اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا} (2)

قوله : { وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ } ، «رأيت » يحتمل أن يكون معناه : أبصرت ، وأن يكون معناه : علمت ، فإن كان معناه «أبصرت » كان «يَدخُلونَ » في محل النصب على الحال ، والتقدير : ورأيت الناس يدخلون حال دخولهم في دين الله أفواجاً ، وإن كان معناه : «علمت » كان «يدخُلونَ » مفعولاً ثانياً ل «علمت » والتقدير : علمت الناس داخلين في دين الله أفواجاً .

وفي عبارة الزمخشري{[61022]} : أنه كان بمعنى «أبصرتُ » ، أو «عرفت » .

وناقشه أبو حيان{[61023]} : بأن «رأيت » لا يُعرف كونها بمعنى «عرفت » ، قال : «فيحتاج في ذلك إلى استثبات » .

وقرأ العامة : «يدخلون » مبنياً للفاعل .

وابن كثير{[61024]} في رواية : مبنياً للمفعول ، و «فِي دِيْنِ » ظرف مجازي ، وهو مجاز فصيح بليغ هاهنا .

قوله : { أَفْوَاجاً } حال من فاعل «يَدخُلُونَ » .

قال مكي : «وقياسه » : أفوج ، «إلا أن الضمة تستثقل في الواو ، فشبهوا «فعلاً » - يعني بالسكون - ب «فَعل - يعني بالفتح - فجمعوه جمعه » انتهى .

أي : أن «فَعْلاً » بالسكون ، قياسه «أفعُل » ك «فَلْس » و «أفلُس » ، إلا أنه استثقلت الضمةُ على الواوِ ، فجمعوه جمع «فعل » بالتحريك نحو : جمل ، وأجمال ؛ لأن «فعْلاً » بالسكون على «أفعال » ليس بقياس إذا كان فعلاً صحيحاً ، نحو : فرخ وأفراخ ، وزند وأزناد ، ووردت منه ألفاظ كثيرة ، ومع ذلك فلم يقيسوه ، وقد قال الحوفي شيئاً من هذا .

فصل في الكلام على لفظ الناس

ظاهر لفظ «النَّاس » للعموم ، فيدخل كل النَّاس أفواجاً ، أي : جماعات ، فوجاً بعد فوجٍ ، وذلك لما فتحت «مكة » قالت العرب : أما إذْ ظفر محمد صلى الله عليه وسلم بأهل الحرم ، وقد كان الله - تعالى - أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ؛ فكانوا يسلمون أفواجاً أفواجاً ، أمة بعد أمةٍ .

قال الضحاكُ : والأمة : أربعون{[61025]} رجلاً .

وقال عكرمةُ ومقاتل : أراد بالنَّاس أهل «اليمن »{[61026]} ، وذلك أنه ورد من «اليمن » سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين ، بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرءون القرآن ، وبعضهم يهلِّلُون ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : " { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وجاء أهل اليمن ، رقيقة أفئدتهم ، لينة طباعهم ، سخية قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجاً " {[61027]} .

وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتَاكُمْ أهْلُ اليَمنِ ، وهُمْ أضْعَفُ قُلوباً ، وأرَقُّ أفئِدَةٌ ، الفقهُ يمانٍ ، والحِكمةُ يَمَانِيةٌ »{[61028]} .

وقال صلى الله عليه وسلم : «إنِّي لأجدُ نَفَسَ ربِّكُمْ من قبلِ اليَمنِ »{[61029]} وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه الفرجُ ، لتتابع إسلامهم أفواجاً .

والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل «اليمن » و [ الأنصار ]{[61030]} .

وروى جابرُ بنُ عبد الله قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنَّ النَّاس دخلوا في دينِ اللهِ أفواجاً ، وسيَخرُجُونَ مِنهُ أفواجاً »{[61031]} ذكره الماوردي .

قال ابن الخطيب{[61032]} : كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً ، واثنين اثنين .

فصل في المراد بدين الله

ودينُ الله هو الإسلام ، لقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية ، إشارة إلى أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً ، وللدين أسماء أخر ، قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } [ الذاريات : 35 ، 36 ] .

ومنها : الصراط ، قال تعالى : { صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الشورى : 53 ] .

ومنها : كلمة الله ، ومنها النور : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ الصف : 8 ] .

ومنها الهدى ، قال تعالى : { ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 88 ] .

ومنها العروة الوثقى { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة } [ البقرة : 256 ] .

ومنها : الحبلُ المتين : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } [ آل عمران : 103 ] .

ومنها : حنيفة الله ، وفطرة الله .

فصل في إيمان المقلد

قال جمهور الفقهاء والمتكلمين : إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً ، لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ، وإثبات كونه تعالى منزّهاً عن الجسمية ، والمكان والحيز ، وإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، ولا إثبات الصفات ، والتنزيه بالدليل ، والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ، لا يقال : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل ؛ لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة ؛ بل كانوا جاهلين بالتفاضل ؛ لأنا نقول : إن الدليل لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان ، فإن الدليل إذا كان مركباً من عشر مقدمات ، فمن علم تسعة منها ، وكان في المقدمة العاشرة مقلداً ، كان في النتيجة مقلداً لا محالة .


[61022]:ينظر: الكشاف 4/811.
[61023]:البحر المحيط 8/525.
[61024]:ينظر: البحر المحيط 8/524، والدر المصون 6/584.
[61025]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/157).
[61026]:ينظر المصدر السابق.
[61027]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/730).
[61028]:أخرجه البخاري 7/701، كتاب المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4388 – 4390)، ومسلم 1/71 كتاب الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان (24-52)، والترمذي 5/683، كتاب المناقب، باب: فضل أهل اليمن (3935).
[61029]:ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (4/811).
[61030]:في أ: الأخبار.
[61031]:حديث جابر أخرجه أحمد 3/343)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/699)، وعزاه إلى ابن مردويه، وله شاهد من حديث أبي هريرة بلفظ: ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا. أخرجه الحاكم (4/496)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[61032]:ينظر الفخر الرازي 32/145.