مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِي هَـٰٓؤُلَآءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّواْ ٱلسَّبِيلَ} (17)

قوله تعالى : { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا } .

اعلم أن قوله تعالى : { ويوم يحشرهم } راجع إلى قوله : { واتخذوا من دونه آلهة } ثم ههنا مسائل :

المسألة الأولى : { يحشرهم } فنقول كلاهما بالنون والياء وقرئ { نحشرهم } بكسر الشين .

المسألة الثانية : ظاهر قوله : { وما يعبدون } أنها الأصنام ، وظاهر قوله : { فيقول أأنتم أضللتم عبادي } أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما ، لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا ، فمن الناس من حمله على الأوثان ، فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى ، وكيف قدر على الجواب ؟ فعند ذلك ذكروا وجهين : أحدهما : أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة ، فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب . وثانيها : أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل ، وكما قيل : سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ؟ فإن لم تجبك حوارا ، أجابتك اعتبارا ! وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام ، قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } وإذا قيل لهم : لفظة ( ما ) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين : الأول : لا نسلم أن كلمة ( ما ) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا ( من ) لما لا يعقل . والثاني : أريد به الوصف كأنه قيل ( ومعبودهم ) ، وقوله تعالى : { والسماء وما بناها } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين ، وكيف كان فالسؤال ساقط .

المسألة الثالثة : حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين ، ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق ، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم ؟ قالت المعتزلة : وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضللتهم ، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم ، علمنا أن الله تعالى لا يضل أحدا من عباده . فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ،

فإنهم قالوا : { ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر } وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا . قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوبا في يد أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجا مفحما ملزما هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية ، أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى ، وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يعود السؤال ، وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا .

المسألة الرابعة : ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال -من الله تعالى ، وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة- بأمر الله تعالى . بقي على الآية سؤالات .

الأول : ما فائدة أنتم وهم ؟ وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ؟ الجواب : ليس السؤال عن الفعل ووجوده ، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن فاعله فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسئول عنه .

السؤال الثاني : أنه سبحانه كان عالما في الأزل بحال المسئول عنه فما فائدة هذا السؤال ؟ الجواب : هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } ولأن أولئك المعبودين لما برؤوا أنفسهم ، وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم .

السؤال الثالث : قال تعالى : { أم هم ضلوا السبيل } والقياس أن يقال ضل عن السبيل ، الجواب : الأصل ذلك ، إلا أن الإنسان إذا كان متناهيا في التفريط وقلة الاحتياط ، يقال ضل السبيل .