التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ} (50)

ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، حيث أوجد عيسى من غير أب وجعل أمه مريم تلده من غير أن يمسها بشر . فقال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً . . . } .

أى : وجعلنا نبينا عيسى - عليه السلام - ، كما جعلنا أمه مريم ، آية واضحة وحجة عظيمة ، فى الدلالة على قدرتنا النافذة التى لا يعجزها شىء .

قال أبو حيان : " قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } أى : جعلنا قصتهما ، وهى آية عظمى بمجموعها ، وهى آيات مع التفصيل ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول " آية " لدلالة الثانى ، أى : وجعلنا ابن مريم آية ، وأمة آية " .

وقوله - تعالى - { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } بيان لجانب مما أنعم به سبحانه - على عيسى وأمه .

والربوة : المكان المرتفع من الأرض . واصلها من قولهم : ربا الشىء يربو ، إذا ازداد وارتفع ، ومنه الربا لأنه زيادة أخذت على أصل المال .

ومعين ؛ اسم مفعول من عانه إذا أدركه وأبصره بعينه ، فالميم زائدة ، وأصله معيون كمبيوع ثم دخله الإعلال . والكلام على حذف مضاف . أى : وماء معين .

أى : ومن مظاهر رعايتنا وإحساننا إلى عيسى وأمه أننا آويناهما وأسكناهما ، وأنزلناهما فى جهة مرتفعة من الأرض ، وهذه الجهة ذات قرار ، أى : ذات استقرار لاستوائها وصلاحيتها للسكن لما فيها من الزروع والثمار ، وهى فى الوقت ذاته ينساب الماء الظاهر للعيون فى ربوعها .

قالوا : والمراد بهذه الربوة : بيت المقدس بفلسطين ، أو دمشق ، أو مصر .

والمقصود من الآية الكريمة : الإشارة إلى إيواء الله - تعالى - لهما ، فى مكان طيب ، ينضر فيه الزرع ، وتطيب فيه الثمار ، ويسيل فيه الماء ويجدان خلال عيشهما به الأمان والراحة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَجَعَلۡنَا ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةٗ وَءَاوَيۡنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبۡوَةٖ ذَاتِ قَرَارٖ وَمَعِينٖ} (50)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } .

يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى التوراة ، ليهتدي بها قومه من بني إسرائيل ، ويعلموا بما فيها . وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ يقول : وجعلنا ابن مريم وأمه حجة لنا على من كان بينهم ، وعلى قدرتنا على إنشاء الأجسام من غير أصل ، كما أنشأنا خلق عيسى من غير أب . كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَجَعَلْنا ابْنَع مَرْيَمَ وأُمّهُ قال : ولدته من غير أب هو له .

ولذلك وُحّدت الاَية ، وقد ذكر مريم وابنها .

وقوله وآوَيْناهما إلى رَبْوَةٍ يقول : وضممناهما وصيرناهما إلى ربوة ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا ، فهو يأوِي إليه . إذا صار إليه وعلى مثال «أفعلته » فهو يُؤْويه . وقوله إلى رَبْوَة يعني : إلى مكان مرتفع من الأرض على ما حوله ولذلك قيل للرجل يكون في رفعة من قومه وعزّ وشرف وعدد : هو في ربوة من قومه ، وفيها لغتان : ضمّ الراء وكسرها إذا أريد بها الاسم ، وإذا أريد بها الفعلة من المصدر قيل رَبَا رَبْوة .

واختلف أهل التأويل في المكان الذي وصفه الله بهذه الصفة وآوَى إليه مريم وابنها ، فقال بعضهم : هو الرّملة من فلسطين . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا بشر بن رافع ، قال : ثني ابن عمّ لأبي هريرة ، يقال له أبو عبد الله ، قال : قال لنا أبو هريرة : الزموا هذه الرملة من فلسطين ، فإنها الربوة التي قال الله : وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ .

حدثني عصام بن رَوّاد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عباد أبو عتبة الخوّاص ، قال : حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني ، عن ابن وَعْلة ، عن كريب ، قال : ما أدري ما حدثنا مُرّة النَبْهزيّ ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذكر أن الربوة هي الرملة » .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن بشر بن رافع ، عن أبي عبد الله بن عمّ أبي هريرة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول في قول الله : إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال : هي الرملة من فلسطين .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا بشر بن رافع ، قال : حدثنا أبو عبد الله ابن عمّ ، أبي هريرة ، قال : قال لنا أبو هريرة : الزموا هذه الرملة التي بفلسطين ، فإنها الربوة التي قال الله : وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ .

وقال آخرون : هي دمشق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال في هذه الاَية : وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال : زعموا أنها دمشق .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : بلغني ، عن ابن المسيب أنه قال دمشق .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا ابن بكير ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : ثني عبد الله بن لهيعة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ قال : إلى ربوة من رُبا مصر . قال : وليس الرّبَا إلاّ في مصر ، والماء حين يُرسَل تكون الربَا عليها القرى ، لولا الربَا لغرقت تلك القرى .

وقال آخرون : هي بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : هو بيت المقدس .

قال : ثنامحمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة قال : كان كعب يقول : بيت المقدس أقرب إلى السماء بثمانيةَ عَشَر ميلاً .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن كعب ، مثله .

وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك : أنها مكان مرتفع ذو استواء وماء ظاهر وليس كذلك صفة الرملة ، لأن الرملة لا ماء بها مُعِين ، والله تعالى ذكره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومَعِين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ قال : الربوة : المستوية .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلى رَبْوَةٍ قال : مستوية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

وقوله : ذَات قَرَارٍ وَمَعِينٍ يقول تعالى ذكره : من صفة الربوة التي آوينا إليها مريم وابنها عيسى ، أنها أرض منبسطة وساحة وذات ماء ظاهر لغير الباطن جارٍ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَمَعِينٍ قال : المَعِين : الماء الجاري ، وهو النهر الذي قال الله : قَدْ جَعَلَ رَبّكَ تَحْتَكِ سَرِيّا .

حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، في قوله : ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعينٍ قال : المَعِين : الماء .

حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مَعِين ، قال : ماء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصّلْت ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، في قوله : ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعينٍ قال : المكان المستوى ، والمَعِين : الماء الظاهر .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمَعِينٍ : هو الماء الظاهر .

وقال آخرون : عُني بالقرار الثمار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ هي ذات ثمار ، وهي بيت المقدس .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله قَتادة في معنى : ذَاتِ قَرَارٍ وإن لم يكن أراد بقوله : إنها إنما وصفت بأنها ذات قرار ، لما فيها من الثمار ، ومن أجل ذلك يستقرّ فيها ساكنوها ، فلا وجه له نعرفه . وأما مَعِينٍ فإنه مفعول من عِنْته فأنا أعينه ، وهو معين وقد يجوز أن يكون فعيلاً من مَعَن يمعن ، فهو معين من الماعون ومنه قول عَبيد بن الأبرص :

وَاهِيَةٌ أوْ مَعِينٌ مُمْعِنٌ *** أوْ هَضْبَةٌ دُونَها لُهُوبُ