قوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } ، أي : خسرت . وتقدم تفسير هذه المادة في سورة غافر عند قوله : { إِلاَّ فِي تَبَابٍ }{[61051]} [ غافر : 37 ] ، وأسند الفعل إلى اليدين مجازاً ؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بهما ، وإن كان المراد جملة المدعو عليه .
وقوله : { تَبَّتْ } دعاء ، { وَتَبَّ } إخبار ، أي : قد وقع ما دعي به عليه ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
5341- جَزانِي ، جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جزَائِه *** جَزاءَ الكِلابِ العَاويَاتِ وقَدْ فعلْ{[61052]}
ويؤيده قراءة{[61053]} عبد الله : «وقَدْ تبَّ » ، والظَّاهر أنَّ كليهما دعاء ، ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص ؛ لأن اليدين بعض ، وإن كان حقيقة اليدين غير مراد .
وقيل : كلاهما إخبار ، أراد بالأول : هلاك عمله ، وبالثاني : هلاك نفسه ، وإنما عبر باليدين ؛ لأن الأعمال غالباً تُزاول بهما .
وقيل : المراد باليدين نفسه ، وقد يعبر باليد عن النفس ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] ، أي نفسك ، وهذا شائع في كلام العرب يعبّرون ببعض الشيء عن كله ، يقولون : أصابه يد الدهر ، ويد المنايا ، والرزايا ، أي : أصابه كل ذلك .
5342- لمَّا أكبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا *** عَليْهِ نَادَى ألاّ مُجِيرُ{[61054]}
وقال ابن الخطيب{[61055]} : وعبر باليدين ، إما لأنه كان يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة ، وقيل : المراد دينه ، ودنياه وأولاده ، وعقباه ، أو المراد بأحدهما جر المنفعة ، وبالأخرى : دفع المضرة ، أو لأن اليمين سلاح ، والأخرى جُنَّة .
وقل : بمعنى ماله ، وبنيه ، «وتَبَّ » هو نفسه ، وقيل : «تبَّ » يعني ولده وعقبه ، وهو الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «اللَّهمَّ سلِّط عليْهِ كَلباً من كِلابِكَ » لشدة عداوته ، فافترسه الأسد .
وقرأ العامة : «لَهَب » بفتح الهاء ، وابن كثير{[61056]} : بإسكانها .
فقيل : هما لغتان ، بمعنى نحو : النَّهَر والنَّهْر ، والشَّعَر والشَّعْر ، والبَعَر والبَعْر ، والضَّجَر والضَّجْر .
وقال الزمخشري{[61057]} : «وهو من تغيير الأعلام ، كقوله : شمس بن مالك ، بالضم » ، يعني أن الأصل : بفتح الشين فغيرت إلى الضم .
ويشير بذلك لقول الشاعر : [ الطويل ]
5343- وإنِّي لمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَعاهِدٌ *** بِهِ لابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ{[61058]}
وجوز أبو حيان{[61059]} في «شمس » أن يكون منقولاً من «شمس » الجمع ، كما جاء «أذناب خيل شمس » ، فلا يكون من التغيير في شيء .
وكني بذلك أبو لهب : إما لالتهاب وجنتيه ، وكان مشرق الوجه ، أحمرهُ ، وإما لما يئول إليه من لهب جهنم ، كقولهم : أبو الخير ، وأبو الشر ، لصدورهما منه ، وإما لأن الكنية أغلب من الاسم ، أو لأنها أنقص منه ، ولذلك ذكر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بأسمائهم دون كُناهم ، أو لقُبحِ اسمه ؛ لأن اسمه عبد العُزَّى ، فعدل عنه إلى الكنية ؛ لأن الله لم يضف العبودية في كتابة إلى صنم .
وقيل : اسمه أبو لهب ، كما سمي أبو سفيان ، وأبو طالب .
وقال الزمخشريُّ{[61060]} : فإن قلت : لم أكناه ، والكنية تكرمة ؟
ثم ذكر ثلاثة أجوبة : إما لشهرته بكنيته ، وإما لقبح اسمه كما تقدم ، وإما لتجانس قوله : «ناراً ذات لهبٍ » ؛ لأن مآله إلى لهب جهنم . انتهى .
وهذا يقتضي أن الكنية أشرف وأكمل ، لا أنقص ، وهو عكس القول الذي تقدم آنفاً .
وقرئ{[61061]} : «يَدَا أبُو لهبٍ » بالواو مكان الجر .
قال الزمخشري{[61062]} : «كما قيل : علي بن أبو طالب ، ومعاوية بن أبو سفيان ، لئلاَّ يغير منه شيء ، فيشكل على السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير «مكة » ابنان : أحدهما : «عبدِ الله » بالجر ، والآخر «عبدَ الله » بالنصب » .
ولم يختلف القراء في قوله : «ذَات لهب » أنها بالفتح . والفرق أنها فاصلة ، فلو سكنت زال التشاكل .
[ قال قتادة : تبت : خسرت{[61063]} .
وقال ابن عباس : خابت{[61064]} .
وقال عطاء : ضلت{[61065]} .
وقال ابن جبير : هلكت{[61066]} .
وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خير ]{[61067]} .
حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء ، أنه لما قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - سمع الناس هاتفاً يقول : [ مجزوء الوافر ]
5344- لَقدْ خَلَّوكَ وانْصَرفُوا *** فَمَا آبُوا وَلا رَجعُوا
ولَمْ يُوفُوا بِنذْرِهِمُ *** فَيَا تَبًّا لِمَا صَنَعُوا{[61068]}
قال ابن الخطيب{[61069]} : من فسر التبَّ بالهلاك ، فلقوله تعالى : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، أي : في هلاك ، ومن فسَّره بالخسران ، فلقوله تعالى : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ هود : 101 ] ، أي : تخسير ، ومن فسره بالخيبة ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : لأنه كان يدفع القوم عنه صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر ، فينصرفون عنه قبل لقائه ؛ لأنه كان شيخ القبيلة - لعنه الله - فكان لا يأتيهم ، فلما نزلت هذه السورة ، وسمع بها غضب ، وأظهر العداوة الشديدة ، وصار مُتَّهماً ، فلما قال في الرسول - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك ، فكأنه قد خاب سعيه ، ولعله إنما ذكر التب ؛ لأنه إنما كان يضرب بيده على يد الوافد عليه ، فيقول : انصرف راشداً فإنه مجنون ، فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً يضع بيده على كتفه ، ويدفعه عن ذلك الموضع .
ومن فسر التبَّ بقوله : ضلت ؛ فلأنه كان يعتقد أن يده العليا ، وأنه يخرجه من «مكَّة » ، ويذلّه ، ومن فسره : ب «صَفرَتْ » فلأن يده خلت من كل خير .
أبو لهب : اسمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وامرأته : العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب ، وكلاهما كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم .
قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز ؛ إذ أنا بإنسان يقول : «يا أيُّها النَّاسُ ، قولوا : لا إلهَ إلاَّ اللهَ تُفلِحُوا » ، وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يا أيها الناس ، إنه كذاب ساحر ، فلا تصدقوه ، فقلت : من هذا ؟
فقالوا : محمد ، يزعم أنه نبيّ ، وهو عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب .
وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم محمد ، إن أحدنا ليأكلُ الجذعة ، ويشرب العُسّ من اللبن ، فلا يشبع ، وإن محمداً قد أشبعكم من فخذِ شاةٍ ، وأرواكم من عُسِّ لبن{[61070]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.