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماماً{[5655]} في باب الغار فتخيله المشركون نابتاً وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار«راءة » أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل .
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدَّ به كواء{[5656]} الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله { ثاني اثنين } معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثانيَ اثنين » بنصب الياء من «ثاني » .
قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين » بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف .
قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا{[5657]} وكقوله جرير : [ البسيط ]
هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ*** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف{[5658]}
و «صاحبه » أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوماً وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : { إلا تنصروه } .
قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : { إن الله معنا } يريد به النصر والإنجاء واللطف{[5659]} ، وقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في { عليه } عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة » عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم{[5660]} ، كقوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم }{[5661]} ويحتمل أن يكون قوله { فأنزل الله سكينته } إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود » الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود » ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما » ، وقرأ مجاهد «وأأيده » بألفين ، والجمهور «وأيّده » بشد الياء ، وقوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، { وكلمة الله هي العليا } قيل : يريد لا إله الا الله ، وقيل :الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمةُ » بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمةَ » بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا » .