قرأ الجمهور :{ وَقَالُوا }بالواو عطفاً لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها ، وهو أحسن في الربط .
وقيل : هي معطوفة على قوله :{ وَسَعَى } فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة ، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله .
وقرأ ابن عامر - وكذلك هي في مصاحف " الشام " : " قَالُوا " من غير " واو " ، وكذلك يحتمل وجهين :
والثاني : حذف حرف العَطْف وهو مراد ، استغناءً عنه بربط الضَّمير بما قبل هذه الجملة ، و " اتَّخَذَ " يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع ، فيتعدّى لمفعول واحد ، وأن يكون بمعنى صَيَّر ، فيتعدّى لاثنين ، ويكون الأول هنا محذوفاً تقديره : وقالوا : اتخذ الله بعض الموجودات ولداً ، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مَفْعُول واحد : { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً } [ الأنبياء : 26 ] ، { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] . والوَلد فعل بمعنى مفعول كالقَبْض والنقص وهو غير مقيس والمصدر : الولادة والوليدية وهذا الثاني غريب .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : " سُبْحَان " منصوب على المصدر ، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا .
قوله تعالى : { بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .
" بَل " إضراب وانتقال ، و " لَهُ " خبر مقدم ، و " ما " مبتدأ مؤخر ، وأتى هنا ب " مَا " ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيراً في " مَا " و " مَنْ " ، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله " قَانِتُونَ " ، فجاء بصيغة السَّلامة المختصّة بالعقلاء .
قال الزمخشري فإن قلت : كيف جاء ب " مَا " التي لغير أولي العلم مع قوله : " قَانِتُونَ " .
قلت : هو كقوله : " سبحان ما سخركن لنا " وكأنه جاء ب " ما " دون " من " تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، وهذا جنوح منه إلى أن " ما " قد تقع على أولي العلم ، ولكن المشهور خلافه .
وأما قوله : " سُبْحان ما سَخَّرَكُنَّ لَنَا " فسبحان غير مضاف ، بل هو كقوله :
752- . . . *** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ . . . . . . . . . .
قوله تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مبتدأ وخبر ، و " كُلٌّ " مضافة إلى محذوف تقديراً ، أي : كلّ مَنْ في السموات والأرض .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً كذا قال أبو حيان رحمه الله تعالى . وهذا بعيد جداً ، لأن المجعول ولداً لم يَجْرِ له ذكر ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداًَ وغيره .
قوله : " لم يَجْرِ له ذكر " بل قد جرى ذكره فلا بُعْدَ فيه .
وجمع " قَانِتُونَ " حملاً على المعنى لما تقدم من أن " كُلاًّ " إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ ، [ ومراعاة المعنى ، وهو الأكثر نحوه :
{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ومن مراعاة ] اللَّفظ : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، وحسن الجمع هنا لِتَوَاخي رُؤُوس الآي .
والقُنُوت : أصله الدوام ، ويستعمل على أربعة أوجه : الطاعة والانقياد ، كقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } [ آل عمران : 43 ] وطول القيام ، كقوله عليه السلام لما سئل : أي الصَّلاة أفضل ؟ قال : طول القُنُوت وبمعنى السّكوت [ كقول زيد بن أرقم رضي الله عنه : كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ } فأمسكنا عن الكلام والدعاء ، ومنه القنوت .
قال ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : " قانتون " أي : أن كل من في السموات والأرض مطيعون .
وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين .
وقال السّدي رحمه الله تعالى : يطيعون يوم القيامة ، وأوردوا على هذا أيضاً بأن هذا صفة المتّكلين ] .
وقوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } يتناول مَنْ لا يكون مكلفاً ، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر :
الأول : بكونها شاهدةً على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصّنعة ، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية .
الثاني : كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء ، وهو قول أبي مسلم رحمه الله تعالى ، وعلى هذين الوجهين الآية عامة .
الثالث : أراد بما في السَّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزير ؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له .
قال ابن الخطيب : اعلم أن الظاهر من قوله : { وَقَالُواْ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } أن يكون راجعاً إلى قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ } [ البقرة : 114 ] وقد ذكرنا أن منهم من تأوّله على النصارى .
ومنهم من تأوّله على مشركي العرب .
ونحن قد تأولناه على اليهود ، وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى ؛ لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنَّصَارى قالوا : المسيح ابن الله ، ومشركو العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فلا جَرَمَ صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها نزلت في كعب بن الأشرف ، وكعب بن الأسد ، ووهب بن يهوذا ؛ فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله [ سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً .
وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : " كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أََقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أنْ أَتْخِذَ صَاحِبَةً أوْ وَلَداً " .
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : احتج على التنزيه بقوله تعالى : { بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ووجه الاستدلال من وجوه :
الأول : أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته محدث ، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود ، والمخلوق لا يكون ولداً [ لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم ، ووجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه ، فثبت أن ما سواه فهو عبده ، وملكه ، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولداً له ، كلّ هذا مستفاد من قوله : { بل له ما في السموات والأرض } أي : له كلّ ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع ] .
والثاني : أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده ، إما أن يكون قديماً أزليًّا أو محدثاً ، فإن كان أزليًّا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس ، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرّداً من غير دليل ، وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له .
والثالث : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد ، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه ، وممتازاً عنه من وجه آخر ، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك مُحَال ، فإذن المجانسة ممتنعةٌ ، فالولدية ممتنعة .
الرابع : أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عَجْزِ الأب عن أمور نفسه ، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفَقْر والعجز والحاجة ، فإذا كان كل ذلك محال ، كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً . [ يحكى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله عز وجل لصرت على دينه فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى عليه الصلاة والسلام مع جده في طاعة الله تعالى ؟ فقال علي رضي الله عنه : فإن كان عيسى إلهاً فكيف يعبد غيره ، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة ، فانقطع النصراني ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.