وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال - تعالى - : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } .
التزيين : جعل الشيء زينا أي ، شديد الحسن . والحياة نائب فاعل ، زين ، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازي التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل .
والمعنى ، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم ، أما الآخرة فلم يفكروا فيها ، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها .
قال القرطبي : والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضاً للشيطان بوسوسته وإغوائه وخص الين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها . وقد جعل الله ما على الأرض زينة لهاليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها " .
وقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين } معطوف على جملة { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ . . . } .
أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون وتكون الواو للحال .
ويسخرون : يضحكون ويهزأون . يقال . سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به .
أي أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم في متع الحياة ، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها ، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم ، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا .
وجيء بقوله : { زُيِّنَ } ماضيا للدالة على أنه قد وقع وفرغ منه . وجيء بقوله { وَيَسْخَرُونَ } مضارعاً للدالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . . . } وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية رويات منها : أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وحزبه ، كانوا يتنعمون في الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم . ومنها . أنها نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخاببا وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء . والحق أنه لا مانع من نزولها في شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين .
وقوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } رد منه - سبحانه - على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين ، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها .
أي ، والذين اتقوا الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة ، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين ، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلأى النار وبئس القرار .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال { مِنَ الذين آمَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } ؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .
وقيدت الفوقية بيوم القيامة للننصيص على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية ، ولإِدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا .
وقوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تذييل قصد به تشريف المؤمنين ، وبيان عظم ثوابهم .
أي : والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق . أو بلا حصر وعد لما يعطيه . أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها . فهو - سبحانه - الذي يعطي ويمنع ، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عن المعطي فقد يعطي الكافر وهو غير راض عنه ، أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه .
قال الأستاذ الإِمام : إن الرزق بلا حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد ، فإنك ترى كثيراً من الأبرار وكثيراً من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق ، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين ، والمتقى يكون دائماً أسعد حالاً وأكثر احتمالا ، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلمه الفاجر لأنه يجد في التقوى مخرجاً من كل ضيق . . . وأما الأمم فأمرها على غير هذا ، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه . . وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهي لا تعمل ، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها . . " .
{ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ اتّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعني جل ثناؤه بذلك : زين للذين كفروا حب الحياة الدنيا العاجلة اللذات ، فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة ، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة ، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد ، والإقرار بما جئت به من عندي تعظما منهم على من صدقك واتبعك ، ويسخرون بمن تبعك من أهل الإيمان ، والتصديق بك ، في تركهم المكاثرة ، والمفاخرة بالدنيا وزينتها من الرياش والأموال ، بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها ، والذين عملوا لي وأقبلوا على طاعتي ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها ، اتباعا لك ، وطلبا لما عندي ، واتقاء منهم بأداء فرائضي ، وتجنب معاصيّ فوق الذين كفروا يوم القيامة بإدخال المتقين الجنة ، وإدخال الذين كفروا النار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا الحياةُ الدّنْيا قال : الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها ، ويسخرون من الذين آمنوا في طلبهم الاَخرة . قال ابن جريج : لا أحسبه إلا عن عكرمة ، قال : قالوا : لو كان محمد نبيا كما يقول ، لاتبعه أشرافنا وساداتنا ، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَالّذِينَ اتّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ قال : فوقهم في الجنة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .
ويعني بذلك : والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه ، بغير محاسبة منه لهم على منّ به عليهم من كرامته .
فإن قال لنا قائل : وما في قوله : يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابِ من المدح ؟ قيل : المعنى الذي فيه من المدح الخبر عن أنه غير خائف نفاد خزائنه ، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها ، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قدر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به ، فربنا تبارك وتعالى غير خائف نفاد خزائنه ، ولا انتقاص شيء من ملكه بعطائه ما يعطي عباده ، فيحتاج إلى حساب ما يعطي ، وإحصاء ما يُبِقي فذلك المعنى الذي في قوله : وَاللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.