اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا} (47)

قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } الآية .

لما بيَّن خساسة الدُّنيا ، وشرف القيامة ، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ .

قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ } : " يَوْمَ " منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده ، تقديره : نقول لهم يوم نسيِّر الجبال : لقد جئتمونا ، وقيل : بإضمار " اذْكُرْ " وقيل : هو معطوف على " عِنْدَ ربِّكَ " فيكون معمولاً لقوله " خَيْرٌ " .

وقرأ ابن كثير{[21125]} ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمِّ التاء ، وفتح الياء مبنياً للمفعول ، " الجِبَالُ " بالرفع ؛ لقيامه مقام الفاعل ، وحذف الفاعل ؛ للعلم به ، وهو الله ، أو من يأمره من الملائكة ، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله { وَسُيِّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] ، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا { وَسُيِّرَتِ الجبال } فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول .

والباقون " نُسيِّرُ " بنون العظمة ، والياء مكسورة من " سَيَّرَ " بالتشديد ؛ " الجبالَ " بالنصب على المفعول به ، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } .

وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير ، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن ، ورواها محبوب عن أبي عمرو : [ " تسير " ] بفتح التاء من فوق ساكن الياء ، من سارت تسير ، و " الجِبَالُ " بالرفع على الفاعلية .

قوله : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } " بَارِزَةً " حالٌ ؛ إذ الرؤية بصرية ، وقرأ{[21126]} عيسى { وتُرَى الأرضُ } مبنيًّا للمفعول ، و " الأرضُ " قائمة مقام الفاعل .

قوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه ماضٍ ، يراد به المستقبل ، أي : ونحشرهم ، وكذلك { وَعُرِضُوا } [ الكهف : 48 ] و { وَوُضِعَ الكتاب } [ الكهف : 49 ] .

والثاني : أن تكون الواو للحالِ ، والجملة في محلِّ النصب ، أي : نفعل التسيير في حال حشرهم ؛ ليشاهدوا تلك الأهوال .

والثالث : قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ جيء ب " حَشرْنَاهُمْ " ماضياً بعد " نُسيِّرُ " و " ترى " ؟ قلت : للدلالة على أنَّ حشرهم قبل التسيير ، وقبل البروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام ؛ كأنَّه قيل : وحَشرنَاهُم قبل ذلكَ " .

فصل

قال أبو البقاء ، وأبو حيان : " والأولى أن تكون الواو للحال " فذكر نحواً ممَّا قدَّمته .

قوله : " فَلمْ نُغادِرْ " عطف على " حَشَرنَاهُمْ " فإنه ماضٍ معنى ، والمغادرة هنا : بمعنى " الغَدْر " وهو الترك ، أي : فلم نترك ، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة ، وسمي الغدر غدراً ؛ لأنَّ به ترك الوفاءُ ، وغدير الماء من ذلك ؛ لأنَّ السيل غادره ، أي : تركه ، فلم يجئه أو ترك فيه الماء ، ويجمع على " غدر " و " غُدرَان " كرغيف ورغفان ، واستغدر الغَديرُ : صار فيه الماء ، و الغديرة : الشَّعرُ الذي ترك حتى طال ، والجمع غدائرُ . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

غَدائِرُهُ مُسْتشْزِرَاتٌ إلى العُلا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[21127]}

وقرأ{[21128]} قتادة " فَلمْ تُغادِرْ " بالتاء من فوقُ ، والفاعل ضمير الأرض ، أو الغدرة المفهومة من السياق ، وأبان : " يُغادَرْ " مبنياً للمفعول ، " أحدٌ " بالرفع ، والضحاك : " نُغْدِرْ " بضم النون ، وسكون العين ، وكسر الدال ، من " أغْدرَ " بمعنى " غَدرَ " .

فصل في المراد بالتسيير

ليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ الأرض إلى أين تسير ، فيحتمل أن الله يسيِّرها إلى موضع يريده ، ولم يبيَّن ذلك الموضع لخلقه .

والحقُّ أنَّ المراد أنَّه يسيِّرها إلى العدم ؛ لقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 105-107 ] { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، أي : لم يبق عليها شيء من الجبال ، والعمران ، والشَّجر " بَارِزةً " ظاهرة ليس عليها ما يسترها ؛ كما قال : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] .

وقال عطاء : " بَارِزةً " أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، أي بارزة البطن والجوف ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الانشقاق : 4 ] { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] وقال : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] .

{ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي : وحشرناهم أي : وجمعناهم للحساب ، فلم نترك من الأوَّلين والآخرين أحداً ، إلاَّ وجمعناهم لذلك اليوم .


[21125]:ينظر في قراءتها: السبعة 393، والنشر 2/311، والتيسير 144، والإتحاف 2/216، والحجة للقراء السبعة 5/151، وإعراب القراءات السبع 1/397 والقرطبي 10/270، والبحر 6/127 ، والدر المصون 4/411.
[21126]:ينظر: الكشاف 2/726، والبحر 6/127، والدر المصون 4/426.
[21127]:صدر بيت وعجزه: تضل العقاص من مثنى ومرسل ينظر: ديوانه ص (17)، شرح القصائد العشر 93، التصريح 2/371، معاهد التنصيص 1/8، التهذيب واللسان "عقص"، الدر المصون 4/462.
[21128]:ينظر في قراءتها: الشواذ 80، والكشاف 2/726، والبحر 6/127 والدر المصون 4/462.