ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان ابتلائه للناس فقال : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } المراد بالسيئة ما يسوء ويحزن كالشدائد والأمراض . وبالحسنة السعة والصحة وأنواع الخيرات .
أى : ثم بعد ان ابتلينا هؤلاء الغافلين بالبأساء والضراء رفعنا ذلك عنهم ، وابتليناهم بضده ، بأن أعطيناهم بدل المصائب نعما ، فإذا الرخاء ينزل بهم مكان الشدة ، واليسر مكان الحرج ، والعافية بدل الضر ، والذرية بدل العقم . والكثرة بدل القلة ، والأمن محل الخوف .
قال الآلوسى : وقوله : { ثُمَّ بَدَّلْنَا } معطوف على { أَخَذْنَا } داخل في حكمه ، وهو - أى بدلنا - متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أى : أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها .
ويرى بعض العلماء أن لفظ { مَكَانَ } مفعول به لبدلنا وليس ظرفا ، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة ، فالحسنة هى المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة .
وقوله : { حتى عَفَوْاْ } أى : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم . يقال : عفا النبات ، وعفا الشحم إذا كثر وتكاثف . وأعفيته . أى : تركته يعفو ويكثر ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " وأعفوا اللحى " أى : وفروها وكثروها .
فماذا كان موقفهم من ابتلاء الله إياهم بالشدائد تارة وبالنعم أخرى ؟ لقد كان موقفهم يدل على فساد فطرتهم ، وانحطاط نفوسهم ، وعدم اتعاظهم بما تجرى به الأقدار ، وبما بين أيديهم من سراء وضراء تحمل كل عاقل على التفكير والاعتبار .
استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم فيقول : { وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء } .
أى : أنهم حينما رأوا ألوان الخيرات بين أيديهم بعد أن كانوا في بأساء وضراء ، لم يعتبروا ولم يشكروا الله على نعمه ، بل قالوا بغباء وجهل . قد مس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر ، وتناوبهم ما ينفع وما يضر ، ونحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم ، وقد أخذنا دورنا من الضراء كما أخذوا ، وجاء دورنا في السراء فلنغنمها في إرواء شهواتنا . وإشباع متعنا ، فتلك عادة الزمان من أبنائه ولا داعى لأن ننظر إلى السراء والضراء على أنهما نوع من الابتلاء والاختبار .
وهذا شأن الغافلين الجاهلين في كل زمان ومكان ، إنهم لا يعتبرون بأى لون من ألوان العبر ، ولا يستشعرون في أنفسهم تحرجا من شىء يعملونه .
وإن قولهم هذا ليوحى بحالة نفسية خاصة " حالة عدم المبالاة والاستهتار " وهى حالة أكثر ما تكون مشاهدة في أهل الرخاء والجاه . فهم يسرفون ويبذرون بدون تحرج ، ويرتكبون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان بدون اكتراث ، وتغشاهم العبر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومع كل ذلك لا يعتبرون ولا يتعظون .
هذا شأنهم ، أما المؤمنون فإنهم ليسوا كذلك ، وإنما هم كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " عجبا لأمر المؤمن : إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن . إن اصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " .
ولم يترك القدر أولئك الغافلين بدون قصاص ، وإنما فاجأهم بالعقوبة التي تناسبهم ، قال - تعالى - : { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أى : فكان عاقبة بطرهم وأشرهم وغفلتهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة ، من غير شعور منهم بذلك ، ولا خطور شىء من المكاره ببالهم ، لأنهم كانوا - لغبائهم - يظنون أنهم سيعيشون حياتهم في نعم الحياة ورغدها بدون محاسبة لهم على أعمالهم القبيحة ، وأقوالهم الذميمة .
فالجملة الكريمة تشير إلى أن أخذهم بالعقوبة كان أليما شديدا ، لأنهم فوجئوا بها مفاجأة بدون مقدمات .
وجملة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال من المفعول به في { أَخَذْنَاهُمْ } مؤكدة لمعنى البغتة .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ بَدّلْنَا مَكَانَ السّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّىَ عَفَوْاْ وّقَالُواْ قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآءُ وَالسّرّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ثم بدّلنا أهل القرية التي أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء ، مكان السيئة ، وهي البأساء والضرّاء . وإنما جعل ذلك سيئة ، لأنه مما يسوء الناس ، ولا تسوؤهم الحسنة ، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة . حتى عَفَوْا يقول : حتى كثروا ، وكذلك كلّ شيء كثر ، فإنه يقال فيه : قد عفا ، كما قال الشاعر :
ولكِنّا نُعِضّ السّيْفَ منْها ***بأسْوُقٍ عافِياتِ الشّحْمِ كُوم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مَكانَ السّيّئَةِ الحَسَنَةَ قال : مكان الشدّة رخاء حتى عَفَوْا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : مَكانَ السّيّئَةِ الحَسَنَةَ قال : السيئة : الشرّ ، والحسنة : الرخاء والمال والولد .
حدثنا المثنى ، قالَ : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مَكانَ السّيّئةِ الحَسَنَةَ قال : السيئة : الشرّ ، والحسنة : الخير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ بَدّلْنا مَكانَ السّيّئَةِ الحَسَنَةَ يقول : مكان الشدة الرخاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ بدلْنا مَكانَ السّيّئَةِ الحَسَنَةَ حتى عَفَوْا قال : بدلنا مكان ما كرهوا ما أحبوا في الدنيا ، حتى عفوا من ذلك العذاب وَقالُوا قَدْ مَسّ آباءَنا الضّرّاءُ وَالسّرّاءُ .
واختلفوا في تأويل قوله حتى عَفَوْا فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : حتى عَفَوْا يقول : حتى كثروا وكثرت أموالهم .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : حتى عَفَوْا قال : جمّوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : حتى عَفَوْا قال : كثرت أموالهم وأولادهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : حتى عَفَوْا حتى كثروا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : حتى عَفَوْا قال : حتى جموا وكثروا .
قال : ثنا جابر بن نوح ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : حتى عَفَوْا قال : حتى جموا .
قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : حتى عَفَوْا يعني جموا وكثروا .
قال : ثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : حتى عَفَوْا قال : حتى كثرت أموالهم وأولادهم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : حتى عَفَوْا كثروا كما يكثر النبات والريش ، ثم أخذهم عند ذلك بغتة وهم لا يشعرون .
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى سُرّوا . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : حتى عَفَوْا يقول : حتى سرّوا بذلك .
وهذا الذي قاله قتادة في معنى عفوا تأويل لا وجه له في كلام العرب ، لأنه لا يعرف العفو بمعنى السرور في شيء من كلامها إلاّ أن يكون أراد حتى سُرّوا بكثرتهم وكثرة أموالهم ، فيكون ذلك وجها وإن بعُد .
وأما قوله : وَقالُوا قَدْ مَسّ آباءَنا الضّرّاءُ والسّرّاءُ فإنه خبر من الله عن هؤلاء القوم الذين أبدلهم الحسنة السيئة التي كانوا فيها استدراجا وابتلاءً أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم : هذه أحوال قد أصابت مَن قبلنا من آبائنا ونالت أسلافنا ، ونحن لا نعدو أن نكون أمثالهم يصيبنا ما أصابهم من الشدّة في المعايش والرخاء فيها ، وهي السّراء ، لأنها تسرّ أهلها . وجهل المساكين شكر نعمة الله ، وأغفلوا من جهلهم استدامة فضله بالإنابة إلى طاعته ، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه بالتوبة ، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون . يقول جلّ جلاله : فَأخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول : فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة ، أتاهم على غرّة منهم بمجيئه ، وهم لا يدرون ، ولا يعلمون أنه يجيئهم ، بل هم بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويروه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.