الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية

النفل : الغنيمة ، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه . قال لبيد :

إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ***

والنفل ما ينفله الغازي ، أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم ، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب : من قتل قتيلاً فله سلبه . أو قال لسرية : ما أصبتم فهو لكم ، أو فلكم نصفه أو ربعه . ولا يخمس النفل ، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه . وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه : لا يلزم . ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر ، وفي قسمتها ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ، ولمن الحكم في قسمتها ؟ أللمهاجرين أم للأنصار ؟ أم لهم جميعاً ؟ فقيل له : قل لهم : هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء ، ليس لأحد غيره فيها حكم . وقيل : شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا ، فقال الشبان : نحن المقاتلون ، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم [ وقالوا ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المغنم قليل والناس كثير : وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك . فنزلت . وعن سعد بن أبي وقاص : قتل أخي عمير يوم بدر ، فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني ، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت : إنّ الله قد شفى صدري من المشركين ، فهب لي هذا السيف فقال : ليس هذا لي ولا لك ، اطرحه في القَبَضِ فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال ، فقال : يا سعد ، إنك سألتني السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه وعن عبادة بن الصامت : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه اخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين . وقرأ ابن محيصن : «يسألونك علنفال » بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وإدغام نون عن في اللام : وقرأ ابن مسعود : «يسألونك الأنفال » أي يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال .

فإن قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : { قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول } ؟ قلت : معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد ، والمراد : أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي { فاتقوا الله } في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم .

وعن عطاء : كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل ، فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا ، فقال : ليردّ بعضكم على بعض .

فإن قلت : ما حقيقة قوله : { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ؟ قلت : أحوال بينكم ، يعني ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، كقوله : { بِذَاتِ الصدور } [ آل عمران : 199 ] وهي مضمراتها . لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريدون ما في الإناء من الشراب . وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها . ومعنى قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كنتم كاملي الإيمان .