لمَّا شرح الأوامر الثلاثة ، عاد بعده إلى ذكرِ النَّواهي ، فنهى عن ثلاثةِ أشياء ، أولها : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } العامَّة على هذه القراءة ، أي : لا تتَّبعْ ، من قفاه يقفوه إذا تتبَّع أثره ، قال النابغة : [ الطويل ]
ومِثلُ الدُّمى شمُّ العرانينِ ساكنٌ *** بِهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا{[20410]}
فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغيْرِ ذَنبٍ *** ولا أقْفُو الحَواصِنَ إنْ قُفينَا{[20411]}
وقرأ زيد{[20412]} بن عليٍّ : " ولا تَقْفُو " بإثبات الواو ، وقد تقدَّم في قراءة قنبل في قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] أن إثبات حرف العلَّة جزماً لغة قومٍ ، وضرورة عند غيرهم ، كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** مِنْ هَجْوِ زبَّان لمْ تَهْجُو ولمْ تَدعِ{[20413]}
وقرأ{[20414]} معاذ القارئ " ولا تَقُفْ " بزنةِ تقلْ ، من قاف يقُوفُ ، أي : تتبَّع أيضاً ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه مقلوبٌ ؛ من قَفَا يَقْفُو .
والثاني : وهو الأظهر- : أنه لغة مستقلة جيدة ؛ كجبذ وجذبَ ؛ لكثرة الاستعمالين ؛ ومثله : قعا الفحل الناقة وقاعها .
والباء في " به " متعلقةٌ بما تعلَّق به " لَكَ " ولا تتعلق ب " عِلمٌ " لأنه مصدر ، إلا عند من يتوسَّع في الجارِّ .
قوله تعالى : { والفؤاد } قرأ{[20415]} الجرَّاحُ العقيلي بفتح الفاء واوٍ خالصةٍ ، وتوجيهها : أنه أبدل الهمزة واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة ، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدل ، لأنَّها لغة في الفؤاد ، يقال : فؤاد وفآدٌ ، وأنكر أبو حاتمٍ هذه القراءة ، وهو معذور .
يقال : قَفَوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً ، إذا تتبَّعتَ أثره ، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية ؛ لأنَّ البيت يقفو البيت ، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة ؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان .
وقال تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } [ الحديد : 27 ] .
وسمِّي القفا قفاً ؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه ، كأنه شيء يتبعه ويقفوه .
فقوله : " ولا تَقْفُ " أي : لا تتَّبعْ ما لا علم لك به ، من قول أو فعلٍ ، فهو نهيٌ عن الحكم بما لا يكون معلوماً ، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع ، فقيل : المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم ؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى ، فقال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] .
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ } [ النجم : 23 ] .
وقال في إنكارهم البعث { بَلِ ادَّارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } [ النمل : 66 ] .
وحكى عنهم أنَّهم قالوا : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] .
وقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله } [ القصص : 50 ] .
وقال عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
وقال : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] .
وقال محمد ابن الحنفيَّة : المراد منه شهادة الزُّور{[20416]} .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك ، وسمعته أذناك ، ووعاهُ قلبك{[20417]} .
وقيل : المراد النَّهيُ عن القذف ، وقيل : المراد النهي عن الكذبِ .
قال قتادة : لا تقل : سمعت ، ولم تسمعْ ، ورأيتُ ، ولم تَرَ ، وعلمتُ ، ولم تعلمْ{[20418]} .
وقيل : القَفْوُ : هو البهت ، وأصله من القَفَا ؛ كأنه يقال : خلفه ، وهو في معنى الغيبة . واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ ، فلا معنى للتقييد .
احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية ، قالوا : القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ ، والظَّن مغاير للعلم ، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم ؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
الأول : أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ :
منها : العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ .
ومنها : العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ .
ومنها : الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ .
ومنها : قيم المتلفات ، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ .
ومنها : الفصدُ ، والحجامةُ ، وسائر المعالجات ؛ بناءً على الظنِّ .
ومنها : كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون .
ومنها : الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة ، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما .
ومنها : الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح ، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة ، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء ، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه- : " نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر " {[20419]}
وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع ، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ .
الثاني : أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم ؛ قال تعالى : { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } [ الممتحنة : 10 ] .
ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ ؛ بناء على إقرارهن ، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً .
الثالث : أنَّ الدليل القاطع ، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس ، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأمَّا الحكم ، فهو معلومٌ متيقَّن .
أجاب نفاةُ القياس عن الأول ؛ فقالوا :
قوله عزَّ وعلا : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة ، فيبقى العموم حجة فيما وراءها ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة ؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن ، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة ، وفي سائر الصور ؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، فلهذه الضرورة ؛ اكتفينا بالظنِّ ، أما الأحكام المثبتة ، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية ، وهي مضبوطة ، والتنصيص عليها ممكنٌ ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها ، وذكروها في كتبهم .
إذا عرف هذا ، فنقول : التنصيصُ على الأحكام في الصُّور العشر التي ذكرتموها غير ممكنٍ ، فلا جرم : اكتفى الشَّارع فيها بالظنِّ ، أما المسائلُ المثبتة بالطرق القياسيَّة فالتنصيصُ عليها ممكنٌ ، فلا يجوز الاكتفاءُ فيها بالظنِّ ، فظهر الفرقُ .
وقولهم : الظنَّ قد يسمَّى علماً ، فهذا باطلٌ ؛ فإنه يصحُّ أن يقال : هذا مظنونٌ ، وغير معلوم ، وهذا معلومٌ ، وغير مظنونٍ ، فدلَّ على حصول المغايرة ، فيدلُّ عليه قوله تعالى : { هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] نفى العلم ، وأثبت الظنَّ ، وذلك يدلُّ على المغايرة .
وأما قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] فالمؤمن هو المقر ، وذلك الإقرار معلوم .
وأمَّا الجوابُ عن الثالث ، فنقول : الكلام إنَّما يتمُّ لو ثبت أن القياس حجَّة بدليل قاطع ، وذلك باطل ؛ لأنَّ القياس وهو الذي يفيد الظنَّ لا يجب عقلاً أن يكون حجة ؛ لأنه لا نزاع أنَّه يصحُّ من الشَّرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياسِ ، ولو كان كونه حجَّة أمراً عقلياً ، لامتنع ذلك .
والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ الدليل النقليَّ في كون القياس حجَّة ، إنما يكون قطعيًّا ؛ إذ لو كان منقولاً نقلاً متواتراً ، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيَّة غير محتملة للتخصيص ، ولو حصل مثل هذا الدليل ، لوصل إلى الكلِّ ، ولعرفه الكلُّ ، ولارتفع الخلاف ، وحيث لم يكن كذلك ، علمنا أنَّه لم يحصل في هذه المسألة دليلٌ سمعيٌّ قاطعٌ ، فثبت أنَّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطعٌ ألبتة ، فبطل قولكم : كون الحكم المثبتِ بالقياس حجَّة{[20420]} معلومٌ لا مظنونٌ .
قال ابن الخطيب{[20421]} : وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال : التمسُّك بهذه الآية الَّتي عولتم عليها تمسُّك بعامٍّ مخصوص ، والتمسُّك بالعامِّ المخصوصِ لا يفيد إلاَّ الظنَّ ، فلو دلَّت هذه الآية على أنَّ التمسُّك بالظنِّ غير جائز ، لدلَّت على أن التمسُّك بهذه الآية غير جائز ، فالقول بكون هذه الآية حجَّة يفضي ثبوته إلى نفيه ، فكان تناقضاً{[20422]} ، فسقط الاستدلال به .
وللمجيب أن يجيب عنه ، فيقول : نعلم بالتواتر الظَّاهر من دين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنَّ التمسُّك بآياتِ القرآنِ حجَّة في الشريعة ، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامِّ المخصوص حجَّة غير معلومٍ بالتواتر .
قوله تعالى : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
قوله تعالى : " أولئك " إشارة إلى ما تقدَّم من السمع ، والبصر ، والفؤاد ؛ كقوله : [ الكامل ]
ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى *** والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ{[20423]}
ف " أولئكَ " يشارُ به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع ، واعتذر ابن عطيَّة عن الإشارة به لغير العقلاءِ ، فقال : وعبَّر عن السَّمعِ ، والبصرِ ، والفؤاد ب " أولئك " لأنها حواسٌّ لها إدراكٌ ، وجعلها في هذه الآية مسئولة ؛ فهي حالة من يعقل ؛ ولذلك عبَّر عنها بكناية من يعقل ، وقد قال سيبويه{[20424]} - رحمه الله - في قوله تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] إنما قال " رَأيْتهُم " في نجوم ؛ لأن لمَّا وصفها بالسجود - وهو فعلُ من يعقِلُ - عبَّر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّرُ عمَّن يعقلُ وعمَّن لا يعقل ب " أولئك " وأنشد هو والطبريُّ : [ الكامل ]
ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى *** والعَيْشَ بعْدَ أولئكَ الأيَّامِ{[20425]}
وأمَّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأمَّا البيت فالرواية فيه " الأقوامِ " ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت ، وأما قوله : " إنَّ الرواية : الأقوَامِ " فغير معروفةٍ والمعروفُ إنما هو " الأيَّامِ " .
قوله : " كُلُّ اولئِكَ " مبتدأ ، و الجملة من " كَانَ " خبره ، وفي اسم " كان " وجهان :
أحدهما : أنه ضمير عائد على " كلُّ " باعتبار لفظها ، وكذا الضمير في " عَنْهُ " و " عَنْهُ " متعلق ب " مَسْئُولاً " و " مَسْئولاً " خبرها .
والثاني : أنَّ اسمها ضمير يعود على القافي ، وفي " عَنْه " يعود على " كُلُّ " وهو من الالتفات ؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم ، لقيل : كُنْتَ عنه مسئولاً ، وقال الزمخشري : و " عَنْهُ " في موضع الرفعِ بالفاعلية ، أي : كل واحدٍ كان مَسْئولاً عنه ، فَمسئُول مسند إلى الجار والمجرور ؛ كالمغضوب في قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] انتهى . وفي تسميته مفعول ما لم يسمَّ فاعله فاعلاً خلاف الاصطلاح .
وقد ردَّ أبو حيَّان عليه قوله : بأنَّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه ، فلا يتقدَّم على رافعه كأصله ، وليس لقائلٍ أن يقول : يجوز على رأي الكوفيِّين ؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل ؛ لأن النحَّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل ، إذا كان جارًّا أو مجروراً ، فليس هو نظير قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنَّ العائد على " كُلُّ " أو على القافي .
ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ الجوارح مسئولةً ، وفيه وجوهٌ :
الأول : معناه أنَّ صاحب السَّمع ، والبصر ، والفؤاد هو المسئُول ؛ لأنَّ السؤال لا يصحُّ إلاَّ من العاقل ، وهذه الجوارح ليست كذلك ، بل العاقل الفاهم هو الإنسان ، فهو كقوله : { وَسْئَلِ القَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] والمراد أهلها ، والمعنى أن يقال للإنسان : لم سمعت ما لا يحلُّ سماعه ، ولم نظرت إلى ما لا يحلُّ لك نظره ، ولم عزمت على ما لا يحلُّ لك العزم عليه .
والثاني : أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع ، والبصر ، والفؤاد ، فيقال لهم : استعملتم السمع فيماذا ، أفي الطاعة ، أو في المعصية ؟ وكذلك القولُ في بقيَّة الأعضاء ، وذلك ؛ لأنَّ الحواسَّ آلاتُ النَّفس ، والنَّفسُ كالأمير لها ، والمستعمل لها في مصالحها ، فإن استعملها في الخيرات ، استوجب الثواب ، وإذا استعملها في المعاصي ، استحقَّ العقاب .
والثالث : أنه تعالى يخلقُ الحياة في الأعضاء ، ثمَّ إنها تسألُ ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل ، والحياة ، و النطق في هذه الأعضاء ، ثمَّ إنَّها تسأل .
رُوي عن شكل بن حميدٍ - رحمه الله - قال : " أتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسُول الله ، علِّمْنِي تعويذاً ، أتعوَّذ به ، فأخذ بيدي ، ثم قال : " قُل اللهُمَّ ؛ أعُوذُ بِكَ من شرِّ سمعي ، وشرِّ بصري ، وشرِّ لسَانِي ، وشرِّ قلبي ، وشرِّ مَنِيِّي " قال فحفظتها{[20426]} .