اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (43)

قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة ، كانوا يقولون : الله أعلى ، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر ؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ إلينا كان يبعث ملكاً ، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام ؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : { نوحي إِلَيْهِمْ } والمعنى : أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر ، وهذه العادة مستمرةٌ ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال .

ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً ، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ، ثم قال الله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } .

قال ابن عباس - رضي الله عنه- : يريد أهل التوراة ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } [ الأنبياء : 105 ] يعني التوراة{[19824]} . وقال الزجاج : معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق .

واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد ؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية ؛ فقال : لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً ، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم ؛ لقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فإن لم يجب ؛ فلا أقل من الجواز .

واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : المكلف إذا نزلت به واقعة ، فإن كان عالماً بحكمها ، لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالماً بحكمها ، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها ؛ لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة ، لما وجب عليه سؤال العالم ؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس ، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية ؛ فوجب أن لا يجوز .

والجواب : أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل .


[19824]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/30).