قوله : { وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ } ، «رأيت » يحتمل أن يكون معناه : أبصرت ، وأن يكون معناه : علمت ، فإن كان معناه «أبصرت » كان «يَدخُلونَ » في محل النصب على الحال ، والتقدير : ورأيت الناس يدخلون حال دخولهم في دين الله أفواجاً ، وإن كان معناه : «علمت » كان «يدخُلونَ » مفعولاً ثانياً ل «علمت » والتقدير : علمت الناس داخلين في دين الله أفواجاً .
وفي عبارة الزمخشري{[61022]} : أنه كان بمعنى «أبصرتُ » ، أو «عرفت » .
وناقشه أبو حيان{[61023]} : بأن «رأيت » لا يُعرف كونها بمعنى «عرفت » ، قال : «فيحتاج في ذلك إلى استثبات » .
وقرأ العامة : «يدخلون » مبنياً للفاعل .
وابن كثير{[61024]} في رواية : مبنياً للمفعول ، و «فِي دِيْنِ » ظرف مجازي ، وهو مجاز فصيح بليغ هاهنا .
قوله : { أَفْوَاجاً } حال من فاعل «يَدخُلُونَ » .
قال مكي : «وقياسه » : أفوج ، «إلا أن الضمة تستثقل في الواو ، فشبهوا «فعلاً » - يعني بالسكون - ب «فَعل - يعني بالفتح - فجمعوه جمعه » انتهى .
أي : أن «فَعْلاً » بالسكون ، قياسه «أفعُل » ك «فَلْس » و «أفلُس » ، إلا أنه استثقلت الضمةُ على الواوِ ، فجمعوه جمع «فعل » بالتحريك نحو : جمل ، وأجمال ؛ لأن «فعْلاً » بالسكون على «أفعال » ليس بقياس إذا كان فعلاً صحيحاً ، نحو : فرخ وأفراخ ، وزند وأزناد ، ووردت منه ألفاظ كثيرة ، ومع ذلك فلم يقيسوه ، وقد قال الحوفي شيئاً من هذا .
ظاهر لفظ «النَّاس » للعموم ، فيدخل كل النَّاس أفواجاً ، أي : جماعات ، فوجاً بعد فوجٍ ، وذلك لما فتحت «مكة » قالت العرب : أما إذْ ظفر محمد صلى الله عليه وسلم بأهل الحرم ، وقد كان الله - تعالى - أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ؛ فكانوا يسلمون أفواجاً أفواجاً ، أمة بعد أمةٍ .
قال الضحاكُ : والأمة : أربعون{[61025]} رجلاً .
وقال عكرمةُ ومقاتل : أراد بالنَّاس أهل «اليمن »{[61026]} ، وذلك أنه ورد من «اليمن » سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين ، بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرءون القرآن ، وبعضهم يهلِّلُون ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : " { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وجاء أهل اليمن ، رقيقة أفئدتهم ، لينة طباعهم ، سخية قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجاً " {[61027]} .
وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتَاكُمْ أهْلُ اليَمنِ ، وهُمْ أضْعَفُ قُلوباً ، وأرَقُّ أفئِدَةٌ ، الفقهُ يمانٍ ، والحِكمةُ يَمَانِيةٌ »{[61028]} .
وقال صلى الله عليه وسلم : «إنِّي لأجدُ نَفَسَ ربِّكُمْ من قبلِ اليَمنِ »{[61029]} وفيه تأويلان :
أحدهما : أنه الفرجُ ، لتتابع إسلامهم أفواجاً .
والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل «اليمن » و [ الأنصار ]{[61030]} .
وروى جابرُ بنُ عبد الله قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنَّ النَّاس دخلوا في دينِ اللهِ أفواجاً ، وسيَخرُجُونَ مِنهُ أفواجاً »{[61031]} ذكره الماوردي .
قال ابن الخطيب{[61032]} : كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً ، واثنين اثنين .
ودينُ الله هو الإسلام ، لقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ، { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] ، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية ، إشارة إلى أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً ، وللدين أسماء أخر ، قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } [ الذاريات : 35 ، 36 ] .
ومنها : الصراط ، قال تعالى : { صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الشورى : 53 ] .
ومنها : كلمة الله ، ومنها النور : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ الصف : 8 ] .
ومنها الهدى ، قال تعالى : { ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 88 ] .
ومنها العروة الوثقى { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة } [ البقرة : 256 ] .
ومنها : الحبلُ المتين : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } [ آل عمران : 103 ] .
ومنها : حنيفة الله ، وفطرة الله .
قال جمهور الفقهاء والمتكلمين : إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً ، لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ، وإثبات كونه تعالى منزّهاً عن الجسمية ، والمكان والحيز ، وإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، ولا إثبات الصفات ، والتنزيه بالدليل ، والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ، لا يقال : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل ؛ لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة ؛ بل كانوا جاهلين بالتفاضل ؛ لأنا نقول : إن الدليل لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان ، فإن الدليل إذا كان مركباً من عشر مقدمات ، فمن علم تسعة منها ، وكان في المقدمة العاشرة مقلداً ، كان في النتيجة مقلداً لا محالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.