اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِي هَـٰٓؤُلَآءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّواْ ٱلسَّبِيلَ} (17)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية قرأ ابن عامر «نَحْشَرُهُمْ . . . فَنَقُولُ » بالنون فيهما ، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما ، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني{[35525]} . وهُنّ واضحات .

وقرأ الأعرج{[35526]} «نَحْشِرهُمْ » بكسر الشين{[35527]} في جميع القرآن .

قال ابن عطية : هي{[35528]} قليلة في الاستعمال قوية في القياس ، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين{[35529]} . وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية ؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي{[35530]} . قال أبو حيان : وليس كما ذكرا{[35531]} بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً ، فإن شُهِرَ أحد{[35532]} الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا{[35533]} .

قال شهاب الدين : الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور ، فيجيز{[35534]} أن يقول : زيد يفعِل بكسر العين ، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني{[35535]} وسبقه إلى ذلك ابن درستويه{[35536]} ( إلا أن ){[35537]} النحاة على خلافه{[35538]} .

قوله : «وَمَا يَعْبُدُونَ » عطف على مفعول «يَحْشُرُهُمْ » ، ويضعف نصبه على المعية{[35539]} ، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب «ما » دون «من » .

فصل

ظاهر قوله : «وَمَا يَعْبُدُونَ » أنها الأصنام ، لأن ( ما ) لما لا يعقل . وظاهر قوله : { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ } أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم ؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا{[35540]} .

فقال مجاهد : أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير{[35541]} . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام{[35542]} . فقيل لهم : كيف يخاطب الله تعالى{[35543]} الجماد فأجابوا بوجهين :

أحدهما : أنه تعالى{[35544]} يخلق الحياة فيها ويخاطبها .

والثاني{[35545]} : أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات ، وكلام الأيدي والأرجل ، وكما{[35546]} قيل سل{[35547]} الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ؟ فإن لم يحصل جواباً أجابتك اعتباراً{[35548]} .

وقال الأكثرون : المراد الملائكة وعيسى وعزير - عليهم السلام{[35549]} - قالوا : ويتأكد هذا القول بقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] فإن قيل : لفظة «ما » لا تستعمل في العقلاء . فالجواب من وجهين :

الأول : لا نسلم أن كلمة «ما » لا تستعمل لمن لا يعقل ؛ لأنهم قالوا : «مَنْ » لمن{[35550]} لا يعقل في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] .

الثاني : أنه أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبودهم .

وقال تعالى : { والسماء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين{[35551]} .

فصل

قالت المعتزلة : ( وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن ) {[35552]} الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول : إلهنا{[35553]} ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق ، وهو أنّك أضللتهم ، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم{[35554]} إلى أنفسهم ، علمنا أنه تعالى لا يضل أحداً من عباده ، فإن قيل : لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه ، وقالوا{[35555]} : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر } ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم ، وهو أنه تعالى متَّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا . قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجاً في يد{[35556]} أولئك المعبودين ، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً{[35557]} .

وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلالة إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من{[35558]} الله ، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى ، وعند ذلك يزول السؤال .

وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا{[35559]} .

قوله : «هؤلاء » يجوز أن يكون نعتاً ل «عِبَادي » أو بدلاً{[35560]} أو بياناً .

قوله : «ضلّوا السَّبِيلَ » على حذف حرف الجر وهو «عن » كما صرح به في قوله { يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 117 ] ثم اتُّسع فيه{[35561]} فحُذِف نحو هَدَى ، فإنَّه يتعدَّى ب ( إلى ) وقد يُحْذَف اتساعاً{[35562]} . و «ضلَّ » مطاوع ( أَضَلَّ ){[35563]} . فإن قيل : إِنَّهُ تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال ؟

فالجواب : هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله }{[35564]} [ المائدة : 116 ] . فإن قيل : فما فائدة «أَنْتُمْ » ، وهلاَّ قيل : أَأَضْلَلْتُمْ{[35565]} عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ؟

فالجواب : هذا سؤال عن الفاعل فلا بدَّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه{[35566]} .

وقوله : «أَأَنْتُمْ{[35567]} أَضْلَلْتُمْ . . . أَمْ هُمْ ضَلُّوا »{[35568]} ( إنما قدم الاسم على الفعل ){[35569]} كما تقدم في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ }{[35570]} [ المائدة : 116 ] .


[35525]:السبعة (462 – 463)، الحجة لابن خالويه (265)، الكشف 2/144- 145 النشر 2/333، الإتحاف (328).
[35526]:في ب: الأعمش، وهو تحريف.
[35527]:المحتسب 2/119، تفسير ابن عطية 11/16، البحر المحيط 6/488.
[35528]:في ب: وهي.
[35529]:تفسير ابن عطية 11/16، وانظر توجيه ابن جني لهذه القراءة في المحتسب 2/119.
[35530]:انظر البحر المحيط 6/488.
[35531]:في ب: ذكر.
[35532]:في ب: أحدا. وهو تحريف.
[35533]:البحر المحيط 6/488.
[35534]:في ب: فحير. وهو تحريف.
[35535]:وذلك أن فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة، ولم تكن عينه أو لامه حرفا حلقيا، ولا مضعفا، يكون مضارعه على (يفعل، ويفعل) بكسر وضمها نحو ضرب يضرب، وقتل يقتل، وجلس يجلس، وقعد يقعد إلا أن ابن عصفور جوز الجمع بينهما في الفعل الواحد، قال: (وقد يجتمعان في الفعل الواحد، نحو: عكف يعكف ويعكف، وهما جائزان سمعا للكلمة أو لم يسمع إلا أحدهما) الممتع 1/175.
[35536]:تقدم.
[35537]:ما بين القوسين في ب: لأن.
[35538]:قال الرضي: (فقالوا قياس مضارع فعل المفتوح عينه إما الضم أو الكسر، وتعدى بعض النحاة – وهو أبو زيد – هذا، وقال: كلاهما قياس، وليس أحدهما أولى به من الآخر، إلا أنه ربما يكثر أحدهما في عادة ألفاظ الناس حتى يطرح الآخر، ويقبح استعماله، فإن عرف الاستعمال فذاك، وإلا استعملا معا، وليس على المستعمل شيء، وقال بعضهم: بل القياس الكسر، لأنه أكثر، وأيضا هو أخف من الضم) شرح الشافية 1/117 – 118. وانظر الدر المصون 5/130.
[35539]:جوز أبو البقاء الوجهين. التبيان 2/982.
[35540]:انظر الفخر الرازي 24/61.
[35541]:انظر البغوي 6/163.
[35542]:المرجع السابق.
[35543]:تعالى: سقط من ب.
[35544]:تعالى: سقط من ب.
[35545]:في ب: وثالثها. وهو تحريف.
[35546]:في ب: كما.
[35547]:في ب: الأرض سل.
[35548]:انظر الفخر الرازي 24/61.
[35549]:في ب: عليهما الصلاة والسلام.
[35550]:لمن: سقط من ب.
[35551]:انظر الفخر الرازي 24/61.
[35552]:ما بين القوسين في النسختين: هذه الآية تدل على القائلين بأن. والتصويب من الفخر الرازي.
[35553]:انظر الفخر الرازي 24/61.
[35554]:في ب: إضلالهم.
[35555]:في ب: ولكن قالوا.
[35556]:في ب: بدا.
[35557]:في ب: معلوما.
[35558]:في النسختين: فمن.
[35559]:انظر الفخر الرازي 24/61 – 62.
[35560]:انظر التبيان 2/982.
[35561]:فيه: سقط من ب.
[35562]:قال الزمخشري: (وكان القياس: ضل عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في (هداه الطريق) والأصل: إلى الطريق وللطريق) الكشاف 3/91.
[35563]:انظر الكشاف 3/91.
[35564]:[المائدة: 116]. انظر الفخر الرازي 24/62.
[35565]:في الأصل: أضللتم، وفي ب: ضللتم.
[35566]:انظر الفخر الرازي 24/62.
[35567]:في ب: أنتم.
[35568]:في ب: ضلوا السبيل.
[35569]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35570]:وذكر ابن عادل هناك: دخلت الهمزة على المبتدأ لفائدة ذكرها أهل البيان وهو أن الفعل إذا علم وجوده وشك في نسبته إلى شخص أولي الاسم المشكوك في نسبته إلى الفعل إليه الهمزة فيقال: أأنت ضربت زيدا، فضرب زيد قد صدر في الوجود وإنما شك في نسبته إلى المخاطب، وإن شك في أصل وقوع الفعل أولي الفعل للهمزة، فيقال: أضربت زيدا، لم تقطع بوقوع الضرب بل شككت فيه، والحاصل أن الهمزة يليها المشكوك فيه. انظر اللباب 3/364، وانظر أيضا دلائل الإعجاز 141 – 145.