الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

قوله : { سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } : يراد به اليهودُ ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين ، لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ ، بعضَهُم مِنْ بعض ، ويقبلونه ، ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة ، إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك .

وقوله سبحانه : { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } : يحتمل أنْ يريد : يَسْمَعُون منهم ، وذكر الطبريُّ عن جابر ، أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ ، وقيل : يهود خَيْبَر ، ويحتمل أنْ يكون معنى { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } بمعنى : جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ ، لينقلوه لقوم آخرينَ ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ، ويهودُ المدينة . قلْتُ : وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في " السِّيَرِ " .

قال :( ع ) : وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ ؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية : { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } .

وقوله سبحانه : { يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه } : هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم ، { مِن بَعْدِ مواضعه } ، أي : من بعد أن وضعَ مواضِعَهُ ، وقصدت به وجوهه القويمة ، { يقولون إن أوتيتم هذا ، فخذوه } روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ : استفتوا محمَّداً ، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرَّجْم ، فاحذروا الرجْمَ ، قاله الشعبيُّ وغيره ، وقيل غير هذا من وقائعهم ، فالإشارة ب { هذا } إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا على قولٍ ، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام ، على جهة قَطْع الرجاء منهم : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } أي : محنَتَهُ بالكفر ، { فلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } ، ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه أن لاَّ يطهِّر قلوبَهُم ، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر ، { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } ، بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ ، وفي كلِّ أُمَّة .

قال ( ص ) : { سماعون } ، أي : هم سمَّاعون ، ومثله ( أكَّالون ) ، انتهى .

وقوله سبحانه : { أكالون لِلسُّحْتِ }[ المائدة :42 ] .

فعَّالون ، بناءُ مبالغة ، أي : يتكرَّر أَكْلُهم ، ويَكْثُر ، و( السُّحْت ) : كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال .

وقوله تعالى : { فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } : تخييرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده ، وقال ابنُ عباس ، وغيره : هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه :

{ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله }[ المائدة : 49 ] ، وقال كثيرٌ من العلماء : هي مُحْكَمَة ، وهذا هو الأظهر ، إن شاء اللَّه ، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم ، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها ، فالحاكمُ مخيَّر ، وإذا رضي به الخَصْمان ، فلا بد مِنْ رِضَى أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم ، قاله ابن القاسِمِ في «العتبية » ، قلت : وعبارة الداوديُّ : قال مالك : ولا يَحْكُمُ بينهم ، إذا اختار الحكم إلا في المظالمِ ، فيحكم بينهما بما أنزل اللَّه ، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه ، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه ، ثم يردُّون إلى أساقفتهم ، قال مالك : وإنما رجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة ، انتهى .

وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه » : إنما أَنْفَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ بينهم ، ليحقِّق تحريفَهُم ، وتبديلَهم ، وكَذِبَهم ، وكَتْمَهم مَا في التوراة ، ومنْه صفتُهُ صلى الله عليه وسلم فيها ، والرجْمُ على زناتهم ، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله : { يا أهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }[ المائدة :15 ] ، فيكون ذلك من آياته الباهرةِ ، وحُجَجِهِ البيِّنة ، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة ، للأَمَّة المُخْزية اليهودية ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم ، إذا أعْرَضَ عنهم ، وحقَّر في ذلك شأنهم ، { وَإِنْ حَكَمْتَ } أي : اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا ، { فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } أيْ : بالعدل .