قوله : { سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } : يراد به اليهودُ ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين ، لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ ، بعضَهُم مِنْ بعض ، ويقبلونه ، ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة ، إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك .
وقوله سبحانه : { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } : يحتمل أنْ يريد : يَسْمَعُون منهم ، وذكر الطبريُّ عن جابر ، أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ ، وقيل : يهود خَيْبَر ، ويحتمل أنْ يكون معنى { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } بمعنى : جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ ، لينقلوه لقوم آخرينَ ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ، ويهودُ المدينة . قلْتُ : وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في " السِّيَرِ " .
قال :( ع ) : وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ : هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ ؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية : { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } .
وقوله سبحانه : { يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه } : هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم ، { مِن بَعْدِ مواضعه } ، أي : من بعد أن وضعَ مواضِعَهُ ، وقصدت به وجوهه القويمة ، { يقولون إن أوتيتم هذا ، فخذوه } روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ : استفتوا محمَّداً ، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ ، فخذوه ، وإن أفتاكم بالرَّجْم ، فاحذروا الرجْمَ ، قاله الشعبيُّ وغيره ، وقيل غير هذا من وقائعهم ، فالإشارة ب { هذا } إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا على قولٍ ، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام ، على جهة قَطْع الرجاء منهم : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } أي : محنَتَهُ بالكفر ، { فلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } ، ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه أن لاَّ يطهِّر قلوبَهُم ، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر ، { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } ، بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ ، وفي كلِّ أُمَّة .
قال ( ص ) : { سماعون } ، أي : هم سمَّاعون ، ومثله ( أكَّالون ) ، انتهى .
وقوله سبحانه : { أكالون لِلسُّحْتِ }[ المائدة :42 ] .
فعَّالون ، بناءُ مبالغة ، أي : يتكرَّر أَكْلُهم ، ويَكْثُر ، و( السُّحْت ) : كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال .
وقوله تعالى : { فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } : تخييرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده ، وقال ابنُ عباس ، وغيره : هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه :
{ وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله }[ المائدة : 49 ] ، وقال كثيرٌ من العلماء : هي مُحْكَمَة ، وهذا هو الأظهر ، إن شاء اللَّه ، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم ، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها ، فالحاكمُ مخيَّر ، وإذا رضي به الخَصْمان ، فلا بد مِنْ رِضَى أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم ، قاله ابن القاسِمِ في «العتبية » ، قلت : وعبارة الداوديُّ : قال مالك : ولا يَحْكُمُ بينهم ، إذا اختار الحكم إلا في المظالمِ ، فيحكم بينهما بما أنزل اللَّه ، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه ، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه ، ثم يردُّون إلى أساقفتهم ، قال مالك : وإنما رجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة ، انتهى .
وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه » : إنما أَنْفَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ بينهم ، ليحقِّق تحريفَهُم ، وتبديلَهم ، وكَذِبَهم ، وكَتْمَهم مَا في التوراة ، ومنْه صفتُهُ صلى الله عليه وسلم فيها ، والرجْمُ على زناتهم ، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله : { يا أهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }[ المائدة :15 ] ، فيكون ذلك من آياته الباهرةِ ، وحُجَجِهِ البيِّنة ، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة ، للأَمَّة المُخْزية اليهودية ، انتهى .
وقوله تعالى : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم ، إذا أعْرَضَ عنهم ، وحقَّر في ذلك شأنهم ، { وَإِنْ حَكَمْتَ } أي : اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا ، { فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } أيْ : بالعدل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.