ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك دليلا آخر على صحة البعث والنشور ، وعلى كمال قدرته - تعالى - فقال : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أى : خلقكم ابتداء فى ضمن خلق أبيكم آدم من تراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وأصلها الماء الصافى أو الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها : نطف ونطاف . يقال : نطفت القربة إذا قطرت .
والمراد بها هنا : المنى الذى هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة .
{ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أى : أصنافا ذكرانا وإناثا ، كما قال - تعالى - : { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } أو المراد : ثم جعلكم تتزاوجون ، فالرجل يتزوج المرأة ، والمرأة تتزوج الرجل . { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أى : لا يحصل من الأنثى حمل ، كما لا يحصل منها وضع لما فى بطنها ، إلا والله - تعالى - عالم به علما تاما لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ .
{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } والمراد بالمعمر الشخص الذى يطيل الله - تعالى - عمره .
والضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى شخص آخر ، فيكون المعنى : ما يمد - سبحانه - فى عمر أحد من الناس ، ولا ينقص من عمر أحد آخر ، إلا وكل ذلك كائن وثابت فى كتاب عنده - تعالى - وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ ، أو صحائف أعمال العباد أو علم الله الأزلى .
ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى الشخص ذاته وهو المعمر فيكون المعنى : وما يمد الله - تعالى - فى عمر إنسان ، ولا ينقص من عمره بمضى أيام حياته ، إلا وكل ذلك ثابت فى علمه - سبحانه - .
قال بعض العلماء : وقد أطال بعضهم الكلام فى ذلك ومحصله : أنه اختلف فى معنى { مُّعَمَّرٍ } فقيل : هو المزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله ولا ينقص ، وقيل : المراد بقوله { مُّعَمَّرٍ } من يجعل له عمر . وهل هو شخص واحد أو شخصان ؟
فعلى رأى من قال بان المعمر ، هو من يجعل له عمر يكون شخصا واحدا بمعنى انه يكتب عمره مائة سنة - مثلا - ، ثم يكتب تحته مضى يوم ، مضى يومان ، وهكذا فكتابة الأصل هى التعمير . . والكتابة بعد ذلك هو النقص كما قيل :
حياتك أنفاس تُعَدّ فكلما . . . مضى نفس منها انتقصَت به جزءا
والضمير حينئذ راجع إلى المذكور . والمعمر على هذا هو الذى جعل الله - تعالى - له عمرا طال هذا العمر أو قصر .
وعلى رأى من قال بأن المعمر هو من يزاد فى عمره ، يكون من ينقص فى عمره غير الذى يزاد فى عمره فهما شخصان . والضمير فى " عمره " على هذا الرأى يعود إلى شخص آخر ، إذ لا يكون المزيد فى عمره منقوصا من عمره . .
وقد رجح ابن جرير - رحمه - الله الرأى الأول وهو أن الضمير فى قوله { مِنْ عُمُرِهِ } يعود إلى شخص آخر - فقال : وأولى التأويلين فى ذلك عندى بالصواب ، التأويل الأول ، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر التنزيل .
واسم الإِشارة فى قوله { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } يعود إلى الخلق من تراب وما بعده .
أى : إن ذلك الذى ذكرناه لكم من خلقكم من تراب ، ثم من نطفة . . يسيروهن على الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ على الإِطلاق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمّرُ مِن مّعَمّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : وَاللّهُ خَلَقَكُمْ أيها الناس مِنْ تُرابٍ يعني بذلك أنه خلق أباهم آدم من تراب ، فجعل خلق أبيهم منه لهم خلقا ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يقول : ثم خلقكم من نطفة الرجل والمرأة ثُمّ جَعَلَكُمْ أزْوَاجا يعني أنه زوّج منهم الأنثى من الذكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذرّيته ثُمّ جَعَلَكُمْ أزْوَاجا فزوّج بعضكم بعضا .
وقوله : وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بعِلْمِهِ يقول تعالى ذكره : وما تحمل من أنثى منكم أيها الناس من حمل ولا نطفة إلاّ وهو عالم بحملها إياه ووضعها ، وما هو ؟ ذكر أو أنثى ؟ لا يخفى عليه شيء من ذلك .
وقوله : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وما يعمر من معمر فيطول عمره ، ولا ينقص من عمر آخر غيره عن عمر هذا الذي عمّر عمرا طويلاً إلاّ فِي كِتابٍ عنده مكتوب قبل أن تحمل به أمه ، وقبل أن تضعه ، قد أحصى ذلك كله وعلمه قبل أن يخلقه ، لا يُزاد فيما كتب له ولا ينقص . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ . . . إلى يَسِيرٌ يقول : ليس أحد قضيت له طول العمر والحياة إلاّ وهو بالِغ ما قدّرت له من العمر ، وقد قضيت ذلك له ، وإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له ، لا يزاد عليه وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له لا يزاد عليه ، فذلك قوله : وَلا يُنْقَصُ مِنْ عمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ يقول : كلّ ذلك في كتاب عنده .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : من قضيت له أن يعمر حتى يُدركه الكبر ، أو يعمر أنقص من ذلك ، فكلّ بالغ أجله الذي قد قضى له ، كلّ ذلك في كتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ قال : ألا ترى الناس : الإنسانُ يعيش مئة سنة ، وآخرُ يموت حين يولد ؟ فهذا هذا .
فالهاء التي في قوله وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ على هذا التأويل وإن كانت في الظاهر أنها كناية عن اسم المْعَمّر الأوّل ، فهي كناية اسم آخر غيره ، وإنما حسُن ذلك لأن صاحبها لو أظهر لظهر بلفظ الأوّل ، وذلك كقولهم : عندي ثوب ونصفه ، والمعنى : ونصف الاَخر .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يُعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره بفناء ما فني من أيام حياته ، فذلك هو نقصان عمره . والهاء على هذا التأويل للمُعَمّر الأوّل ، لأن معنى الكلام : ما يطوّل عمر أحد ، ولا يذهب من عمره شيء ، فيُنْقَص إلاّ وهو في كتاب عند الله مكتوب قد أحصاه وعلمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الاَية : وَما يُعَمّرُ مِنْ مُعَمّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلاّ فِي كِتابٍ قال : ما يقضي كم أيامه التي عددت له إلاّ في كتاب .
وأولى التأويلين في ذلك عندي الصواب ، التأويل الأوّل وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر التنزيل .
وقوله : إنّ ذلكَ على اللّهِ يَسيرٌ : يقول تعالى ذكره : إن إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل ، طويلُ ذلك وقصيره ، لا يتعذّر عليه شيء منه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.