الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان . ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، والغائب كأنه مشاهد . وفيه تبكيت للخصم الألد ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ ، ولأمر مّا أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء . قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ومن سور الإنجيل سورة الأمثال . والمثل في أصل كلامهم : بمعنى المثل ، وهو النظير . يقال : مثل ومثل ومثيل ، كشبه وشبه وشبيه . ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده : مثل . ولم يضربوا مثلاً ، ولا رأوه أهلا للتسيير ، ولا جديراً بالتداول والقبول ، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه . ومن ثمّ حوفظ عليه وحمى من التغيير .

فإن قلت : ما معنى مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، وما مثل المنافقين ومثل الذي استوقد ناراً حتى شبه أحد المثلين بصاحبه ؟ قلت : قد استعير المثل استعارة الأسد للمقدام ، للحال أو الصفة أو القصة ، إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً . وكذلك قوله : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي وفيما قصصنا عليك من العجائب : قصة الجنة العجيبة . ثم أخذ في بيان عجائبها . { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] : أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة . { مَثَلُهُمْ في التوراة } [ الفتح : 29 ] أي صفتهم وشأنهم المتعجب منه . ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن .

فإن قلت : كيف مثلت الجماعة بالواحد ؟ قلت : وضع الذي موضع الذين ، كقوله : { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] والذي سوّغ وضع الذي موضع الذين ، ولم يجز وضع القائم موضع القائمين ولا نحوه من الصفات أمران : أحدهما : أنّ «الذي » لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة بجملة ، وتكاثر وقوعه في كلامهم ، ولكونه مستطالاً بصلته ، حقيق بالتخفيف ، ولذلك نهكوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا به على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين . والثاني : أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون . وإنما ذاك علامة لزيادة الدلالة . ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع ، والواحد فيهن واحد . أو قصد جنس المستوقدين . أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً . على أنّ المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد ؛ إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد . ونحوه قوله : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] ، وقوله : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] . ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها . ومن أخواته : وقل في الجبل إذا صعد وعلا ، والنار : جوهر لطيف مضيء حارّ محرق . والنور : ضوءها وضوء كل نير ، وهو نقيض الظلمة . واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ؛ لأنّ فيها حركة واضطراباً ، والنور مشتق منها . والإضاءة : فرط الإنارة . ومصداق ذلك قوله : { هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] ، وهي في الآية متعدية . ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله . والتأنيث للحمل على المعنى ؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء . ويعضده قراءة ابن أبي عبلة «ضاءت » . وفيه وجه آخر ، وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار . ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها ، على أنّ ما مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة . و { حَوْلَهُ } نصب على الظرف وتأليفه للدوران والإطافة . وقيل للعام : حول ؛ لأنه يدور .

فإن قلت : أين جواب لما ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن جوابه { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } . والثاني : أنه محذوف كما حذف في قوله : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 15 ] . وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدالّ عليه ، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة ، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام ، متحيرين متحسرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح في إحياء النار .

فإن قلت : فإذا قدّر الجواب محذوفاً فبم يتعلق { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } ؟ قلت : يكون كلاماً مستأنفاً . كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره ، اعترض سائل فقال : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد ؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم . أو يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان .

فإن قلت : قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني ؟ قلت : مرجعه الذي استوقد ؛ لأنه في معنى الجمع . وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في { حَوْلَهُ } ، فللحمل على اللفظ تارة ، وعلى المعنى أخرى .

فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى في قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } ؟ قلت : إذا طفئت النار بسبب سماوي ريح أو مطر ، فقد أطفأها الله تعالى وذهب بنور المستوقد . ووجه آخر ، وهو أن يكون المستوقد في هذا الوجه مستوقد نار لا يرضاها الله . ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار متقاصرة مدّة اشتعالها قليلة البقاء . ألا ترى إلى قوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المائدة : 64 ] ، وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ، ويتهدوا بها في طرق العبث ، فأطفأها الله وخيب أمانيهم .

فإن قلت : كيف صح في النار المجازية أن توصف بإضاءة ما حول المستوقد ؟ قلت : هو خارج على طريقة المجاز المرشح فأحسن تدبره .

فإن قلت : هلا قيل ذهب الله بضوئهم ؟ لقوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } ؟ قلت : ذكر النور أبلغ ؛ لأنّ الضوء فيه دلالة على الزيادة . فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، والغرض إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً . ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } والظلمة عبارة عن عدم النور وانطماسه ، وكيف جمعها ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة مبهمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله : { لاَّ يُبْصِرُونَ } .

فإن قلت : فلم وصفت بالإضاءة ؟ قلت : هذا على مذهب قولهم : للباطل صولة ثم يضمحل . ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت ، ونار العرفج مثل لنزوة كل طماح . والفرق بين أذهبه وذهب به ، أن معنى أذهبه : أزاله وجعله ذاهباً . ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه . وذهبت السلطان بماله : أخذه ( فلما ذهبوا به ) ، { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] . ومنه : ذهب به الخيلاء . والمعنى : أخذ الله نورهم وأمسكه ، { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } [ فاطر : 2 ] فهو أبلغ من الإذهاب . وقرأ اليماني : أذهب الله نورهم . وترك : بمعنى طرح وخلى ، إذا علق بواحد ، كقولهم : تركه ترك ظبي ظله . فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير ، فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :

فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ***

ومنه قوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } أصله : هم في ظلمات ، ثم دخل ترك فنصب الجزأين . والظلمة عدم النور . وقيل : عرض ينافي النور . واشتقاقها من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا : أي ما منعك وشغلك ، لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية . وقرأ الحسن «ظلمات » بسكون اللام وقرأ اليماني «في ظُلمة » على التوحيد . والمفعول الساقط من { لاَّ يُبْصِرُونَ } من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوى ، كأنّ الفعل غير متعدّ أصلاً ، نحو { يَعْمَهُونَ } في قوله : { وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .

فإن قلت : فيم شبهت حالهم بحال المستوقد ؟ قلت : في أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورّطوا في حيرة .

فإن قلت : وأين الإضاءة في حال المنافق ؟ وهل هو أبداً إلا حائر خابط في ظلماء الكفر ؟ قلت : المراد ما استضاءوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمد . ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد اطلاع الله على أسرارهم وما افتضحوا به بين المؤمنين واتسموا به من سمة النفاق . والأوجه أن يراد الطبع . لقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } . وفي الآية تفسير آخر : وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات . وتنكير النار للتعظيم .