اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية بالإجماع ، وتسمى سورة " التوديع " ، وهي ثلاث آيات ، وست عشرة كلمة ، وتسعة وستون حرفا .

قوله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } : عليك وعلى أمتك ، والمقصود : إذا جاء هذان الفعلان من غير نظر إلى متعلقهما ، كقوله تعالى : { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] .

«أل » في «الفتح » عوض من الإضافة : أي : وفتحه عند الكوفيين ، والعائد محذوف عند البصريين ، أي : والفتح منه للدلالة على ذلك ، والعامل في «إذا » : «جاء » وهو قول مكي ، وإليه ذهب أبو حيَّان{[61012]} وغيره في مواضع وقد تقدم ذلك . وإما «فسبِّح » ، وإليه نحا الزمخشريُّ{[61013]} والحوفي ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء ، ورده أبو حيَّان بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها ، وفيه بحثٌ تقدم بعضه في سورة «الضحى » .

فصل في الكلام على «نصر »

النصر : العون ، مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض ، إذا أعان على إنباتها .

قال الشاعر : [ الطويل ]

5337- إذَا انْسَلَخَ الشَّهْرُ الحَرامُ فَوَدِّعي *** بِلادَ تَمِيمٍ وانصُرِي أرضَ عَامرِ{[61014]}

ويروى : [ الطويل ]

5338- إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَجَاوِزِي*** بِلادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِر{[61015]}

يقال : نصره على عدوه ينصره نصراً ، أي : أعانه ، والاسم : النُّصرة ، واستنصره على عدوه ، أي : سأله أن ينصره عليه ، وتناصروا : نصر بعضهم بعضاً .

وقيل : المرادُ بهذا النصر : نصر الرسول - عليه الصلاة والسلام - على قريش ، قاله الطبري{[61016]} .

[ وقيل : نصره على من قاتله من الكفار ، وأن عاقبة النصر كانت له ، وأما الفتح فهو فتح مكة ، قاله الحسن ومجاهد{[61017]} وغيرهما ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هو فتح المدائن والقصور{[61018]} ، وقيل : فتح سائر البلاد ، وقيل : ما فتحه عليه من العلوم ، وقيل : إذا بمعنى قد جاء نصر الله ؛ لأن نزولها بعد الفتح ، ويجوز أن يكون معناه إذا يجيئك ]{[61019]} .

فصل في الفرق بين النصر والفتح

قال ابن الخطيب{[61020]} : الفرق بين النصر والفتح ، الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً ، والنصر كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر ، وعطف الفتح عليه ، ويقال : النصرُ كمالُ الدينِ ، والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمةِ ، كقوله تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] .

والنَّصْر : الظَّفر في الدنيا ، والفتح : بالجنة .

فصل في المراد بهذا النصر

قال ابن الخطيب{[61021]} : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مؤيداً منصوراً بالدلائل والمعجزات ، فما المعنى بتخصيص لفظ النصر بفتح «مكة » ؟

والجواب : أن المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع .

فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى ، قال تعالى : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } [ الأنفال : 10 ] فما فائدة التقييد بقوله تعالى : { نَصْرُ الله } ؟ .

فالجواب : معناه : لا يليق إلا بالله ، كما يقال : هذه صنعة زيد ، إذا كان مشهوراً ، فالمراد هذا هو الذي سألتموه .

فإن قيل : لم وصف النصر بالمجيء ؟ وحقيقته : إذا وقع نصر الله ، فما الفائدة في ترك الحقيقة ، وذكر المجاز ؟

فالجواب : أن الأمور مرتبطةٌ بأوقاتها ، وأنه - تعالى - قد ربط بحدوث كلِّ محدث أسباباً معينة ، وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم ، والتأخر ، والتبدل ، والتغير ، فإذا حضر ذلك الوقت ، وجاء ذلك الزمان حضر ذلك الأثر معه ، وإليه الإشارة بقوله : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] .

فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم الصحابة - رضي الله عنهم - ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما السبب في إضافة النصر إليه ؟

فالجواب : أن النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدَّ لهم من داعٍ وباعث ، وهو من الله تعالى .

فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد متقدماً على فعل الله ، وهو خلاف قوله تعالى : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] فجعل نصر العبد مقدماً على نصره لنا ؟

فالجواب : أن لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله - تعالى - ، فإن أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكها العقول البشرية .


[61012]:ينظر: البحر المحيط 8/524. البيت للراعي النميري ينظر ديوانه ص 211، والقرطبي 20/230، واللسان (نصر).
[61013]:الكشاف 4/810.
[61014]:البيت للراعي النميري ينظر ديوانه ص 211، والقرطبي 20/230، واللسان (نصر).
[61015]:ينظر القرطبي 20/157.
[61016]:ينظر: جامع البيان (12/729).
[61017]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/729)، عن مجاهد وابن زيد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/696)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[61018]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/360)، والقرطبي (20/157).
[61019]:سقط من: ب.
[61020]:الفخر الرازي 32/140.
[61021]:الفخر الرازي 32/140.