مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول الضحاك والكلبي{[1]} ، وهي أربع آيات ، وسبع عشرة كلمة ، وثلاث وسبعون حرفا .
قوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } ، في متعلق هذه الآية أوجه :
أحدها : أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ } .
قال الزمخشري :{[60878]} «هذا بمنزلة التضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل .
وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب ، وقرأ في الأولى : «والتِّينِ » ، انتهى .
وإلى هذا ذهب الأخفش ، إلا أن الحوفي قال : ورد هذا القول جماعة ، بأنه لو كان كذا ، لكان «لإيْلافِ » بعض سورة «ألَمْ تَرَ » ، وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على عدم ذلك .
الثاني : أنه مضمر تقديره : فعلنا ذلك ، أي : إهلاك أصحاب الفيل { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } ، أي : لتأليف قريش ، أو لتنفق قريش ، أو لكي تأمن قريش ، فتؤلف رحلتيها .
الثالث : أنه قوله تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ } لإيلافهم ؛ فإنها أظهر نعمة عليهم .
قاله الزمخشري ؛ وهو قول الخليل من قبله .
وقرأ ابن عامر{[60879]} : «لإلاف » دون ياء قبل اللام الثانية .
والباقون : «لإيلاف » بياء قبلها ، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني ، وهو «إيلافهم » . ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين : أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطًّا ، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها فيه خطًّا ، وهذا دليل على أن القراء يتبعون الأثر والرواية ، لا مجرد الخط .
فأما قراءة ابن عامر ففيها وجهان :
أحدهما : أنه مصدر ل «ألف » ثلاثياً ، يقال : ألف الرجل ، إلفاً ، وإلافاً ؛ نحو : كتبته كتاباً ، ويقال : ألفته إلفاً وإلافاً .
وقد جمع الشاعر بينهما في قوله : [ الوافر ]
5313- زَعمْتُمْ أنَّ إخْوتَكُمْ قُريْشٌ *** لَهُمْ إلفٌ وليْسَ لَكُمْ إلافُ{[60880]}
والثاني : أنه مصدر ل «آلف » رباعياً نحو قاتل قتالاً . وقال الزمخشري : لمُؤالفةِ قريش . وأما قراءة الباقين فمصدر آلف رباعياً بزنة «أكرم » ، يقال : آلفته ، أولفه إيلافاً .
5314- مِنَ المُؤلفَاتِ الرَّمْلَ أدمَاءُ حُرَّةٌ *** شُعَاعُ الضُّحَى في مَتْنِهَا يتوضَّحُ{[60881]}
وقرأ عاصم{[60882]} في رواية : «إئلافهم » بهمزتين ، الأولى مكسورة ، والثانية ساكنة ، وهي شاذة ؛ لأنه يجب في مثله إبدال حرف مجانس ك «إيمان » .
وروي عنه أيضاً بهمزتين مكسورتين ، بعدهما ياء ساكنة .
وخرجت على أنه أشبع كسر همزة الثانية فتولد منها ياء ، وهذه أشدُّ من الأولى .
ونقل أبو البقاء أشد منها ، فقال{[60883]} : «بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة » . وهو بعيد ، ووجهه : أنه أشبع الكسرة ، فنشأت الياء ، وقصد بذلك الفصل بين الهمزتين كالألف في «أأنْذَرتَهُمْ » .
وقرأ أبو جعفر : «لإلف قريش » بهمزة مكسورة ، بزنة : «قِرْد » ، وقد تقدم أنه مصدر ل «ألف » كقوله : [ الوافر ]
5315- . . . *** لَهُمْ إلْفٌ وليْسَ لَكُمْ إلافُ{[60884]}
وعنه أيضاً ، وعن ابن كثير : «إلفهم » ، وهي ساكنة اللام بغير ياء ، وهي قراءة مجاهد وحميد .
وروت أسماء - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : «إلفهم » ، وهو مروي أيضاً عن ابن عبَّاس وغيره .
وعنه أيضاً وعن ابن عامر : «إلافهم » مثل «كتابهم » .
وعنه أيضاً : «ليْلافهم » بياء ساكنة بعد اللام ، وذلك أنه لما أبدل الثانية حذف الأولى على غير قياس .
وقرأ عكرمة{[60885]} : «ليألف قريش » فعلاً مضارعاً .
وعنه أيضاً{[60886]} : «لتألف قريش » على الأمر واللام مكسورة ، وعنه فتحها مع الأمر وهي لغة .
تقدم أن هذه السورة متصلة بما قبلها في المعنى ، أي : أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، أي : لتأليف قريش ، أو لتنفق قريش ، أو لتأمن قريش فتؤلف رحلتيها .
قال ابن الخطيب{[60887]} : فإن قيل : إنما كان الإهلاك لكفرهم .
قلنا : جزاء الكفور يكون يوم القيامة ، يجزي كل نفس بما كسبت للأمرين معاً ، ولكن لا تكون اللام لام العاقبة ، أو يكون المعنى : «ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل ؛ لإيلاف قريش » ، أي : كل ما تضمنته السورة «لإيلافهم » ، أو تكون اللاَّم بمعنى «إلى » ، أي : وجعلنا هذه النعم مضافاً إلى قريش .
وقال الكسائي والأخفش : اللام في { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } لام التعجب . أي اعجبوا لإيلاف قريش ، نقله القرطبي{[60888]} .
قال الفراء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى ؛ لأنه ذكر أهل «مكة » عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة ، ثم قال - جل وعلا - : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } . فعلنا بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش ، وذلك أن قريشاً كانت تخرج في تجارتها ، فلا يغار عليها في الجاهلية ، يقولون : هم أهل بيت الله تعالى حتَّى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة فأهلكه الله تعالى ، فذكرهم نعمته ، أي : فجعل الله تعالى ذلك { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } أي : ليألفوا الخروج ولا يتجرأ عليهم ، قاله مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير .
قال ابن عباس ، في قوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } قال : نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، قال : كانوا يشتون ب «مكة » ، ويصيفون ب «الطائف »{[60889]} ، وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي ، وإن لم يكن الكلام تاماً .
قال ابن الخطيب{[60890]} : والمشهور أنهما سورتان ، ولا يلزم من التعلق الاتحاد ؛ لأن القرآن كسورة واحدة .
وقال الخليل : ليست متصلة ، كأنه قال : ألف الله قريشاً إيلافاً ، فليعبدوا ربَّ هذا البيت [ واللام متعلقة بقوله تعالى : فليعبد هؤلاء رب هذا البيت ، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتياز ، ويحمل ما بعد الألف ألفاً على ما قبلها ؛ لأنها زائدة غير عاطفة ، كقولك : زيد فاضرب ، وأما مصحف أبيّ فمعارض بإطباق على الفصل بينهما ، وأما قراءة عمر - رضي الله عنه - فالإمام قد يقرأ سورتين ] .
قال ابن العربي : وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم مروياً ، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني ، فإذا علموها وقفوا [ حيث شاءوا ، فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه ، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك ، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك ، هذا رأيي فيه ]{[60891]} ، ولا دليل على ما قالوه بحالٍ ، ولكني أعتمد الوقف على التَّمام ، كراهية الخروج عنهم .
قال القرطبي{[60892]} : «وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله : «كَعصفٍ مأكُولٍ » ، ليس بقبيح ، وكيف يقال بقبحه ، وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى ، والتي بعدها في الركعة الثانية ، ولا يمنع الوقف على إعجاز الآيات ، سواء تمَّ الكلام أم لا » .
قريش : هم ولد النضر بن كنانة ، وكل من ولده النضر فهو قرشي ، وهو الصحيح ، وقيل : هم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي ، فوقع الوفاق على أن بني فهر قرشيون ، وعلى أن كنانة ليسوا بقرشيين ، ووقع الخلاف في النضر ومالك ، ثم اختلف في اشتقاقه على أوجه :
أحدها : أنه من التقرُّش ، وهو التجمُّع ، سموا بذلك لاجتماعهم بعد تفرق ، قال : [ الطويل ]
5316- أبُونَا قُصَيٌّ كَانَ يُدعَى مُجمِّعاً *** بِهِ جَمَّعَ اللهُ القَبائلَ مِنْ فِهْرِ{[60893]}
والثاني : أنه من القرش : وهو الكسب ، كانت قريش تجاراً ، يقال : قرش يقرش : أي : اكتسب .
والثالث : أنه من التفتيش ، يقال : قَرَشَ يقرش ، عني أي : فتش ، وكانت قريش يفتشون على ذوي الخلاَّت ، فيسدون خلَّتهم .
5317- أيُّهَا الشَّامِتُ المُقرِّشُ عَنَّا *** عِنْدَ عَمْرٍو فَهلْ لهُ إبْقَاءُ{[60894]}
والرابع : أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قُريشاً ؟
فقال : لدابة في البحر يقال لها : القرش ، من أقوى دوابه ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلُو ولا تُعْلَى{[60895]} .
5318- وقُريشٌ هِيَ الَّتي تَسكنُ البَحْ *** رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُريشٌ قُرَيْشَا
تَأكُلُ الرثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ *** رُكُ فِيهَا لِذِي جَناحَيْنِ رِيشَا
هَكَذا في البِلادِ حَيُّ قُريْشٍ *** يَأكُلونَ البِلادَ أكْلاً كَمِيشَا
ولهُمْ آخِرَ الزَّمانِ نبيٌّ *** يُكْثرُ القَتْلَ فِيهمُ والخُمُوشَا{[60896]}
ثم قريش : إما أن يكون مصغراً تصغير ترخيم ، فقيل : الأصل مقرش ، وقيل : قارش ، وإما أن يكون مصغراً من ثلاثي ، نحو : القرش ، وأجمعوا على صرفه هنا مراداً به الحي ، ولو أريد به القبيلة لامتنع من الصَّرف ؛ كقوله : [ الكامل ]
5319- غَلَبَ المَسامِيحَ الولِيدُ سَماحَةً *** وكَفَى قُريْشَ المُعضِلاتِ وسَادَهَا{[60897]}
قال سيبويه في معدّ ، وقريش ، وثقيف ، وكينونة ، هذه للأحياء أكثر ، وإن جعلتها أسماء للقبائل ، فهو جائز حسن .