ثم بين - سبحانه - الحكمة من إنزال هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما بين أنواعا من الأدلة عن كمال قدرته ، ووجوب إفراده بالعبادة والخضوع . ووجوب التحاكم إلى شريعته عند الاختلاف والتنازع . فقال - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
والكاف فى قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً . . } فى محل نصب على المصدرية ، واسم الإِشارة يعود إلى مصدر { أَوْحَيْنَآ } .
أى : ومثل ذلك الإِيحاء البديع الواضح ، أوحينا إليك - أيها الرسول الكريم - قرآنا عربيا ، لا لبس فيه ولا غموض .
وقوله - سبحانه - { لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا } تعليل لهذا الإِحياء . والمراد بأم القرى : أهلها .
وسميت مكة بأم القرى ، لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها ، كما يتبع الفرع الأصل ، أى : أوحينا إليك هذا القرآن لتنذر به أهل أم القرى ، ولتنذر به - أيضا - من حولها من أهل القرى الأخرى .
وخص أهل أم القرى ومن حولها بالذكر فى الإِنذار ، لأنهم أقرب الناس - إليه صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - فى آية أخرى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } وليس معنى هذا التخصيص أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - كانت إليهم وحدهم ، لأن هناك آيات أخرى كثيرة قد صرحت بأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى الناس كافة ، ومن هذه الآيات : وقوله - تعالى - : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وقوله - سبحانه - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله - عز وجل - : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } .
فهذه الآيات وغيرها تنطق وتشهد بأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - كانت للناس جميعا ، بل للإِنس وللجن ، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } وجملة { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ } معطوفة على ما قبلها . والمراد بيوم الجمع : يوم القيامة ، لأنه اليوم الذى يجتمع يه الأولون والآخرون بين يدى الله - تعالى - للحساب والجزاء ، والثواب والعقاب .
أى : أوحينا إليك هذا القرآن لتنذر به أهل مكة ومن حلوها ، وتنذر الناس جميعا وتخوفهم من أهوال يوم القيامة ، الذى يجتمع فيه الخلائق للحساب .
وقوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } كلام معترض لتقرير ما قبله وتأكيده ، أو صلة ليوم الجمع .
وقوله : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الإِنذار .
أى : بعد هذا الإِنذار الذى أنذرته للناس - أيها الرسول الكريم - هناك فريق آمن بك وصدقك فكان مصيره إلى الجنة ، وهناك فريق أعرض عنك وكذبك ، فكان مصيره إلى النار .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ
يقول تعالى ذكره : وهكذا أوْحَيْنا إلَيْكَ يا محمد قُرْآنا عَرَبِيّا بلسان العرب ، لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب ، فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم ، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره ، لأنا لا نرسل رسولاً إلا بلسان قومه ، ليبين لهم لِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وهي مكة وَمَنْ حَوْلَهَا يقول : ومن حول أمّ القرى من سائر الناس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : لِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى قال : مكة .
وقوله : وَتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ يقول عزّ وجلّ : وتنذر عقاب الله في يوم الجمع عباده لموقف الحساب والعرض . وقيل : وتنذر يوم الجمع ، والمعنى : وتنذرهم يوم الجمع ، كما قيل : يخوّف أولياءه ، والمعنى : يخوّفكم أولياءه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ قال : يوم القِيامَةِ .
وقوله : لا رَيْبَ فِيهِ يقول : لا شكّ فيه .
وقوله : فَرِيقٌ فِي الجَنّة وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ يقول : منهم فريق في الجنة ، وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله صلى الله عليه وسلم وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ يقول : ومنهم فريق في الموقدة من نار الله المسعورة على أهلها ، وهم الذين كفروا بالله ، وخالفوا ما جاءهم به رسوله . وقد :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي قبيل المعافريّ ، عن شفيّ الأصبحيّ ، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان ، فقال : «هَلْ تَدْرُونَ ما هَذَا ؟ » فقلنا : لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله ، قال : «هَذَا كِتابٌ مِنْ رَبّ العالَمِينَ ، فِيهِ أسْماءُ أهْلِ الجَنّةِ ، وأسماءُ آبائِهِمْ وَقَبَائِلِهمْ » ، ثُمّ أُجْمِلَ ، على آخِرِهِم ، «فَلا يُزادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَداً ، وَهَذَا كِتابُ أهْلِ النّارِ بِأسمْائِهِمْ وأسْماءِ آبائِهِمْ » ، ثُمّ أُجْمِلَ على آخِرِهِم ، «فَلا يُزَادُ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَداً » ، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ففيم إذن نعمل إن كان هذا أمر قد فُرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَلْ سَدّدُوا وَقارِبُوا ، فإنّ صَاحِبَ الجَنّةِ يُخْتمُ لَهُ بعَمَلِ الجَنّةِ وَإنْ عَمِلَ أيّ عَمَلٍ ، وَصَاحِبُ النّارِ يُخْتَمُ لَه بعَمَلِ النّارِ وَإنْ عَمِلَ أيّ عَمَلٍ ، فَرَغَ رَبّكُمْ مِنَ العِبادِ » ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما : «فَرَغ رَبّكُمْ مِنَ الخَلْقِ ، فَرِيقٌ فِي الجَنّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ » قالوا : سبحان الله ، فلم نعمل وننصب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العَمَلُ إلى خَوَاتِمِهِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث وحيوة بن شريح ، عن يحيى بن أبي أسيد ، أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : إن الله تعالى ذكره لما خلق آدم نفضه نفض المزود ، فأخرج منه كلّ ذرية ، فخرج أمثال النغف ، فقبضهم قبضتين ، ثم قال : شقي وسعيد ، ثم ألقاهما ، ثم قبضهما فقال : فَرِيقٌ فِي الجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ .
قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، عن أبي شُبّويه ، حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى قال : يا ربّ خلقك الذين خلقتهم ، جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير ، لوما أدخلتهم كلهم الجنة قال : يا موسى ارفع زرعك ، فرفع ، قال : قد رفعت ، قال : ارفع ، فرفع ، فلم يترك شيئاً ، قال : يا ربّ قد رفعت ، قال : ارفع ، قال : قد رفعت إلا ما لا خير فيه ، قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه . وقيل : فَرِيقٌ فِي الجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ فرفع ، وقد تقدّم الكلام قبل ذلك بقوله : لِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا بالنصب ، لأنه أريد به الابتداء ، كما يقال : رأيت العسكر مقتول أو منهزم ، بمعنى : منهم مقتول ، ومنهم منهزم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.