الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِي هَـٰٓؤُلَآءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّواْ ٱلسَّبِيلَ} (17)

يحشرهم . فيقول : كلاهما بالنون والياء ، وقرىء : «يحشرهم » ، بكسر الشين ، { وَمَا يَعْبُدُونَ } يريد : المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير . وعن الكلبي : الأصنام ينطقها الله . ويجوز أن يكون عاماً لهم جميعاً .

فإن قلت : كيف صحّ استعمال { مَاْ } في العقلاء ؟ قلت : هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم ، بدليل قولك - إذا رأيت شبحاً من بعيد - : ما هو ؟ فإذا قيل لك : إنسان ، قلت حينئذٍ : من هو ؟ ويدلك قولهم «من » لما يعقل . أو أريد به الوصف ، كأنه قيل : ومعبوديهم ، ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد ؟ ما زيد : تعني : أطويل أم قصير ؟ أفقيه أم طبيب ؟

فإن قلت : ما فائدة أنتم وهم ؟ وهلا قيل أضللتم عبادي هؤلاء ، أم هم ضلّوا السبيل ؟ قلت : ليس السؤال عن الفعل ووجوده ، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متوليه ، فلا بدّ من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ، حتى يعلم أنه المسئول عنه ،

فإن قلت : فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسئول عنه ، فما فائدة هذا السؤال ؟ قلت : فائدته أن يجيبوا بما أجابوا به ، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم ، ويكون ذلك نوعاً مما يلحقهم من غضب الله وعذابه ، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك ، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفاً للمكلفين . وفيه كسر بيّن لقول من يزعم أن الله يضلّ عباده على الحقيقة ، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتموهم ، أم هم ضلوا بأنفسهم ؟ فيتبرؤون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ، ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر ، سبب الكفر ونسيان الذكر ، وكان ذلك سبب هلاكهم ، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه ، فهم لربهم الغنيّ العدل أشدّ تبرئة وتنزيهاً منه ، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة والتمتيع بها . وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة ، فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله : { يُضِلُّ مَن يَشَاء } [ الرعد : 27 ] ، [ النحل : 93 ] ، [ فاطر : 8 ] ولو كان هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم . والمعنى : أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق ؟ أم هم ضلوا عنه بأنفسهم ؟ وضل : مطاوع «أضله » وكان القياس : ضلّ عن السبيل ، إلاّ أنهم تركوا الجار كما تركوه في هذه الطريق . والأصل : إلى الطريق وللطريق . وقولهم : أضلَّ البعير ، في معنى : جعله ضالاً ، أي ضائعاً ، لما كان أكثر ذلك بتفريط من صاحبه وقلة احتياط في حفظه ، قيل : أضله ، سواء كان منه فعل أو لم يكن .