اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا} (38)

قرأ ابن عامر والكوفيُّون{[20430]} بضمِّ الهمزة والهاء ، والتذكير ، وتركِ التنوين ، والباقون بفتح الهمزة ، وتاءِ التأنيث منصوبة منونة ، فالقراءة الأولى أشير فيها بذلك إلى جميع ما تقدم ، ومنه السَّيئ والحسنُ ، فأضاف السيِّئ إلى ضمير ما تقدَّم ، ويؤيِّدها ما قرأ به عبد الله : " كلُّ ذلك كان سيِّئاتهُ " بالجمع ، مضافاً للضمير ، وقراءة أبيّ " خَبِيثهُ " والمعنى : كل ما تقدم ذكره ممَّا أمِرتُمْ به ونهيتم عنه كان سيِّئهُ - وهو ما نهيتم عنه خاصة - أمراً مكروهاً ، هذا أحسنُ ما يقدَّر في هذا المكانِ .

وأمَّا ما استشكله بعضهم من أنَّه يصير المعنى : كل ما ذكر كان سيئة ، ومن جملة كلِّ ما ذكر : المأمورُ به ، فيلزمُ أن يكون فيه سيِّئٌ ، فهو استشكالٌ واهٍ ؛ لما تقدم من تقرير معناه .

و " مَكْرُوهاً " خبر " كان " وحمل الكلامُ كله على لفظ " كلُّ " فلذلك ذكَّر الضمير في " سَيِّئهُ " والخبر ، وهو : مكروهٌ .

وأمَّا قراءة الباقين : فيحتمل أن تقع الإشارة فيها ب " ذلِكَ " إلى مصدري النَّهيينِ المتقدِّمين قريباً ، وهما :

قَفْوُ ما ليس به علمٌ ، والمشيُ في الأرض مرحاً .

والثاني : أنه أشير به إلى جميع ما تقدَّم من المناهي .

و " سيِّئةً " خبر " كان " وأنِّثَ ؛ حملاً على معنى " كلُّ " ثم قال " مَكْرُوهاً " حملاً على لفظها .

وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً ، وهو : أنَّ " السَّيِّئة في حكم الأسماءِ : بمنزلة الذَّنبِ والإثم ، زال عنه حكم الصفات ، فلا اعتبار بتأنيثه ، ولا فرق بين من قرأ " سيئة " ومن قرأ " سيِّئاً " ألا ترى أنَّك تقول : الزِّنى سيِّئةٌ ، كما تقول : السَّرقة سيِّئة ، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث " .

وفي نصب " مكروهاً " أربعة أوجهٍ :

أحدها : أنه خبر ثانٍ ل " كان " وتعدادُ خبرها جائز على الصَّحيح .

الثاني : أنه بدلٌ من " سَيِّئةٍ " وضعف هذا ؛ بأنَّ البدل بالمشتقِّ قليلٌ .

الثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في " عند ربِّك " لوقوعه صفة ل " سيئة " .

الرابع : أنه نعتٌ ل " سَيِّئةً " ، وإنما ذكر لأن " سيِّئةً " تأنيث موصوفه مجازي ؛ وقد ردَّ هذا ؛ بأن ذلك إنًَّما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازيِّ ، أمَّا إذا أسند إلى ضميره ، فلا ؛ نحو : " الشَّمسُ طَالعةٌ " لا يجوز : " طَالعٌ " إلا في ضرورةٍ كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقالهَا{[20431]}

وهذا عند غير ابن كيسان ، وأمَّا ابن كيسان فيجيز في الكلام : " الشَّمسُ طَلع ، وطَالعٌ " .

وقيل : إنما ذكَّر سيِّئةً وهي الذنب ، وهو مذكر [ لأن التقدير : كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك ]{[20432]} وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي كل ذلك كان مكروهاً سيئة .

فصل

وأمَّا قراءة عبد الله فهي ممَّا أخبر فيها عن الجمع إخبار الواحد ؛ لسدِّ الواحد مسدَّه ؛ كقوله :

فَإمَّا تَريْنِي ولِي لمَّةٌ *** فإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا{[20433]}

لو قال : فإنَّ الحدثان ، لصحَّ من حيثُ المعنى ، فعدل عنه ؛ ليصحَّ الوزنُ .

وقرأ عبد الله أيضاً " كَان سَيِّئاتٍ " بالجمع من غير إضافةٍ ، وهو خبر " كان " وهي تؤيِّد قراءة الحرميَّين ، وأبي عمرو .

فصل

قال القاضي{[20434]} - رحمه الله- : دلَّت هذه الآية على أنَّ هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى ، والمكروهُ لا يكون مراداً ، فهذه الأعمال غير مرادِ الله ، فبطل قول من يقول : كل ما دخل في الوجود ، فهو مراد الله تعالى ، وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى ، وجب ألاَّ تكون مخلوقة - لله تعالى- ؛ لأنَّها لو كانت مخلوقة لله تعالى ، لكانت مرادة ، لا يقال : المراد من كونها مكروهة : أنَّ الله تعالى نهى عنها .

وأيضاً : معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها ، وعلى هذا التقدير : فهذا لا يمنع أنَّ الله تعالى أراد وجودها ، لأنَّ الجواب أنه عدولٌ عن الظاهر .

وأيضاً : فكونها سيِّئة عند ربِّك يدلُّ على كونها منهيًّا عنها ، فلو حملت المكروه على النَّهي ، لزم التَّكرار .

والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ، ولا يليقُ بهذا الموضع أن يقال : إنه تعالى يكرهُ وقوعها .

وأجيب بأنَّ المراد من المكروه المنهيُّ عنه ، ولا بأس بالتَّكرير ، لأجل التأكيد .

فصل

قال القاضي{[20435]} دلَّت هذه الآية على أنه تعالى كما أنَّه موصوف بكونه مريداً ، فكذلك أيضاً موصوفٌ بكونه كارهاً .

وأجيب بأنَّ الكراهية في حقِّه تعالى محمولة إمَّا على النهي ، [ وإمَّا هي ]{[20436]} إرادة العدم .


[20430]:ينظر في قراءتها: السبعة 380، والنشر 2/307، والحجة 403، والتيسير 140، والإتحاف 2/197، والحجة للفارسي 5/102، والقرطبي 10/107، والكشاف 4/668، والبحر 6/35، والدر المصون 4/391 والوسيط 3/108.
[20431]:تقدم.
[20432]:زيادة من "الرازي" يستقيم بها النص.
[20433]:تقدم.
[20434]:ينظر: الفخر الرازي 20/170.
[20435]:ينظر: الفخر الرازي 20/170.
[20436]:في ب: أو على.