{ فَاطِرُ السماوات والأرض } أى هو خالقهما وموجدهما على غير مثال سابق ، من فطر الشئ إذا ابتدعه واخترعه دون أن يُسبَق إلى ذلك .
{ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أى : جعل لكم - سبحانه - بقدرته من جنس انفسكم أزواجا ، أى : نساء تجمع بينكم وبينهن المودة والرحمة ، كما قال - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وقوله - سبحانه - : { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } معطوف على ما قبله . أى : كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، خلق - أيضا - للأنعام من جنسها إناثا ، ليحصل التوالد والتناسل والتعمير لهذا الكون .
وقوله - تعالى - { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } بيان للحكمة من هذا الجعل والخلق للأزواج .
والذرء : التكاثر والبث . يقال : ذرأ فلان الشئ ، إذا بثه وكثره .
والضمير المنصوب فى قوله { يَذْرَؤُكُمْ } يعود إلى المخاطبين وإلى الأنعام ، على سبيل التغليب للعقلاء على غيرهم .
والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى التزاوج بين الذكور والإِناث المفهوم من قوله - تعالى - : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } .
أى : يكثركم وينميكم بسبب هذا التزاوج الذى يحصل بين ذكوركم وإناثكم حيث يتناسل - أحيانا - بين الذكر الواحد والأنثى الواحدة ، عدد كبير من الأولاد .
وقال - سبحانه - { يَذْرَؤُكُمْ فِيه } ولم يقل يذرؤكم به أى : بسببه ، للأشعار بان هذا التزواج قد صار مثل المنبع والأصل للبث والتكثير .
قال - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
قال بعض العلماء : فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور فى قوله { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } مع أنه على ما ذكرتم ، يعود إلى الذكور والإِناث من الآدميين والأنعام ؟ .
فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن . رجوع الضمير بصيغة الإِفراد إلى المثنى أو الجمع باعتبار ما ذكر .
ومنه قوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } أى : يأتيكم بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم .
ثم نزه - سبحانه - ذاته عن الشبيه أو النظير . . فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
أى : مثله شئ - تعالى - : لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ، فالكاف مزيدة فى خبر { لَيْسَ } و { شَيْءٌ } اسمها . أى : ليس شئ مثله .
أو أن الكاف أصلية . فيكون المعنى : ليس مثله - تعالى - أحد لا فى الذات ولا فى الصفات ولا فى الأفعال .
وذلك كقول العرب : مثلك لا يبخل ، يعنون : أنت لا تبخل على سبيل الكتابة ، قصدا إلى المبالغة فى نفى البخل عن المخاطب بنفيه عن مثله ، فيثبت انتفاؤه عنه بدليله .
والمقصود من الجملة الكريمة على كل تفسير : تنزيهه - تعالى - عن مشابهة خلقه فى الذات أو الصفات أو الأفعال .
قال صاحب الكشاف : قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة فى ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده ، وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه .
ونظيره قولك للعربى : العرب لا تحفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر . .
وقوله - تعالى - : { وَهُوَ السميع البصير } أى : وهو - سبحانه - السمي لكل أقوال خلقه ، البصير بما يسرونه وما يعلنونه من أفعال .
فَاطِرُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
يقول تعالى ذكره : فَاطِرُ السّمَواتِ وَالأَرْضِ ، خالق السموات السبع والأرض . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فاطِرُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : خالق .
وقوله : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً يقول تعالى ذكره : زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً . وإنما قال جلّ ثناؤه : مِنْ أنْفُسِكُمْ لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم ، فهو من الرجال . وَمِنَ الأنْعامِ أزْوَاجاً يقول جلّ ثناؤه : وجعل لكم من الأنعام أزواجاً من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ذكوراً وإناثاً ، ومن كل جنس من ذلك يَذْرَؤُكُم فِيهِ : يقول : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يخلقكم فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : نسل بعد نسل من الناس والأنعام .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : يَذْرَؤُكُمْ قال : يخلقكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، أنه قال في هذه الاَية : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : يخلقكم .
وقال آخرون : بل معناه : يعيشكم فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً وَمِنَ الأنْعام أزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يقول : يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : يعيشكم فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ قال : عيش من الله يعيشكم فيه .
وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد ، وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه ، أراد بقوله ذلك : يحييكم بعيشكم به كما يحيى من لم يخلق بتكوينه إياه ، ونفخه الروح فيه حتى يعيش حياً . وقد بيّنت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته .
وقوله : لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : ليس هو كشيء ، وأدخل المثل في الكلام توكيداً للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف ، وهما بمعنى واحد ، كما قيل :
*** ما إنْ نَدِيتُ بشَيْءٍ أنْتَ تَكْرَهُهُ ***
فأدخل على «ما » وهي حرف جحد «إن » وهي أيضاً حرف جحد ، لاختلاف اللفظ بهما ، وإن اتفق معناهما توكيداً للكلام ، وكما قال أوس بن حَجَر :
وَقَتْلَى كمِثْلِ جُذوعِ نّخيلْ *** تَغَشّاهُمْ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
ومعنى ذلك : كجذوع النخيل ، وكما قال الاَخر :
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ *** ما إنْ كمِثْلِهِمِ فِي النّاسِ مِنَ أحَدِ
والاَخر : أن يكون معناه : ليس مثل شيء ، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام ، كقول الراجز :
*** وَصَالِياتِ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ ***
فأدخل على الكاف كافاً توكيداً للتشبيه ، وكما قال الاَخر :
تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطّرِيقِ *** قَلّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ
فأدخل الكاف مع «عن » ، وقد بيّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح ، فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع . وقوله : وَهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول جلّ ثناؤه واصفاً نفسه بما هو به ، وهو يعني نفسه : السميع لما تنطق به من خلقه قول ، البصير لأعمالهم ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا يعزب عنه علم شيء منه ، وهو محيط بجميعه ، محصٍ صغيره وكبيره لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ من خير أو شرّ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.