اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وسبعة وسبعون حرفا .

/خ1

قوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } ، أي : خسرت . وتقدم تفسير هذه المادة في سورة غافر عند قوله : { إِلاَّ فِي تَبَابٍ }{[61051]} [ غافر : 37 ] ، وأسند الفعل إلى اليدين مجازاً ؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بهما ، وإن كان المراد جملة المدعو عليه .

وقوله : { تَبَّتْ } دعاء ، { وَتَبَّ } إخبار ، أي : قد وقع ما دعي به عليه ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]

5341- جَزانِي ، جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جزَائِه *** جَزاءَ الكِلابِ العَاويَاتِ وقَدْ فعلْ{[61052]}

ويؤيده قراءة{[61053]} عبد الله : «وقَدْ تبَّ » ، والظَّاهر أنَّ كليهما دعاء ، ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص ؛ لأن اليدين بعض ، وإن كان حقيقة اليدين غير مراد .

وقيل : كلاهما إخبار ، أراد بالأول : هلاك عمله ، وبالثاني : هلاك نفسه ، وإنما عبر باليدين ؛ لأن الأعمال غالباً تُزاول بهما .

وقيل : المراد باليدين نفسه ، وقد يعبر باليد عن النفس ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] ، أي نفسك ، وهذا شائع في كلام العرب يعبّرون ببعض الشيء عن كله ، يقولون : أصابه يد الدهر ، ويد المنايا ، والرزايا ، أي : أصابه كل ذلك .

قال الشاعر : [ مخلع البسيط ]

5342- لمَّا أكبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا *** عَليْهِ نَادَى ألاّ مُجِيرُ{[61054]}

وقال ابن الخطيب{[61055]} : وعبر باليدين ، إما لأنه كان يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة ، وقيل : المراد دينه ، ودنياه وأولاده ، وعقباه ، أو المراد بأحدهما جر المنفعة ، وبالأخرى : دفع المضرة ، أو لأن اليمين سلاح ، والأخرى جُنَّة .

وقل : بمعنى ماله ، وبنيه ، «وتَبَّ » هو نفسه ، وقيل : «تبَّ » يعني ولده وعقبه ، وهو الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «اللَّهمَّ سلِّط عليْهِ كَلباً من كِلابِكَ » لشدة عداوته ، فافترسه الأسد .

وقرأ العامة : «لَهَب » بفتح الهاء ، وابن كثير{[61056]} : بإسكانها .

فقيل : هما لغتان ، بمعنى نحو : النَّهَر والنَّهْر ، والشَّعَر والشَّعْر ، والبَعَر والبَعْر ، والضَّجَر والضَّجْر .

وقال الزمخشري{[61057]} : «وهو من تغيير الأعلام ، كقوله : شمس بن مالك ، بالضم » ، يعني أن الأصل : بفتح الشين فغيرت إلى الضم .

ويشير بذلك لقول الشاعر : [ الطويل ]

5343- وإنِّي لمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَعاهِدٌ *** بِهِ لابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ{[61058]}

وجوز أبو حيان{[61059]} في «شمس » أن يكون منقولاً من «شمس » الجمع ، كما جاء «أذناب خيل شمس » ، فلا يكون من التغيير في شيء .

وكني بذلك أبو لهب : إما لالتهاب وجنتيه ، وكان مشرق الوجه ، أحمرهُ ، وإما لما يئول إليه من لهب جهنم ، كقولهم : أبو الخير ، وأبو الشر ، لصدورهما منه ، وإما لأن الكنية أغلب من الاسم ، أو لأنها أنقص منه ، ولذلك ذكر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بأسمائهم دون كُناهم ، أو لقُبحِ اسمه ؛ لأن اسمه عبد العُزَّى ، فعدل عنه إلى الكنية ؛ لأن الله لم يضف العبودية في كتابة إلى صنم .

وقيل : اسمه أبو لهب ، كما سمي أبو سفيان ، وأبو طالب .

وقال الزمخشريُّ{[61060]} : فإن قلت : لم أكناه ، والكنية تكرمة ؟

ثم ذكر ثلاثة أجوبة : إما لشهرته بكنيته ، وإما لقبح اسمه كما تقدم ، وإما لتجانس قوله : «ناراً ذات لهبٍ » ؛ لأن مآله إلى لهب جهنم . انتهى .

وهذا يقتضي أن الكنية أشرف وأكمل ، لا أنقص ، وهو عكس القول الذي تقدم آنفاً .

وقرئ{[61061]} : «يَدَا أبُو لهبٍ » بالواو مكان الجر .

قال الزمخشري{[61062]} : «كما قيل : علي بن أبو طالب ، ومعاوية بن أبو سفيان ، لئلاَّ يغير منه شيء ، فيشكل على السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير «مكة » ابنان : أحدهما : «عبدِ الله » بالجر ، والآخر «عبدَ الله » بالنصب » .

ولم يختلف القراء في قوله : «ذَات لهب » أنها بالفتح . والفرق أنها فاصلة ، فلو سكنت زال التشاكل .

[ قال قتادة : تبت : خسرت{[61063]} .

وقال ابن عباس : خابت{[61064]} .

وقال عطاء : ضلت{[61065]} .

وقال ابن جبير : هلكت{[61066]} .

وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خير ]{[61067]} .

فصل في نزول الآية

حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء ، أنه لما قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - سمع الناس هاتفاً يقول : [ مجزوء الوافر ]

5344- لَقدْ خَلَّوكَ وانْصَرفُوا *** فَمَا آبُوا وَلا رَجعُوا

ولَمْ يُوفُوا بِنذْرِهِمُ *** فَيَا تَبًّا لِمَا صَنَعُوا{[61068]}

/خ1

فصل في تفسير التَّبِّ

قال ابن الخطيب{[61069]} : من فسر التبَّ بالهلاك ، فلقوله تعالى : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، أي : في هلاك ، ومن فسَّره بالخسران ، فلقوله تعالى : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ هود : 101 ] ، أي : تخسير ، ومن فسره بالخيبة ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : لأنه كان يدفع القوم عنه صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر ، فينصرفون عنه قبل لقائه ؛ لأنه كان شيخ القبيلة - لعنه الله - فكان لا يأتيهم ، فلما نزلت هذه السورة ، وسمع بها غضب ، وأظهر العداوة الشديدة ، وصار مُتَّهماً ، فلما قال في الرسول - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك ، فكأنه قد خاب سعيه ، ولعله إنما ذكر التب ؛ لأنه إنما كان يضرب بيده على يد الوافد عليه ، فيقول : انصرف راشداً فإنه مجنون ، فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً يضع بيده على كتفه ، ويدفعه عن ذلك الموضع .

ومن فسر التبَّ بقوله : ضلت ؛ فلأنه كان يعتقد أن يده العليا ، وأنه يخرجه من «مكَّة » ، ويذلّه ، ومن فسره : ب «صَفرَتْ » فلأن يده خلت من كل خير .

فصل في ترجمة أبي لهب

أبو لهب : اسمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وامرأته : العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب ، وكلاهما كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم .

قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز ؛ إذ أنا بإنسان يقول : «يا أيُّها النَّاسُ ، قولوا : لا إلهَ إلاَّ اللهَ تُفلِحُوا » ، وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يا أيها الناس ، إنه كذاب ساحر ، فلا تصدقوه ، فقلت : من هذا ؟

فقالوا : محمد ، يزعم أنه نبيّ ، وهو عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب .

وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم محمد ، إن أحدنا ليأكلُ الجذعة ، ويشرب العُسّ من اللبن ، فلا يشبع ، وإن محمداً قد أشبعكم من فخذِ شاةٍ ، وأرواكم من عُسِّ لبن{[61070]} .

/خ5


[61051]:آية 37.
[61052]:تقدم.
[61053]:ينظر: الكشاف 4/814، والمحرر الوجيز 5/534، والبحر المحيط 8/526، والدر المصون 6/85.
[61054]:ينظر: القرطبي 20/161.
[61055]:ينظر: الفخر الرازي 32/153.
[61056]:ينظر: السبعة 700، والحجة 6/451، وإعراب القراءات 2/542، وحجة القراءات 676.
[61057]:ينظر: الكشاف 4/814.
[61058]:البيت لتأبط شرا؛ ينظر ديوان الحماسة 1/31، والخزانة 1/200، والبحر ا8/525، والدر المصون 6/585.
[61059]:ينظر: البحر المحيط 8/527.
[61060]:الكشاف 4/814.
[61061]:ينظر: الدر المصون 6/585.
[61062]:ينظر: الكشاف 4/814.
[61063]:أخرجه الطبري في تفسيره" (12/733)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/702)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر.
[61064]:ذكره الماوردي (6/364)، والقرطبي (161).
[61065]:ينظر المصدر السابق.
[61066]:ينظر المصدر السابق.
[61067]:سقط من: ب.
[61068]:ينظر القرطبي 20/191.
[61069]:ينظر: الفخر الرازي 32/153.
[61070]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/161).